مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
الرسم العثماني :

سبق الحديث عن جمع القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- وقد اتبع زيد بن ثابت والثلاثة القرشيون معه طريقة خاصة في الكتابة ارتضاها لهم عثمان ، ويسمي العلماء هذه الطريقة " بالرسم العثماني للمصحف " نسبة إليه ، واختلف العلماء في حكمه .

1- فذهب بعضهم إلى أن هذا الرسم العثماني للقرآن توقيفي يجب الأخذ به في كتابة القرآن ، وبالغوا في تقديسه ، ونسبوا التوقيف فيه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا أنه قال لمعاوية ، أحد كتبة الوحي : " ألق الدواة ، وحرف القلم ، وانصب الياء ، وفرق السين ، ولا تعور الميم ، وحسن الله ، ومد الرحمن ، وجود الرحيم ، وضع قلمك على أذنك اليسرى ، فإنه أذكر لك " ونقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ أنه قال له : " ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة ، وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول ، وهو سر من الأسرار خص [ ص: 140 ] الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية . وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضا معجز " .

والتمسوا لذلك الرسم أسرارا تجعل للرسم العثماني دلالة على معان خفية دقيقة ، كزيادة " الياء " في كتابة كلمة " أيد " من قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد ، إذ كتبت هكذا " بأييد " وذلك للإيماء إلى تعظيم قوة الله التي بنى بها السماء . وأنها لا تشبهها قوة على حد القاعدة المشهورة ، وهي : زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى .

وهذا الرأي لم يرد فيه شيء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يكون الرسم توقيفيا ، وإنما اصطلح الكتبة على هذا الرسم في زمن عثمان برضا منه ، وجعل لهم ضابطا لذلك بقوله للرهط القرشيين الثلاثة : " إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه إنما نزل بلسانهم " وحين اختلفوا في كتابة " التابوت " فقال زيد : " التابوه " وقال النفر القرشيون : " التابوت " وترافعوا إلى عثمان قال : " اكتبوا " التابوت " فإنما أنزل القرآن على لسان قريش " .

2- وذهب كثير من العلماء إلى أن الرسم العثماني ليس توقيفيا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنه اصطلاح ارتضاه عثمان ، وتلقته الأمة بالقبول ، فيجب التزامه والأخذ به ، ولا تجوز مخالفته . قال أشهب : " سئل مالك : هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء ؟ قال : لا ، إلا على الكتبة الأولى " رواه أبو عمرو الداني في " المقنع " ثم قال : " ولا مخالف له من علماء الأمة " ، وقال في موضع آخر : سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف ، أترى أن تغير من المصحف إذا وجدا فيه كذلك قال : لا ، قال أبو عمرو : يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو " أولوا " وقال الإمام أحمد : " تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك “ . !

[ ص: 141 ] 3- وذهب جماعة إلى أن الرسم العثماني اصطلاحي ، ولا مانع من مخالفته! إذا اصطلح الناس على رسم خاص للإملاء وأصبح شائعا بينهم . قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه " الانتصار " : " وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئا . أو لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسما بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه ، إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتوقيف ، وليس في نصوص الكتاب ولا مفهومه أن رسم القرآن وضبطه لا يجوز إلا على وجه مخصوص وحد محدود لا يجوز تجاوزه ، ولا في نص السنة ما يوجب ذلك ويدل عليه ، ولا في إجماع الأمة ما يوجب ذلك ، ولا دلت عليه القياسات الشرعية ، بل السنة دلت على جواز رسمه بأي وجه سهل ، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجها معينا ولا نهى أحدا عن كتابته . ولذلك اختلفت خطوط المصاحف ، فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح ، وأن الناس لا يخفى عليهم الحال ، ولأجل هذا بعينه جاز أن يكتب بالحروف الكوفية والخط الأول ، وأن يجعل الكلام على صورة الكاف ، وأن تعوج الألفات ، وأن يكتب على غير هذه الوجوه ، وجاز أن يكتب المصحف بالخط والهجاء القديمين ، وجاز أن يكتب بالخطوط والهجاء المحدثة ، وجاز أن يكتب بين ذلك ، وإذا كانت خطوط المصحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة ، وكان الناس قد أجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته ، وما هو أسهل وأشهر وأولى . من غير تأثيم ولا تناكر ، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص ، كما أخذ عليهم في القراءة ، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز . فكل رسم دال على الكلمة مقيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أية صورة كانت . . وبالجملة فكل من ادعى أنه يجب على الناس رسم مخصوص وجب عليه أن يقيم الحجة على دعواه ، وأنى له ذلك " .

وانطلاقا من هذا الرأي يدعو بعض الناس اليوم إلى كتابة القرآن الكريم وفق القواعد الإملائية الشائعة المصطلح عليها ، حتى تسهل قراءته على القارئين من [ ص: 142 ] الطلاب والدارسين ، ولا يشعر الطالب في أثناء قراءته للقرآن باختلاف رسمه عن الرسم الإملائي الاصطلاحي الذي يدرسه .

والذي أراه أن الرأي الثاني هو الرأي الراجح ، وأنه يجب كتابة القرآن بالرسم العثماني المعهود في المصحف .

فهو الرسم الاصطلاحي الذي توارثته الأمة منذ عهد عثمان -رضي الله عنه- والحفاظ عليه ضمان قوي لصيانة القرآن من التغيير والتبديل في حروفه ، ولو أبيحت كتابته بالاصطلاح الإملائي لكل عصر لأدى هذا إلى تغيير خط المصحف من عصر لآخر ، بل إن قواعد الإملاء نفسها تختلف فيها وجهات النظر في العصر الواحد ، وتتفاوت في بعض الكلمات من بلد لآخر .

واختلاف الخطوط الذي يذكره القاضي أبو بكر الباقلاني شيء والرسم الإملائي شيء آخر ، فاختلاف الخط تغير في صورة الحرف لا في رسم الكلمة .

وحجة تيسير القراءة على الطلاب والدارسين بانتفاء التعارض بين رسم القرآن والرسم الإملائي الاصطلاحي لا تكون مبررا للتغيير الذي يؤدي إلى التهاون في تحري الدقة بكتابة القرآن .

والذي يعتاد القراءة في المصحف يألف ذلك ويفهم الفوارق الإملائية بالإشارات الموضوعة على الكلمات ، والذين يمارسون هذا في الحياة التعليمية أو مع أبنائهم يدركون أن الصعوبة التي توجد في القراءة بالمصحف أول الأمر تتحول بالمران بعد فترة قصيرة إلى سهولة تامة .

قال البيهقي في شعب الإيمان : " من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ، ولا يخالفهم فيه ، ولا يغير مما كتبوه شيئا ، فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا ، وأعظم أمانة منا ، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم “ .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية