مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
نزول القرآن منجما

يقول تعالى في التنزيل : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .

ويقول : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .

ويقول : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم .

ويقول : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله .

ويقول : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين .

فهذه الآيات ناطقة بأن القرآن الكريم كلام الله بألفاظه العربية ، وأن جبريل نزل به [ ص: 101 ] على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن هذا النزول غير النزول الأول إلى سماء الدنيا ، فالمراد به نزوله منجما ، ويدل التعبير بلفظ التنزيل دون الإنزال على أن المقصود النزول على سبيل التدرج والتنجيم ، فإن علماء اللغة يفرقون بين الإنزال والتنزيل ، فالتنزيل لما نزل مفرقا ، والإنزال أعم.

وقد نزل القرآن منجما في ثلاث وعشرين سنة منها ثلاث عشرة بمكة على الرأي الراجح ، وعشر بالمدينة ، وجاء التصريح بنزوله مفرقا في قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ، أي جعلنا نزوله مفرقا كي تقرأه على الناس على مهل وتثبت ، ونزلناه تنزيلا بحسب الوقائع والأحداث .

أما الكتب السماوية الأخرى -كالتوراة والإنجيل والزبور- فكان نزولها جملة ، ولم تنزل مفرقة ، يدل على هذا قوله تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ، فهذه الآية دليل على أن الكتب السماوية السابقة نزلت جملة ، وهو ما عليه جمهور العلماء ، ولو كان نزولها مفرقا لما كان هناك ما يدعو الكفار إلى التعجب من نزول القرآن منجما ، فمعنى قولهم : لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة : هلا أنزل عليه القرآن دفعة واحدة كسائر الكتب ؟ وما له أنزل على التنجيم ؟ ولم أنزل مفرقا ؟ ولم يرد الله عليهم بأن هذه سنته في إنزال الكتب السماوية كلها كما رد عليهم في قولهم : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، بقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، وكما رد عليهم في قولهم : أبعث الله بشرا رسولا ، بقوله : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ، وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، بل أجابهم الله تعالى ببيان وجه الحكمة في تنزيل القرآن منجما بقوله :

[ ص: 102 ] كذلك لنثبت به فؤادك أي كذلك أنزل مفرقا لحكمة هي : تقوية قلب رسول الله ورتلناه ترتيلا أي قدرناه آية بعد آية بعضه إثر بعض ، أو بيناه تبيينا ، فإن إنزاله مفرقا حسب الحوادث أقرب إلى الحفظ والفهم وذلك من أعظم أسباب التثبيت .

والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة ، وصح نزول عشر آيات في أول المؤمنين جملة ، وصح نزول : غير أولي الضرر وحدها وهي بعض آية “ . .

التالي السابق


الخدمات العلمية