مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
[ ص: 95 ] - 7 - نزول القرآن

أنزل الله القرآن على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- لهداية البشرية ، فكان نزوله حدثا جللا يؤذن بمكانته لدى أهل السماء وأهل الأرض ، فإنزاله الأول في ليلة القدر أشعر العالم العلوي من ملائكة الله بشرف الأمة المحمدية التي أكرمها الله بهذه الرسالة الجديدة لتكون خير أمة أخرجت للناس ، وتنزيله الثاني مفرقا على خلاف المعهود في إنزال الكتب السماوية قبله أثار الدهشة التي حملت القوم على المماراة فيه ، حتى أسفر لهم صبح الحقيقة فيما وراء ذلك من أسرار الحكمة الإلهية ، فلم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليتلقى الرسالة العظمى جملة واحدة ويقنع بها القوم مع ما هم عليه من صلف وعناد ، فكان الوحي يتنزل عليه تباعا تثبيتا لقلبه ، وتسلية له ، وتدرجا مع الأحداث والوقائع حتى أكمل الله الدين ، وأتم النعمة .

نزول القرآن جملة

يقول الله تعالى في كتابه العزيز : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .

ويقول : إنا أنزلناه في ليلة القدر .

ويقول : إنا أنزلناه في ليلة مباركة .

ولا تعارض بين هذه الآيات الثلاث ، فالليلة المباركة هي ليلة القدر من شهر رمضان ، إنما يتعارض ظاهرها مع الواقع العملي في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث نزل القرآن عليه في ثلاث وعشرين سنة . . وللعلماء في هذا مذهبان أساسيان :

[ ص: 96 ] 1- المذهب الأول : وهو الذي قال به ابن عباس وجماعة وعليه جمهور العلماء : أن المراد بنزول القرآن في تلك الآيات الثلاث نزوله جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا تعظيما لشأنه عند ملائكته ، ثم نزل بعد ذلك منجما على رسولنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث منذ بعثته إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه ، حيث أقام في مكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة بعد الهجرة عشر سنوات : فعن ابن عباس قال : " بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين “ .

وهذا المذهب هو الذي جاءت به الأخبار الصحيحة عن ابن عباس في عدة روايات :

أ- عن ابن عباس قال : " أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر . ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ، ثم قرأ : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . . وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا . .

ب- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم “ .

جـ- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ، وكان بمواقع النجوم ، وكان الله ينزله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بعضه في إثر بعض “ .

[ ص: 97 ] --------

د- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال : " أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم أنزل نجوما “ .

2- المذهب الثاني : وهو الذي روي عن الشعبي : أن المراد بنزول القرآن في الآيات الثلاث ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد ابتدأ نزوله في ليلة القدر في شهر رمضان ، وهي الليلة المباركة ، ثم تتابع نزوله بعد ذلك متدرجا مع الوقائع والأحداث في قرابة ثلاث وعشرين سنة ، فليس للقرآن سوى نزول واحد هو نزوله منجما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن هذا هو الذي جاء به القرآن : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ، وجادل فيه المشركون الذين نقل إليهم نزول الكتب السماوية السابقة جملة واحدة : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا . ولا يظهر للبشر مزية لشهر رمضان وليلة القدر التي هي الليلة المباركة إلا إذا كان المراد بالآيات الثلاث نزول القرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يوافق ما جاء في قوله تعالى بغزوة بدر : وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير . وقد كانت غزوة بدر في رمضان . ويؤيد هذا ما عليه المحققون في حديث بدء الوحي ، عن عائشة قالت : " أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة -رضي الله عنها- فتزوده لمثلها ، حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فقلت : ما أنا بقارئ [ ص: 98 ] فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني " فقال : اقرأ ، فقلت : " ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني " فقال : اقرأ ، فقلت : " ما أنا بقارئ ، فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق . . حتى بلغ : ما لم يعلم . فإن المحققين من الشراح على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نبئ أولا بالرؤيا في شهر مولده شهر ربيع الأول ، ثم كانت مدتها ستة أشهر ، ثم أوحي إليه يقظة في شهر رمضان بـ " اقرأ " وبهذا تتآزر النصوص على معنى واحد .

3- وهناك مذهب ثالث : يرى أن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في ثلاث وعشرين ليلة قدر في كل ليلة منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة ، وهذا القدر الذي ينزل في ليلة القدر إلى السماء الدنيا لسنة كاملة ينزل بعد ذلك منجما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جميع السنة .

وهذا المذهب اجتهاد من بعض المفسرين ، ولا دليل عليه .

أما المذهب الثاني الذي روي عن الشعبي فأدلته -مع صحتها والتسليم بها- لا تتعارض مع المذهب الأول الذي روي عن ابن عباس . فيكون نزول القرآن جملة وابتداء نزوله مفرقا في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهي الليلة المباركة .

فالراجح أن القرآن الكريم له تنزلان :

الأول : نزوله جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا .

والثاني : نزوله من السماء الدنيا إلى الأرض مفرقا في ثلاث وعشرين سنة .

وقد نقل القرطبي عن مقاتل بن حيان حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا . ونفى ابن عباس التعارض بين الآيات الثلاث في نزول القرآن والواقع العملي في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنزول القرآن في ثلاث وعشرين سنة بغير شهر رمضان : عن ابن عباس :

" أنه سأله [ ص: 99 ] عطية بن الأسود فقال : أوقع في قلبي الشك قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، وقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وهذا أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع ، فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام “ .

وأشار بعض العلماء إلى حكمة ذلك في تعظيم شأن القرآن ، وتشريف المنزل عليه ، قال السيوطي : " قيل : السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من نزل عليه ، وذلك بإعلام سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لينزله عليهم . ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله ، ولكن الله باين بينه وبينها ، فجعل له الأمرين : إنزاله جملة ، ثم إنزاله مفرقا ، تشريفا للمنزل عليه " . وقال السخاوي في جمال القراء : " في نزوله إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنه عند الملائكة وتعريفهم عناية الله بهم ، ورحمته لهم ، ولهذا المعنى أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام ، وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام ، وإنساخهم إياه ، وتلاوتهم له “ .

4- ومن العلماء من يرى أن القرآن نزل أولا جملة إلى اللوح المحفوظ مستدلا [ ص: 100 ] بقوله تعالى : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ . . ثم نزل من اللوح المحفوظ جملة كذلك إلى بيت العزة ، ثم نزل مفرقا ، فهذه تنزلات ثلاثة .

وهذا لا يتعارض مع ما سبق أن رجحناه ، فالقرآن الكريم مثبت في اللوح المحفوظ شأن سائر المغيبات المثبتة فيه ، والقرآن الكريم نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا -كما روي عن ابن عباس- في ليلة القدر ، والقرآن الكريم بدأ نزوله منجما -كما يرى الشعبي- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة المباركة ليلة القدر من شهر رمضان ، إذ لا مانع يمنع من نزوله جملة ، ومن ابتداء نزوله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مفرقا في ليلة واحدة ، وبهذا ينتفي التعارض بين الأقوال كلها إذا استثنينا المذهب الاجتهادي الثالث الذي لا دليل له . . "

التالي السابق


الخدمات العلمية