مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
الفواصل ورءوس الآي

تميز القرآن الكريم بمنهج فريد في فواصله ورءوس آياته ، ونعني بالفاصلة : الكلام المنفصل مما بعده ، وقد يكون رأس آية وقد لا يكون ، وتقع الفاصلة عند نهاية المقطع الخطابي ، سميت بذلك لأن الكلام ينفصل عندها .

ونعني برأس الآية : نهايتها التي توضع بعدها علامة الفصل بين آية وآية ، ولهذا قالوا : " كل رأس آية فاصلة ، وليس كل فاصلة رأس آية ، فالفاصلة تعم النوعين ، وتجمع الضربين " ، لأن رأس كل آية يفصل بينها وبين ما بعدها .

ومثل هذا قد يسمى في كلام الناس سجعا على النحو المعروف في علم البديع ، ولكن كثيرا من العلماء لا يطلق هذا الوصف على القرآن الكريم سموا به عن كلام الأدباء ، وعبارات الأنبياء ، وأسلوب البلغاء وفرقوا بين الفواصل والسجع ، بأن الفواصل في القرآن : هي التي تتبع المعاني ولا تكون مقصودة لذاتها .

أما السجع : فهو الذي يقصد في نفسه ثم يحيل المعنى عليه ، لأنه : موالاة [ ص: 146 ] الكلام على وزن واحد ، ورد القاضي أبو بكر الباقلاني على من أثبت السجع في القرآن فقال : " وهذا الذي يزعمونه غير صحيح ، ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز ، ولو جاز أن يقال : هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا : شعر معجز ، وكيف ؟ والسجع مما كانت كهان العرب تألفه ، ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر ، لأن الكهانة تخالف النبوات بخلاف الشعر . وما توهموا أنه سجع باطل ، لأن مجيئه على صورته لا يقتضي كونه هو ، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدى بالسجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو في معنى السجع من القرآن ، لأن اللفظ وقع فيه تابعا للمعنى ، وفرق بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ “ .

والذي أراه أنه إذا كان المراد بالسجع مراعاة موالاة الكلام على وزن واحد دون مراعاة المعنى فإن هذا تكلف ممقوت في كلام الناس فضلا عن كلام الله . أما إذا روعيت المعاني وجاء الاتفاق في الوزن تابعا لها دون تكلف فهذا ضرب من ضروب البلاغة ، قد يأتي في القرآن كما يأتي في غيره . وإذا سمينا هذا في القرآن بالفواصل دون السجع فذلك لتلافي إطلاق السجع على القرآن بالمعنى الأول .

والفواصل في القرآن الكريم أنواع :

أ- فمنها الفواصل المتماثلة كقوله تعالى : والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور ، وقوله تعالى : والفجر وليال عشر [ ص: 147 ] والشفع والوتر والليل إذا يسر ، وقوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس .

ب- ومنها الفواصل المتقاربة في الحروف ، كقوله تعالى : الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ، للتقارب بين الميم والنون في المقطع ، وقوله : ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ، بتقارب مقطعي الدال والباء .

جـ- ومنها المتوازي : وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع ، كقوله تعالى : فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة .

د- ومنها المتوازن ، وهو أن يراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط كقوله تعالى : ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة .

وقد يراعى في الفواصل زيادة حرف كقوله تعالى : وتظنون بالله الظنونا ، بإلحاق ألف ، لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين في الوقف ، فزيد على النون ألف لتساوي المقاطع . وتناسب نهايات الفواصل ، أو حذف حرف كقوله تعالى : والليل إذا يسر ، بحذف الياء ، لأن مقاطع الفواصل السابقة واللاحقة بالراء ، أو تأخير ما حقه التقديم لنكتة بلاغية أخرى كتشويق النفس إلى الفاعل في قوله تعالى : فأوجس في نفسه خيفة موسى ، لأن الأصل في الكلام أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول ، لكن أخر الفاعل هنا وهو " موسى " للنكتة البلاغية السابقة على رعاية الفاصلة .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية