مباحث في علوم القرآن

مناع القطان - مناع خليل القطان

صفحة جزء
[ ص: 162 ] - 10 -

القراءات والقراء :

القراءات : جمع قراءة ، مصدر قرأ في اللغة ، ولكنها في الاصطلاح العلمي : مذهب من مذاهب النطق في القرآن يذهب به إمام من الأئمة القراء مذهبا يخالف غيره .

وهي ثابتة بأسانيدها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويرجع عهد القراء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة ، فقد اشتهر بالإقراء منهم : أبي ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، وغيرهم ، وعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار ، وكلهم يسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقد ذكر الذهبي في " طبقات القراء " أن المشتهرين بإقراء القرآن من الصحابة سبعة : عثمان ، وعلي ، وأبي ، وزيد بن ثابت ، وأبو الدرداء ، وابن مسعود ، وأبو موسى الأشعري ، قال : وقد قرأ على " أبي " جماعة من الصحابة ، منهم : أبو هريرة ، وابن عباس ، وعبد الله بن السائب ، وأخذ ابن عباس عن زيد أيضا .

وأخذ عن هؤلاء الصحابة خلق كثير من التابعين في كل مصر من الأمصار .

كان منهم " بالمدينة " : ابن المسيب ، وعروة ، وسالم ، وعمر بن عبد العزيز ، وسليمان وعطاء ابنا يسار ، ومعاذ بن الحارث المعروف بمعاذ القارئ ، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وابن شهاب الزهري ، ومسلم بن جندب ، وزيد بن أسلم .

وكان منهم " بمكة " : عبيد بن عمير ، وعطاء بن أبي رباح ، وطاوس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وابن أبي مليكة .

وكان منهم " بالكوفة " : علقمة ، والأسود ، ومسروق ، وعبيدة ، وعمرو بن شرحبيل ، والحارث بن قيس ، وعمرو بن ميمون ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والشعبي .

[ ص: 163 ] وكان منهم " بالبصرة " : أبو عالية ، وأبو رجاء ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن يعمر ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة .

وكان منهم " بالشام " : المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، صاحب عثمان ، وخليفة بن سعد، صاحب أبي الدرداء .

وفي عهد التابعين على رأس المائة الأولى تجرد قوم واعتنوا بضبط القراءة عناية تامة ، حين دعت الحاجة إلى ذلك ، وجعلوها علما كما فعلوا بعلوم الشريعة الأخرى ، وصاروا أئمة يقتدى بهم ويرحل إليهم . واشتهر منهم ، ومن الطبقة التي تلتهم الأئمة السبعة الذين تنسب إليهم القراءات إلى اليوم ، فكان منهم " بالمدينة " : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، ثم نافع بن عبد الرحمن ، وكان منهم " بمكة " : عبد الله بن كثير ، وحميد بن قيس الأعرج ، وكان منهم " بالكوفة " : عاصم بن أبي النجود ، وسليمان الأعمش ، ثم حمزة ، ثم الكسائي ، وكان منهم " بالبصرة " : عبد الله بن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمرو ، وأبو عمرو بن العلاء ، وعاصم الجحدري ، ثم يعقوب الحضرمي ، وكان منهم " بالشام " : عبد الله بن عامر ، وإسماعيل بن عبد الله بن المهاجر ، ثم يحيى بن الحارث ، ثم شريح بن يزيد الحضرمي .

والأئمة السبعة الذين اشتهروا من هؤلاء في الآفاق هم : أبو عمرو ، ونافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وابن عامر ، وابن كثير .

والقراءات : غير الأحرف السبعة -على أصح الآراء- وإن أوهم التوافق العددي الوحدة بينهما ، لأن القراءات مذاهب أئمة ، وهي باقية إجماعا يقرأ بها الناس ، ومنشؤها اختلاف في اللهجات وكيفية النطق وطرق الأداء من تفخيم ، وترقيق ، وإمالة ، وإدغام ، وإظهار ، وإشباع ، ومد ، وقصر ، وتشديد ، وتخفيف . . . إلخ ، وجميعها في حرف واحد هو حرف قريش .

أما الأحرف السبعة فهي بخلاف ذلك على نحو ما سبق لك ، وقد انتهى الأمر بها إلى ما كانت عليه العرضة الأخيرة حين اتسعت الفتوحات ، ولم يعد للاختلاف في [ ص: 164 ] الأحرف وجه خشية الفتنة والفساد ، فحمل الصحابة الناس في عهد عثمان على حرف واحد هو حرف قريش وكتبوا به المصاحف كما تقدم .

كثرة القراء والسبب في الاقتصار على السبعة

قراءات أولئك السبع هي المتفق عليها ، وقد اختار العلماء من أئمة القراءة غيرهم ثلاثة صحت قراءتهم وتواترت ، وهم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع المدني ، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي ، وخلف بن هشام ، وهؤلاء وأولئك هم أصحاب القراءات العشر . وما عداها فشاذ ، كقراءة : اليزيدي ، والحسن ، والأعمش ، وابن جبير ، وغيرهم . ولا تخلو إحدى القراءات العشر حتى السبع المشهورة من شواذ . فإن فيها من ذلك أشياء ، واختيار القراء السبع إنما هو للعلماء المتأخرين في المائة الثالثة ، وإلا فقد كان الأئمة الموثوق بعلمهم كثيرين ، وكان الناس على رأس المائتين بالبصرة على قراءة ابن عمرو ، ويعقوب ، وبالكوفة على قراءة حمزة وعاصم ، وبالشام على قراءة ابن عامر ، وبمكة على قراءة ابن كثير ، وبالمدينة على قراءة نافع ، وكان هؤلاء هم السبعة . فلما كان على رأس المائة الثالثة أثبت أبو بكر بن مجاهد اسم الكسائي ، وحذف منهم اسم يعقوب .

قال السيوطي : " أول من صنف في القراءات أبو عبيد القاسم بن سلام ، ثم أحمد بن جبير الكوفي ، ثم إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون ، ثم أبو جعفر بن جرير الطبري ، ثم أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الدجوني ، ثم أبو بكر بن مجاهد ، ثم قام الناس في عصره وبعده بالتأليف في أنواعها جامعا ومفردا ، وموجزا ومسهبا ، وأئمة القراءات لا تحصى ، وقد صنف طبقاتهم حافظ الإسلام أبو عبد الله الذهبي ، ثم حافظ القراء أبو الخير بن الجزري “ .

وقال الإمام ابن الجزري في " النشر " : " أول إمام معتبر جمع القراءات في [ ص: 165 ] كتاب أبو عبيد القاسم بن سلام ، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا ، مع هؤلاء السبعة ، وتوفي سنة " 224 هـ " ثم قال : وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط ، وتوفي سنة " 324 هـ " ثم قال : وإنما أطلنا في هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة ، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير “ .

والسبب في الاقتصار على السبعة مع أنه في أئمة القراء من هو أجل منهم قدرا أو مثلهم إلى عدد أكثر من السبعة ، هو أن الرواة عن الأئمة كانوا كثيرا جدا ، فلما تقاصرت الهمم اقتصروا مما يوافق خط المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به ، فنظروا إلى من اشتهر بالثقة والأمانة ، وطول العمر في ملازمة القراءة والاتفاق على الأخذ عنه فأفردوا من كل مصر إماما واحدا .

ولم يتركوا مع ذلك نقل ما كان عليه الأئمة غير هؤلاء من القراءات ولا القراءة بها ، كقراءة يعقوب الحضرمي ، وأبي جعفر المدني ، وشيبة بن نصاع ، وغيرهم .

وقد أسهم المؤلفون في القراءات في الاقتصار على عدد معين . لأنهم إذ يؤلفون مقتصرين على عدد مخصوص من أئمة القراء يكون ذلك من دواعي شهرتهم وإن كان غيرهم أجل منهم قدرا ، فيتوهم الناس بعد أن هؤلاء الذين اقتصر التأليف على قراءاتهم هم الأئمة المعتبرون في القراءات . وقد صنف ابن جبر المكي كتابا في القراءات فاقتصر على خمسة ، اختار من كل مصر إماما ، وإنما اقتصر على ذلك لأن المصاحف التي أرسلها عثمان كانت خمسة إلى هذه الأمصار . ويقال : إنه وجه سبعة ، هذه الخمسة ومصحفا إلى اليمن ، ومصحفا إلى البحرين . لكن لما لم [ ص: 166 ] يسمع لهذين المصحفين خبر وأراد ابن مجاهد وغيره مراعاة عدد المصاحف استبدلوا من مصحف البحرين ومصحف اليمن قارئين كمل بهما العدد ; ولذا قال العلماء : إن التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة . وإنما هو من جمع بعض المتأخرين فانتشر ، فلو أن ابن مجاهد مثلا كتب عن غير هؤلاء السبعة بالإضافة إليهم لاشتهروا . قال أبو بكر بن العربي : " ليست هذه السبعة متعينة للجواز حتى لا يجوز غيرها كقراءة أبي جعفر وشيبة والأعمش ونحوهم ، فإن هؤلاء مثلهم أو فوقهم " وكذا قال غير واحد من أئمة القراء ، وقال أبو حيان : " ليس في كتاب ابن مجاهد ومن تبعه من القراءات المشهورة إلا النزر اليسير ، فهذا أبو عمرو بن العلاء اشتهر عنه سبعة عشر راويا ، ثم ساق أسماءهم ، واقتصر في كتاب ابن مجاهد على اليزيدي ، واشتهر عن اليزيدي عشرة أنفس . فكيف يقتصر على السوسي ، والدوري ، وليس لهما مزية على غيرهما ، لأن الجميع مشتركون في الضبط والإتقان والاشتراك في الأخذ . قال : ولا أعرف لهذا سببا إلا ما قضى من نقص العلم “ .

"

التالي السابق


الخدمات العلمية