صفحة جزء
وأما قوله تعالى { تبارك اسم ربك } فالمراد به اللفظ ; لأنه كما يجب تنزيه ذاته وصفاته عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن الرفث وسوء الأدب ، أو الاسم فيه مقحم للتعظيم والإجلال ، وإن أريد به الصفة كما هو رأي أبي الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده : إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم ، وإلى ما هو غيره كالخالق [ ص: 20 ] والرازق ، وإلى ما ليس هو ولا غيره كالحي والعليم والقادر والمريد والمتكلم والبصير والسميع . لا يقال : مقتضى حديث البسملة الآتي أن يكون الابتداء بلفظة الجلالة ولم يكن بها بل بلفظة بسم ; لأنا نقول : كل حكم ورد على اسم فهو في الحقيقة على مدلوله إلا بقرينة كضرب فعل ، فقوله بسم الله أبتدئ : معناه أبتدئ بمدلول اسمه وهو لفظ الجلالة ، فكأنه قال : بالله أبتدئ . وإنما لم يقل بالله ; لأن التبرك والاستعانة بذكر اسمه أيضا ، أو للفرق بين اليمين والتيمن ، أو لتحصيل نكتة الإجمال والتفصيل . والله علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد ، وأكثر أهل العلم على أنه اسم الله الأعظم ، وقد ذكر في القرآن العزيز في ألفين وثلثمائة وستين موضعا ; وأصله إله حذفت همزته وعوض عنها الألف واللام ; لأنه يوصف ولا يوصف به ، ولأنه لا بد له من اسم تجري [ ص: 21 ] عليه صفاته ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ، ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول : لا إله إلا الله توحيدا مثل لا إله إلا الرحمن فإنه لا يمنع الشركة ، فهو مرتجل لا اشتقاق له . ونقل عن الشافعي وإمام الحرمين وتلميذه الغزالي والخطابي والخليل وسيبويه وابن كيسان وغيرهم قال بعضهم : وهو الصواب وهو أعرف المعارف ، فقد حكي أن سيبويه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال خيرا كثيرا لجعلي اسمه أعرف المعارف .

والأكثرون على أنه مشتق ، ونقل عن الخليل وسيبويه أيضا واشتقاقه من أله بمعنى عبد ، وقيل من أله إذا تحير ; لأن العقول تتحير في معرفته ; أو من ألهت إلى فلان : أي سكنت إليه ; لأن القلوب تطمئن بذكره والأرواح تسكن إلى معرفته ; أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه وألهه غيره أجاره ، أو أله الفصيل إذا أولع بأمه ; أو من وله إذا تحير وتخبط عقله ، وكأن أصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها . وقيل أصله لاه مصدر لاه يليه ليها ولاها : إذا احتجب وارتفع .

قال بعض المحققين : والحق أنه وصف في أصله ، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار كالعلم أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه ; لأن ذاته من حيث هي بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقولة للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوصة لما أفاد ظاهر قوله تعالى { وهو الله في السموات } معنى صحيحا ، ولأن معنى الاشتقاق وهو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب حاصل بينه وبين الأصول المذكورة انتهى . وهو عربي خلافا للبلخي حيث زعم أنه معرب .


حاشية الشبراملسي

( قوله : الرفث ) قال في المصباح : رفث في منطقه رفثا من باب طلب ، ويرفث بالكسر لغة أفحش فيه ( قوله : وسوء الأدب ) عطف تفسير ( قوله : أو الاسم فيه ) أي في تبارك إلخ ( قوله مقحم ) أي زائد ( قوله : انقسام الصفة عنده ) أي الأشعري ( قوله : إلى ما هو نفس المسمى ) ومرادهم به ما لا يزيد مفهومه على الذات كالقديم ، فإن معناه ذات لا أول لوجودها ، فلم يدل [ ص: 20 ] القديم على صفة حقيقية قائمة بالذات بل على سلب الأولية عنه ; ومرادهم بالغير ما يمكن انفكاكه عن الذات بأن يمكن وجود الذات بدونه ، كالخلق فإنه عبارة عن الإيجاد من العدم ، وذاته تعالى في الأزل موجودة غير متصفة بالإيجاد بالفعل ; ومرادهم بما ليس عينه ولا غيره أن يكون مفهومه زائدا على الذات بصفة حقيقية قائمة بها ولا يمكن انفكاكها عنها كالعالم ، فإن مسماه الذات التي قام بها العلم ، فالعلم ليس عين الذات ولا غيرها لعدم انفكاك الذات عنه فإن العلم قديم بقدم الذات ( قوله : مقتضى حديث البسملة الآتي ) وإنما أورد هذا هنا وإن كان الأنسب بحسب الظاهر تأخيره ; لأنه لما بين أن المراد من الاسم اللفظ كان ذلك منشأ السؤال فذكره متصلا به ( قوله كضرب ) مثال لما أريد لفظه بالقرينة ( قوله وهو لفظ ) أي مدلول لفظ ، وكأن مراده أن هذا هو العلم لذاته تعالى ، فلا يقال إن مدلول الاسم جميع الأسماء على ما يفيده إضافة الاسم من الاستغراق ( قوله : ; لأن التبرك ) أي إشارة ; لأن إلخ ( قوله : والاستعانة بذكر اسمه أيضا ) أي كما هو بذكر ذاته ، فليس التبرك مقصورا على الذات ، بل كما يكون بها يكون بالاسم ( قوله والتيمن ) أي التبرك ، وهذا قد يشعر بأن اليمين لا تنعقد بقوله بسم الله لأفعلن ، قال سم على ابن حجر : قوله حذرا من إبهام القسم قضيته أن بسم الله لا تحتمل القسم ، وفيه كلام في الأيمان انتهى .

وحاصله كما ذكره الشهاب الحجازي في مختصر الروضة أنه يمين ( قوله أو لتحصيل نكتة الإجمال ) هذا غير ظاهر إن أريد بالاسم الأعم من اسمه تعالى وغيره ، وأما إن أريد به ذاته تعالى فظاهر ، وتكون الإضافة بيانية ، وعبارة ابن حجر ولم يقل بالله حذرا من إبهام القسم ، وليعم جميع أسمائه انتهى .

وهو صريح في أن الإضافة حقيقية ، وأن المقصود منه العموم على الوجه الثاني ، وأن نكتة الإجمال والتفصيل إنما تناسب الأول ( قوله : والله علم على الذات مع قوله الآتي فهو مرتجل ) قد ينافيان قوله وأصله إلخ ، فإن ذاك توجيه لمن جعله مشتقا فليراجع . نعم يمكن أن يحمل قوله علم على أنه صار كذلك بالغلبة كما قيل به ، إلا أن قوله فهو مرتجل لا يوافقه ، ومن ثم لم يذكر قوله فهو مرتجل بل اقتصر على ما تقدم وإن زاد التصريح بأنه من الأعلام الغالبة من حيث إن أصله الإله انتهى ( قوله على أنه اسم الله الأعظم ) وهذا هو الراجح ( قوله : وقد ذكر في القرآن ) أي لفظ الله سبحانه وتعالى ( قوله : ولأنه لا بد له ) أي [ ص: 21 ] لذاته تعالى ( قوله : ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه ) أي سوى لفظ الله ( قوله : فإنه لا يمنع إلخ ) أي قوله لا إله إلا الرحمن ( قوله : ونقل عن الشافعي ) أي كونه علما ( قوله واشتقاقه من أله إلخ ) أي بكسر اللام . قال في المصباح : أله يأله من باب تعب إلاهة بمعنى عبد عبادة انتهى .

وعبارة المختار بفتح اللام ، ومثله في ابن حجر ( قوله : وقيل من أله إلخ ) قال في المصباح : أله يأله من باب تعب إذا تحير وأصله وله يوله انتهى .

ولعل الفرق بين هذا وما يأتي في قوله أو من وله إذا تحير الإبدال هنا وعدمه ثم ( قوله إذا أولع بأمه ) بالبناء للمفعول . قال في المصباح : أولع بالشيء بالبناء للمفعول يولع ولوعا بفتح الواو علق به ، في لغة ولع بفتح اللام وكسرها يلع بفتحها فيهما مع سقوط الواو ولعا بسكون اللام وفتحها انتهى .

( قوله : وكان أصله ولاه ) أي على هذا القول الأخير وهو قوله أو من وله إذا تحير إلخ ( قوله والحق أنه ) أي الله ( قوله : وصف ) أي معبود ( قوله : معنى صحيحا ) أي لاقتضائه أن ذاته كائنة في السموات وهو غير صحيح ، بخلاف ما إذا جعل وصفا : فإن معناه المعبود في السموات وفي الأرض وهو ظاهر ، وإنما قال ظاهر قوله لإمكان جعل الظرف متعلقا بمحذوف كأن يقال الأصل وهو الله المعبود في السموات وفي الأرض ( قوله الأصول المذكورة ) أي في قوله واشتقاقه من أله إلخ ( قوله : وهو عربي ) أي لفظ الله سبحانه وتعالى

حاشية المغربي

( قوله : وأما قوله تعالى { تبارك اسم ربك } إلخ ) [ ص: 20 ] جواب عما يرد على قوله لكنه لم يشتهر بهذا المعنى كأن قائلا يقول له : كيف لم يشتهر به وقد ورد به في القرآن من هذه الآية ، إذ المراد بالاسم فيها الذات بدليل إسناد تبارك إليه فأجاب بذلك ( قوله : لا يقال : مقتضى حديث البسملة الآتي أن يكون الابتداء بلفظة الجلالة إلخ ) فيه منع ظاهر ; لأن لفظ الحديث الآتي { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم } بباءين ، وهو يقتضي أن يكون الابتداء بهذا اللفظ ، فالإشكال مدفوع فلا يحتاج إلى جواب .

وقوله ، وأنه لا بد له الضمير فيه للذات ( قوله : لأنه يوصف إلخ ) تعليل لقوله السابق والله أعلم إلخ . [ ص: 21 ]

( قوله : لا اشتقاق له ) يلائم قوله فيما مر وأصله إله إلخ الموافق لما عليه الأكثرون الآتي وفي قوله مرتجل لا اشتقاق له قلاقة ; لأنه ربما أوهم أن قوله لا اشتقاق له مفهوم قوله مرتجل ، وهو غير صواب وغرضه أنه مرتجل لا منقول جامد لا مشتق ( قوله : لأن ذاته من حيث هي إلخ ) فيه أنه لا يشترط العلم إذا وضع بإزاء مسمى الإحاطة بكنه ذلك المسمى ، والغرض من الوضع أنه إذا أطلق ذلك العلم فهم منه ذلك المسمى ، ويكفي في ذلك علمه بوجه كما هو ظاهر

التالي السابق


الخدمات العلمية