مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
القراءة في الصلاة بغير العربية

يختلف العلماء في القراءة في الصلاة بغير العربية إلى مذهبين :

أحدهما : الجواز مطلقا أو عند العجز عن النطق بالعربية .

وثانيهما : أن ذلك محظور ، والصلاة بهذه القراءة غير صحيحة .

والمذهب الأول هو مذهب الأحناف ، فإنه يروى عن أبي حنيفة أنه كان يرى جواز القراءة في الصلاة باللغة الفارسية ، وبنى على هذا بعض أصحابه جوازها بالتركية والهندية وغيرها من الألسنة ، ولعلهم يرون في ذلك أن القرآن اسم للمعاني التي تدل عليها الألفاظ العربية . والمعاني لا تختلف باختلاف ما قد يتعاقب عليها من الألفاظ واللغات .

[ ص: 312 ] وقيد الصاحبان : أبو يوسف ومحمد بن الحسن . هذا بما تدعو إليه الضرورة . فأجازا للعاجز عن العربية القراءة في الصلاة باللسان الأعجمي دون القادر على القراءة بها ، قال في " معراج الدراية " : " إنما جوزنا القراءة بترجمة القرآن للعاجز إذا لم يخل بالمعنى ; لأنه قرآن من وجه باعتبار اشتماله على المعنى ، فالإتيان به أولى من الترك مطلقا ، إذ التكليف بحسب الوسع " .

ويروى أن أبا حنيفة رجع عن الإطلاق الذي نقل عنه .

والمذهب الثاني هو ما عليه الجمهور ، فقد منع المالكية والشافعية والحنابلة القراءة بترجمة القرآن في الصلاة ، سواء أكان المصلي قادرا على العربية أم عاجزا ; لأن ترجمة القرآن ليست قرآنا ، إذ القرآن هو النظم المعجز الذي هو كلام الله ، والذي وصفه تعالى بكونه عربيا ، وبالترجمة يزول الإعجاز ، وليست الترجمة كلام الله .

قال القاضي أبو بكر بن العربي -وهو من فقهاء المالكية- في تفسير قوله تعالى : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي . قال علماؤنا : هذا يبطل قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ، إن ترجمة القرآن بإبدال اللغة العربية منه بالفارسية جائز ; لأن الله تعالى قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ؟ نفى أن يكون للعجمة إليه طريق - فكيف يصرف إلى ما نفى الله عنه ؟ ثم قال : إن التبيان والإعجاز إنما يكون بلغة العرب ، فلو قلب إلى غير هذا لما كان قرآنا ولا بيانا ولا اقتضى إعجازا " .

وقال الحافظ ابن حجر -وهو من فقهاء الشافعية- في " فتح الباري " : " إن كان القارئ قادرا على تلاوته باللسان العربي فلا يجوز له العدول عنه ، ولا تجزئ صلاته -أي بقراءة ترجمته- وإن كان عاجزا " ثم ذكر أن الشارع قد جعل للعاجز عن القراءة بالعربية بدلا وهو الذكر .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو من فقهاء الحنابلة- وإن كانت له اجتهاداته - : " وأما الإتيان بلفظ يبين المعنى كبيان لفظ القرآن فهذا غير ممكن أصلا ، ولهذا [ ص: 313 ] كان أئمة الدين على أنه لا يجوز أن يقرأ بغير العربية ، لا مع القدرة عليها ولا مع العجز عنها ; لأن ذلك يخرجه عن أن يكون هو القرآن المنزل “ .

ويقول ابن تيمية في كتاب " اقتضاء الصراط المستقيم " عند الحديث عن اختلاف الفقهاء في أذكار الصلاة ، أتقال بغير العربية أم لا ؟ : " فأما القرآن فلا يقرؤه بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور ، وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ، بل قد قال غير واحد أنه يمتنع أن يترجم سورة أو مما يقوم به الإعجاز " وقد خص السورة أو ما يقوم به الإعجاز إشارة إلى أقل ما وقع به التحدي .

والدين يوجب على معتنقيه تعلم العربية ; لأنها لغة القرآن ومفتاح فهمه . قال ابن تيمية كذلك في " الاقتضاء " : " وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين - ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " .

أما اختلاف الأحناف في جواز الصلاة بترجمة القرآن ، فالمجيزون يرون إباحة هذا عند العجز على أنه رخصة ، وهم متفقون على أن الترجمة لا تسمى قرآنا ، فهي لمجرد الإجزاء في الصلاة ، ومثلها مثل ذكر الله عند غير الحنفية .

والذكر في الصلاة مختلف فيه ، سواء أكان واجبا كتكبيرة الإحرام أم غير واجب ؟ فقد منع ترجمة الأذكار الواجبة مالك وإسحاق وأحمد في أصح الروايتين . وأباحها أبو يوسف ومحمد والشافعي ، وسائر الأذكار لا تترجم عند مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي ، ومتى فصل بالترجمة بطلت صلاته " ونص الشافعي على الكراهة وهو قول أصحاب أحمد إذا لم يحسن العربية .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية