مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
[ ص: 332 ] التفسير في عصور التدوين

بدأ التدوين في أواخر عهد بني أمية ، وأوائل عهد العباسيين ، وحظي الحديث بالنصيب الأول في ذلك ، وشمل تدوين الحديث أبوابا متنوعة ، وكان التفسير بابا من هذه الأبواب ، فلم يفرد له تأليف خاص يفسر القرآن سورة سورة ، وآية آية ، من مبدئه إلى منتهاه .

واشتدت عناية جماعة برواية التفسير المنسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أو إلى الصحابة ، أو إلى التابعين ، مع عنايتهم بجمع الحديث . وفي مقدمة هؤلاء : يزيد بن هارون السلمي المتوفى سنة 117 هجرية ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هجرية ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هجرية ، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198 هجرية ، وروح بن عبادة البصري المتوفى سنة 205 هجرية ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى سنة 211 هجرية ، وآدم بن أبي إياس المتوفى سنة 220 هجرية ، وعبد بن حميد المتوفى سنة 249 هجرية .

ولم يصل إلينا من تفاسيرهم شيء ، وإنما روي ما نقل مسندا إليهم في كتب التفسير بالمأثور .

جاء بعد هؤلاء من أفرد التفسير بالتأليف وجعله علما قائما بنفسه منفصلا عن الحديث . ففسر القرآن حسب ترتيب المصحف ، وذلك كابن ماجه المتوفى سنة 273 هجرية ، وابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية ، وأبي بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هجرية . وابن أبي حاتم المتوفى سنة 327 هجرية ، وأبي الشيخ بن حبان المتوفى سنة 369 هجرية ، والحاكم المتوفى سنة 405 هجرية ، وأبي بكر بن مردويه المتوفى سنة 410 هجرية .

وتفاسير هؤلاء مروية بالإسناد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإلى الصحابة والتابعين ، وأتباع التابعين مع الترجيح أحيانا فيما يروى من آراء ، واستنباط بعض الأحكام ، والإعراب عند الحاجة ، كما فعل ابن جرير الطبري .

ثم جاء على أثر هؤلاء جماعة من المفسرين لم يتجاوزوا حدود التفسير بالمأثور ، [ ص: 333 ] ولكنهم اختصروا الأسانيد ، وجمعوا شتات الأقوال دون أن ينسبوها إلى قائليها ، وبهذا التبس الأمر ، ولم يتميز الصحيح من السقيم .

اتسعت العلوم ، وتم تدوينها ، وتشعبت فروعها ، وكثر الاختلاف ، وأثيرت مسائل الكلام ، وظهر التعصب المذهبي ، واختلطت علوم الفلسفة العقلية بالعلوم النقلية ، وحرصت الفرق الإسلامية على دعم مذهبها فأصاب التفسير من هذا الجو غباره ، وأصبح المفسرون يعتمدون في تفسيرهم على الفهم الشخصي ، ، ويتجهون اتجاهات متعددة ، وتحكمت فيهم الاصطلاحات العلمية ، والعقائد المذهبية ، والثقافة الفلسفية ، واهتم كل واحد من المفسرين بحشوه بما برز فيه من العلوم الأخرى ، فصاحب العلوم العقلية يعنى في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة كفخر الدين الرازي . وصاحب الفقه يعنى بالفروع الفقهية كالجصاص والقرطبي ، وصاحب التاريخ يعنى بالقصص والأخبار كالثعلبي والخازن ، وصاحب البدعة يؤول كلام الله على مذهبه الفاسد ، كالرماني والجبائي ، والقاضي عبد الجبار والزمخشري من المعتزلة وملا محسن الكاشي من الإمامية الاثني عشرية . وصاحب التصوف يستخرج المعاني الإشارية كابن عربي .

هذا مع علوم النحو والصرف والبلاغة ، وهكذا أصبحت كتب التفسير تحمل في طياتها الغث والثمين ، والنافع والضار ، والصالح والفاسد . وحمل كل مفسر آيات القرآن ما لا تتحمله ، انتصارا لمذهبه ، وردا على خصومه ، وفقد التفسير وظيفته الأساسية في الهداية والإرشاد ومعرفة أحكام الدين .

وبذلك طغى التفسير بالرأي على التفسير بالأثر ، وتدرج التفسير في العصور المتتابعة على هذا النمط ، بنقل المتأخر عن المتقدم ، مع الاختصار تارة ، والتعليق أخرى ، حتى ظهرت أنماط جديدة في التفسير المعاصر ، حيث عني بعض المفسرين بحاجات العصر ، وتناولوا في تفسيرهم الكشف عما تضمنه القرآن الكريم من أسس الحياة الاجتماعية ، ومبادئ التشريع ، ونظريات العلوم ، كتفسير الجواهر ، وتفسير المنار ، والظلال .

التالي السابق


الخدمات العلمية