مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
[ ص: 61 ] - 5 - معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل

التعبير عن تلقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للقرآن بنزوله عليه يشعر بقوة يلمسها المرء في تصور كل هبوط من أعلى . ذلك لعلو منزلة القرآن وعظمة تعاليمه التي حولت مجرى حياة البشرية وأحدثت فيها تغيرا ربط السماء بالأرض ، ووصل الدنيا بالآخرة ، ومعرفة تاريخ التشريع الإسلامي في مصدره الأول والأصيل -وهو القرآن- تعطي الدارس صورة عن التدرج في الأحكام ومناسبة كل حكم للحالة التي نزل فيها دون تعارض بين السابق واللاحق ، وقد تناول هذا أول ما نزل من القرآن على الإطلاق وآخر ما نزل على الإطلاق ، كما تناول أول ما نزل وآخر ما نزل في كل تشريع من تعاليم الإسلام ، كالأطعمة ، والأشربة ، والقتال . . . ونحو ذلك .

وللعلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق ، وآخر ما نزل كذلك أقوال ، نجملها ونرجح بينها فيما يأتي :

أول ما نزل

1- أصح الأقوال أن أول ما نزل هو قوله تعالى : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ، ويدل عليه ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فتزوده لمثلها حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقلت : " ما أنا بقارئ " ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني [ ص: 62 ] الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : " ما أنا بقارئ " ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : " ما أنا بقارئ " ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . حتى بلغ : ما لم يعلم ، فرجع بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ترجف بوادره " . الحديث .

2- وقيل إن أول ما نزل هو قوله تعالى : يا أيها المدثر . . لما رواه الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت جابر بن عبد الله : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : يا أيها المدثر ، قلت : أو اقرأ باسم ربك ؟ قال : أحدثكم ما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي ، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وشمالي . ثم نظرت إلى السماء فإذا هو -يعني جبريل- فأخذتني رجفة . فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني " ، فأنزل الله : يا أيها المدثر قم فأنذر .

وأجيب عن حديث جابر بأن السؤال كان عن نزول سورة كاملة ، فبين جابر أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل نزول تمام سورة اقرأ ، فإن أول ما نزل منها صدرها ، ويؤيد هذا ما في الصحيحين أيضا عن أبي سلمة عن جابر قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : " بينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرجعت ، فقلت : زملوني ، فدثروني " ، فأنزل الله : يا أيها المدثر . فهذا الحديث يدل على أن هذه القصة متأخرة عن قصة حراء -أو تكون " المدثر " أول سورة نزلت بعد فترة الوحي- وقد استخرج جابر ذلك باجتهاده فتقدم عليه رواية عائشة ، ويكون أول ما نزل من القرآن على الإطلاق :

[ ص: 63 ] اقرأ وأول سورة نزلت كاملة ، أو أول ما نزل بعد فترة الوحي : يا أيها المدثر . . أو أول ما نزل للرسالة : يا أيها المدثر . . وللنبوة اقرأ .

3- وقيل إن أول ما نزل هو سورة " الفاتحة " ولعل المراد أول سورة كاملة .

4- وقيل : بسم الله الرحمن الرحيم والبسملة تنزل صدرا لكل سورة . ودليل هذين أحاديث مرسلة ، والقول الأول المؤيد بحديث عائشة هو القوي الراجح المشهور .

وقد ذكر الزركشي في " البرهان " حديث عائشة الذي نص على أن أول ما نزل : اقرأ باسم ربك الذي خلق وحديث جابر الذي نص على أن أول ما نزل : يا أيها المدثر ، قم فأنذر ثم قال : " وجمع بعضهم بينهما بأن جابرا سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يذكر قصة بدء الوحي ، فسمع آخرها ، ولم يسمع أولها ، فتوهم أنها أول ما نزلت ، وليس كذلك ، نعم هي أول ما نزل بعد سورة اقرأ وفترة الوحي ، لما ثبت في الصحيحين أيضا عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحدث عن فترة الوحي ، قال في حديثه : " بينما أنا أمشي ، سمعت صوتا من السماء ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه فرقا ، فرجعت فقلت : زملوني زملوني " ، فأنزل الله تبارك وتعالى : يا أيها المدثر قم فأنذر .

فقد أخبر في هذا الحديث عن الملك الذي جاءه بحراء قبل هذه المرة ، وأخبر في حديث عائشة أن نزول اقرأ كان في غار حراء ، وهو أول وحي ، ثم فتر بعد ذلك ، وأخبر في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول يا أيها المدثر فعلم بذلك أن اقرأ أول ما نزل مطلقا ، وأن سورة المدثر بعده " . وكذلك قال ابن حبان في صحيحه : لا تضاد بين الحديثين ، بل أول ما نزل : اقرأ باسم ربك الذي خلق بغار حراء ، فلما رجع إلى خديجة -رضي الله عنها- وصبت عليه [ ص: 64 ] الماء البارد ، أنزل الله عليه في بيت خديجة : يا أيها المدثر . . فظهر أنه لما نزل عليه اقرأ رجع فتدثر ، فأنزل عليه : يا أيها المدثر . .

وقيل : أول ما نزل سورة الفاتحة ، روي ذلك من طريق أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سمع الصوت انطلق هاربا ، وذكر نزول الملك عليه وقوله : قل الحمد لله رب العالمين . . . إلى آخرها .

وقال القاضي أبو بكر في " الانتصار " : وهذا الخبر منقطع ، وأثبت الأقاويل : اقرأ باسم ربك ويليه في القوة : يا أيها المدثر . . وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات : اقرأ باسم ربك وأول ما نزل من أوامر التبليغ : يا أيها المدثر . . وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة ، وهذا كما ورد في الحديث : " أول ما يحاسب به العبد الصلاة “ ، و " أول ما يقضى فيه الدماء “ ، وجمع بينهما بأن أول ما يحكم فيه من المظالم التي بين العباد الدماء . وأول ما يحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة .

وقيل : أول ما نزل للرسالة : يا أيها المدثر . . وللنبوة : اقرأ باسم ربك فإن العلماء قالوا : قوله تعالى : اقرأ باسم ربك دال على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لأن النبوة عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف خاص ، وقوله : يا أيها المدثر قم فأنذر دليل على رسالته -صلى الله عليه وسلم- لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف عام “ .

آخر ما نزل

1- قيل : آخر ما نزل آية الربا ، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال :

"

التالي السابق


الخدمات العلمية