صفحة جزء
، وقد جرت عادة إمامنا رضي الله عنه بأنه إذا كان في الباب آية أو حديث أو أثر ذكره ثم رتب عليه مسائل الباب ، وتبعه الرافعي في المحرر ، وحذف ذلك المصنف من المنهاج اختصارا ، غير أنه افتتحه بالآية الآتية تبركا أو استدلالا وقدمها ; لأن الدليل إذا كان عاما فرتبته التقديم فلهذا قال ( قال الله تعالى : { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } ) أي مطهرا ، ويعبر عنه بالمطلق ، وعدل عن قوله تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وإن قيل بأصرحيتها ليفيد بذلك أن الطهور غير الطاهر ، إذ قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء } دل على كونه طاهرا ; لأن الآية سيقت في معرض الامتنان وهو سبحانه لا يمتن بنجس ، وحينئذ فيكون الطهور غير الطاهر وإلا لزم التأكيد ، والتأسيس خير منه ( يشترط لرفع الحدث والنجس ) بكسر الجيم وفتحها وبإسكانها مع كسر النون وفتحها : [ ص: 61 ] أي رفع حكمه وهو بمعنى من عبر في النجس بالإزالة والشرط في اللغة العلامة وفي الاصطلاح ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته . والحدث لغة الشيء الحادث وشرعا يطلق على ثلاثة أمور كما سيأتي في باب الأحداث أحدها وهو المراد هنا أنه أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع صحة نحو الصلاة حيث لا مرخص إذ لا يرفعه إلا الماء ولا فرق في الحدث بين الأصغر وهو ما أبطل الوضوء والمتوسط وهو ما أوجب الغسل من نحو جماع والأكبر وهو ما أوجبه من نحو حيض .

والنجس لغة الشيء المبعد وشرعا مستقذر يمنع صحة نحو الصلاة حيث لا مرخص ( ماء مطلق ) أما في الحدث فلقوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا } فأوجب التيمم على من فقد الماء فدل على أنه لا يحصل بغيره ، وأما في النجس فلقوله صلى الله عليه وسلم { لما بال الأعرابي في المسجد [ ص: 62 ] صبوا عليه ذنوبا من ماء } والذنوب بفتح الذال المعجمة : الدلو الممتلئة أو القريبة من الامتلاء ماء ، والمأمور لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بالامتثال ، وقد نص على الماء فهو إما تعبد لا يعقل معناه ، أو لما حوى من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره ، بدليل أنه لا يرسب للصافي منه ثقل بإغلائه ، بخلاف الصافي من غيره ، ومن ثم قال بعض الحكماء : لا لون له وما يظهر فيه لون ظرفه أو مقابله ; لأنه جسم شفاف .

وقال الرازي : بل له لون ويرى ، ومع ذلك لا يحجب عن رؤية ما وراءه . واقتصر على الحدث والنجس ; لأنهما الأصل ، وإلا فيشترط لسائر الطهارات غير التيمم والاستحالة الماء المطلق ، وشمل النجاسة بأنواعها ولو مخففة أو مغلظة بشرطه الآتي ، ودخل في الماء جميع أنواعه بأي صفة كان من أحمر وأسود ، وكذا متصاعد من بخار مرتفع من غليان الماء ونابع من زلال ، وهو شيء ينعقد من الماء على صورة حيوان ، وشملت عبارته الماء النازل من السماء والنابع من الأرض ولو من زمزم ، والماء النابع من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وهو أشرف المياه ، وخرج به ما لا يسمى ماء كتراب تيمم وحجر الاستنجاء وأدوية دباغ وشمس وريح ونار وخل ونبيذ وغيرها ، وخرج بمطلق المستعمل وسيأتي في كلامه . قال في الدقائق : وعدل عن قول أصله لا يجوز إلى قوله يشترط ; لأنه لا يلزم [ ص: 63 ] من عدم الجواز الاشتراط . واعترض بأنه قد ذكر في شرح المهذب أن لفظة يجوز تستعمل تارة بمعنى الحل وتارة بمعنى الصحة وتارة بمعناهما ، وهذا الموضع مما يصلح للأمرين . وأجيب بأن لفظة يشترط تقتضي توقف الرفع على الماء ، ولفظة لا يجوز مترددة بين تلك المعاني ولا قرينة ، فالتعبير بيشترط أولى . ورد بمنع التردد ; لأنه إن حمل المشترك على جميع معانيه عموما فظاهر ، وإلا فحمله على جميعها هنا بقرينة السياق والتبويب واعترض ثانيا بأن تعبير المحرر أولى لدلالته على نفي الجواز بغير الماء بمنطوقه ، وتعبير الكتاب إنما يدل على ذلك بواسطة أن الإتيان بالعبادة على غير وجهها حرام للتلاعب . وأجيب بأنه إذا تعارض هذان الغرضان فالتعبير بما يصرح بالمقصود وهو اشتراط الماء للتطهير أولى .

وعبارة بعضهم لا يرفع الحدث ولا يزال الخبث بالاستقلال إلا بالماء . واحترز بقيد الاستقلال عن التراب في غسلات الكلب فإنه إزالة نجاسة بغير الماء لكن لا مستقلا . وقد يقال لا نسلم أنه بغير الماء بل به مع انضمام غيره ( له وهو ) أي الماء المطلق ( ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد ) لازم فشمل المتغير كثيرا بما لا يضر كطين وطحلب أو بمجاور إذ أهل اللسان لا يمنعون من إيقاع اسم الماء المطلق عليه فعلم أنه مطلق لا أنه غير مطلق وإنما أعطي حكمه ، وخرج المستعمل ; لأنه ليس بمطلق والقليل المتنجس بالملاقاة ، والمؤثر هو القيد اللازم من إضافة كماء ورد ، أو صفة كماء دافق وماء مستعمل ، أو متنجس أو لام عهد كالماء في قوله صلى الله عليه وسلم { نعم إذا رأت الماء } أي المني فلا أثر للقيد المنفك كماء البئر أو البحر ، ويجزئ الرفع به ولو ثلجا أو بردا إن سال في مغسول ، وإلا أجزأ في ممسوح ، وبما ينعقد ملحا أو حجرا ولو لجوهره أو لسبوخة الأرض ، ويلزم محدثا ونحوه إذابة برد ونحوه وملح مائي إن تعين وضاق الوقت ولم تزد مؤنته على ثمن مثل الماء هناك


حاشية الشبراملسي

( قوله : وهو سبحانه لا يمتن بنجس ) يتأمل فما المانع من صحة الامتنان بشيء وإن قام غيره مقامه ، وهذا وجه الاستدلال بأن يقول ثبتت الطهارة بالماء ولم تثبت بغيره ، ولا مدخل للقياس لظهور الفرق انتهى ابن قاسم على المنهج ( قوله : وإلا لزم التأكيد ) أي لو جعل الطهور بمعنى الطاهر لزم التأكيد ، لأن الطهارة مستفادة من لفظ الماء على ما مر . بخلاف ما لو أريد به الطهور فلا يكون تأكيدا بل تأسيسا ، لأنه أفاد معنى لم يفده ما قبله وهو المراد بالتأسيس ( قوله بكسر الجيم وفتحها ) أي مع فتح النون وقوله مع كسر النون إلخ : أي مع إسكانها فتصير [ ص: 61 ] اللغات أربعة ، وفي القاموس لغة خامسة وهي كعضد انتهى ( قوله : أي رفع حكمه ) إنما يحتاج إلى هذا التقدير إذا أريد بالحدث الأسباب ، أما إن أريد الأمر الاعتباري أو المنع فلا حاجة إليه بل لا يستقيم ، وسيأتي له التصريح بأن المراد الأمر الاعتباري ، وعليه فكان الأولى ترك هذا المقدر ، ولعله قدره ليظهر وجه التعبير بالرفع في النجس كما أشار إليه بقوله وهو بمعنى من عبر في إلخ ( قوله : وهو ) أي رفع حكمه ( قوله : والشرط في اللغة العلامة ) سيأتي له في باب شروط الصلاة أن ما فسر به الشرط هنا موافق للغة خلافا لقول شيخ الإسلام : إن العلامة معنى الشرط بالفتح ، وأما الشرط بالسكون فمعناه إلزام الشيء والتزامه ( قوله : إذ لا يرفعه ) أي هذا الأمر الاعتباري ( قوله : وهو ما أبطل الوضوء ) إنما سمي أصغر لقلة ما يحرم به بالنسبة لما يحرم بالجنابة أو الحيض ، وسمي الحيض أكبر لكثرة ما يحرم به بالنسبة لغيره ، والجنابة متوسطة لتوسط ما يحرم بها بين الطرفين ، فإنه يحرم بها قراءة القرآن والمكث في المسجد ولا يحرمان بالأصغر والحيض يحرم به ذلك والصوم والوطء ونحوه ( قوله : لما بال الأعرابي ) هو الأقرع بن حابس أو ذو الخويصرة قاله المناوي في شرح التحرير ، واقتصر ابن حجر في التحفة على الثاني لكنه قيده بالتميمي وهو مخالف لما في الإصابة ولما في القاموس فإنه قال : ذو الخويصرة اثنان أحدهما تميمي والثاني [ ص: 62 ] يماني ، فالأول خارجي ليس بصحابي ، والثاني هو الصحابي البائل في المسجد انتهى بالمعنى فليراجع . وعبارته ذو الخويصرة اليماني صحابي وهو البائل في المسجد ، والتميمي حرقوص بن زهير ضئضئ الخوارج : أي أصلهم . وفي البخاري : فأتاه ذو الخويصرة ، وقال مرة : فأتاه عبد الله بن ذي الخويصرة وكأنه وهم انتهى .

( قوله : { صبوا عليه ذنوبا من ماء } ) على حذف مضاف : أي مظروف ذنوب ومن تبعيضية ، أو هي مع مدخولها في محل نصب على الحال انتهى عميرة انتهى زيادي .

لا يقال لا يحتاج إليه مع قوله والذنوب اسم للدلو إلخ ; لأنا نقول : لما كان الذنوب له إطلاقات منها أنه يطلق في اللغة على الدلو فقط لا بقيد كونه ممتلئا ماء وعليه يقيد بشد الحبل عليه فلهذا قيد في الحديث بقوله من ماء ، وفي نسخة : إسقاط قوله ماء ، وعليها فلا حاجة لما ذكر ( قوله : الدلو الممتلئة ) يفيد أن الدلو مؤنثة ، وفي المختار أنها تؤنث وتذكر ، وعبارته والذنوب النصيب وهو أيضا الدلو الملأى ماء . وقال ابن السكيت : التي فيها ماء قريب من الملء تؤنث وتذكر ، ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب انتهى . وفي القاموس ما يصرح بأنه يقال له مطلقا فيه ماء أم لا انتهى .

( قوله : فهو إما تعبد ) أي الماء بمعنى الاعتداد به دون غيره ( قوله : ثفل بإغلائه ) الثفل بضم المثلثة : ما سفل من كل شيء انتهى مختار ( قوله : وشمل ) أي النجس ( قوله : بشرطه الآتي ) أي وهو امتزاجه بالتراب ( قوله : من غليان الماء ) أي كما صرح به النووي وإن خالفه صاحب العباب ( قوله : على صورة حيوان ) زاد ابن حجر : وليست بحيوان ، فإن تحقق أي كونه حيوانا كان نجسا ; لأنه قيء انتهى ( قوله : ولو من زمزم ) عبارة ابن حجر : ولا يكره الطهر بماء زمزم ، ولكن الأولى عدم إزالة النجس به ، وجزم بعضهم بحرمته ضعيف بل شاذ ( قوله : وخرج به ) أي بالماء ( قوله ما لا يسمى ماء ) قال ابن حجر : وخرج بالماء من حيث تعلق الاشتراط به انتهى .

ودفع بذلك ما أورد عليه من أن الماء لقب ولا مفهوم له على الراجح [ ص: 63 ] قوله مما يصلح للأمرين ) أي فيحمل عليهما إذ لا مانع ( قوله : بين تلك المعاني ) وهي الحل والصحة وهما معا ( قوله : لأنه إن حمل على المشترك ) كما قيل به وعليه إمامنا الشافعي ، وقوله عموما : أي بأن تجعل تلك المعاني مدلولة للفظ المشترك بالمطابقة ، وقوله وإلا أي وإن قلنا لا يحمل عموما بل هو مجمل ، فمحل هذا القول حيث لم تقم قرينة تدل على حمله على جميع معانيه ، وهذا قد قامت على حمله القرينة وهي السياق والتبويب ، وقوله بقرينة السياق خبر قوله حمله وهو متعلق بمحذوف تقديره واجب ( قوله : فظاهر ) أي واضح الرد ( قوله واعترض ثانيا ) أي على المصنف أيضا ( قوله وعبارة بعضهم ) تأييد لكلام المحرر ( قوله : بلا قيد ) أي مع العلم بالحال عند أهل العرف واللسان ( قوله : وإنما أعطى حكمه ) هذا مشعر بجريان الخلاف في المجاور وما معه ، والذي في شرح المنهج يقتضي تخصيص الخلاف بالتراب والملح المائي ، وأن المتغير بغيرهما مما لا يضر التغير به مطلق قطعا فليراجع .

( قوله : القليل المتنجس ) أي ; لأن من علم بحالهما يمتنع من إطلاق الماء عليهما ( قوله : وإلا أجزأ في ممسوح ) كالرأس مثلا ( قوله وبما ينعقد ملحا ) أي ويجزئ الرفع بما ينعقد إلخ ( قوله : وضاق الوقت ) أي بحيث لم يبق ما يزيد على الصلاة كاملة بعد الوضوء وإذابة الماء فحينئذ تجب إذابته وإن خرج الوقت باشتغاله بذلك ولا يتيمم ; لأنه واجد للماء

حاشية المغربي

( قوله : أي رفع حكمه ) أي النجس بقرينة ما بعده ، وإنما أظهر فيه مع أن المقام للإضمار لدفع توهم العود إلى الحدث أيضا ، وإنما قصرناه على النجس ; لأن الحدث بالمعنى الآتي لا يحتاج إلى هذا التقدير الذي قدره ( قوله : وهو بمعنى من عبر إلخ ) أي بحسب المآل ، وإلا فالمعنى غير المعنى ، والشهاب ابن حجر حمل النجس هنا على معنى مجازي له غير ما يأتي ليبقى التعبير بالرفع بالنسبة إليه على ظاهره وعبارته ، وهو : أي النجس مستقذر يمنع صحة نحو الصلاة حيث لا مرخص ، أو معنى يوصف به المحل الملاقي لعين من ذلك مع رطوبة ، وهذا هو المراد هنا لا أنه الذي لا يرفعه إلا الماء ، ولأن المصنف استعمل فيه الرفع كما تقرر ، وهو لا يصح فيه حقيقة إلا على هذا المعنى ، أما على الأول فوصفه به من مجاز مجاورته للحدث إلى آخر ما ذكره رحمه الله تعالى ( قوله : أحدها ، وهو المراد هنا أنه أمر اعتباري إلخ ) إنما خص كلام المصنف به ; لأن المعنى الثاني الذي هو المنع المترتب على ما ذكر لا يختص رفعه بالماء بل يرفعه التراب أيضا .

على أن الشهاب ابن حجر جوز إرادته هنا أيضا وقال : إن مرادنا بالرفع العام ، وهو لا يكون إلا الماء ، بخلاف التراب ، فإنه رفع خاص بالنسبة لفرض واحد انتهى بالمعنى .

أما المعنى الثالث للحدث فلا تصح إرادته هنا إلا بتقدير كأن يجعل قول الشارح المار أي رفع حكمه راجعا للحدث أيضا إلا أن صنيعه هنا ينافيه ( قوله : إذ لا يرفعه إلا الماء ) كذا في النسخ أو القريبة وحق العبارة .

إذ هو الذي لا يرفعه إلا الماء ، ولعل الضمير ، والموصول سقطا من الكتبة ( قوله : فأوجب التيمم عند فقد الماء ) أي ، والماء ينصرف إلى المطلق لتبادره إلى الأذهان وكذا يقال فيما يأتي [ ص: 62 ] قوله : الدلو الممتلئة إلخ ) وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم " من ماء " تأكيد لدفع توهم التجوز بالذنوب عن مطلق الدلو وقيل فيه غير ذلك ، لكن نقل بعضهم عن اللغة أن مطلق الدلو من جملة إطلاقات الذنوب ، وعليه فمن ماء تأسيس من غير تكلف ، ومن ثم اقتصر على هذا الإطلاق المحقق الجلال المحلي ( قوله : ونابع من زلال ، وهو شيء إلخ ) صريح في أن الزلال اسم حيوان نفسه ويوافقه ما في عبارات كثيرة ، لكن عبارة التحفة صريحة في خلافه ، وأن الزلال اسم لما يخرج [ ص: 63 ] من الحيوان المذكور ( قوله : على نفي الجواز ) أي بمعنى الحل ( قوله : ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد ) أي للعالم بحاله ( قوله : لازم ) لا حاجة إليه ، ; لأن ذا القيد المنفك يطلق عليه اسم ماء بلا قيد وإنما كان يحتاج إليه لو قال المصنف هو الذي لم يقيد بقيد مثلا ( قوله : والمؤثر هو القيد اللازم ) هذا قدمه عقب المتن وذكره هنا توطئة لما بعده وتقدم ما فيه

التالي السابق


الخدمات العلمية