صفحة جزء
تنبيه عقد ابن حمدان بابا في " آداب المفتي والمستفتي " لمعرفة عيوب التآليف ، وغير ذلك ، ليعلم المفتي كيف يتصرف في المنقول ، وما مراد قائله ومؤلفه فيصح [ ص: 267 ] نقله للمذهب ، وعزوه إلى الإمام رضي الله عنه ، أو بعض أصحابه ، فأحببت أن أذكره هنا لأن كتابنا هذا مشتمل على ما قاله ، فقال : اعلم أن أعظم المحاذير في التأليف النقلي : إهمال نقل الألفاظ بأعيانها ، والاكتفاء بنقل المعاني ، مع قصور التأمل عن استيعاب مراد المتكلم الأول بلفظه ، وربما كانت بقية الأسباب مفرعة عنه ; لأن القطع بحصول مراد المتكلم بكلامه ، أو الكاتب بكتابته مع ثقة الراوي : يتوقف على انتفاء الإضمار والتخصيص ، والنسخ ، والتقديم ، والتأخير ، والاشتراك ، والتجوز ، والتقدير ، والنقل ، والمعارض العقلي ، فكل نقل لا يؤمن معه حصول بعض الأسباب ، ولا نقطع بانتفائها نحن ولا الناقل ولا نظن عدمها ، ولا قرينة تنفيها ، ولا نجزم فيه بمراد المتكلم ، بل ربما ظنناه ، أو توهمناه ، ولو نقل لفظه بعينه ، وقرائنه ، وتاريخه ، وأسبابه : لانتقى هذا المحذور أو أكثره ، وهذا من حيث الإجمال ، وإنما يحصل الظن بنقل المتحري فيعذر تارة لدعوى الحاجة إلى التصرف لأسباب ظاهرة ويكفي ذلك في الأمور الظنية ، وأكثر المسائل الفروعية ، وأما التفصيل : فهو أنه لما ظهر التظاهر بمذاهب الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم ، والتناصر لها من علماء الأمة ، وصار لكل مذهب منها أحزاب وأنصار ، وصار دأب كل فريق نصر قول صاحبهم ، وقد لا يكون أحدهم قد اطلع على مأخذ إمامه في ذلك الحكم ، فتارة يثبته بما أثبته به إمامه ، ولا يعلم بالموافقة ، وتارة يثبته بغيره ، ولا يشعر بالمخالفة .

ومحذور ذلك : ما يستجيزه فاعل ذلك من تخريج أقاويل إمامه من مسألة [ ص: 268 ] إلى مسألة أخرى ، والتفريع على ما اعتقده مذهبا له بهذا التعليل ، وهو لهذا الحكم غير دليل ، ونسبة القولين إليه بتخريجه ، وربما حمل كلام الإمام فيما خالف نظيره على ما يوافقه ، استمرارا لقاعدة تعليله وسعيا في تصحيح تأويله ، وصار كل منهم ينقل عن الإمام ما سمعه ، أو بلغه عنه ، من غير ذكر سبب ولا تاريخ ، فإن العلم بذلك قرينة في إفادة مراده من ذلك اللفظ ، كما سبق ، فيكثر لذلك الخبط ; لأن الآتي بعده يجد عن الإمام اختلاف أقوال ، واختلال أحوال ، فيتعذر عليه نسبة أحدهما إليه ، على أنه مذهب له ، يجب على مقلده المصير إليه ، دون بقية أقاويله ، إن كان الناظر مجتهدا .

وأما إن كان مقلدا : فغرضه معرفة مذهب إمامه بالنقل عنه ، ولا يحصل غرضه من جهة نفسه ; لأنه لا يحسن الجمع ، ولا يعلم التاريخ ، لعدم ذكره ، ولا الترجيح عند التعارض بينهما لتعذره منه ، وهذا المحذور إنما لزم من الإخلال بما ذكرنا ، فيكون محذورا ، ولقد استمر كثير من المصنفين ، والحاكين على قولهم " مذهب فلان كذا " و " مذهب فلان كذا " ، فإن أرادوا بذلك : أنه نقل عنه فقط ، فلم يفتون به في وقت ما ، على أنه مذهب الإمام ؟ وإن أرادوا : أنه المعول عليه عنده ، ويمتنع المصير إلى غيره للمقلد ، فلا يخلو حينئذ : إما أن يكون التاريخ معلوما ، أو مجهولا ، [ ص: 269 ] فإن كان معلوما ، فلا يخلوا : إما أن يكون مذهب إمامه : أن القول الأخير ينسخ الأول إذا تناقضا ، كالأخبار ، أو ليس مذهبه كذلك ، بل يرى عدم نسخ الأول بالثاني ، أو لم ينقل عنه شيء من ذلك ، فإن كان مذهبه اعتقاد النسخ : فالأخير مذهبه ، فلا تجوز الفتوى بالأول للمقلد ، ولا التخريج منه ، ولا النقض به ، وإن كان مذهبه : أنه لا ينسخ الأول بالثاني عند التنافي ، فإما أن يكون الإمام يرى جواز الأخذ بأيهما شاء المقلد إذا أفتاه المفتي ، أو يكون مذهبه الوقف ، أو شيئا آخر ، فإن كان مذهبه القول بالتخيير : كان الحكم واحدا لا يتعدد ، وهو خلاف الفرض .

وإن كان ممن يرى الوقف : تعطل الحكم حينئذ ، ولا يكون له فيها قول يعمل عليه سوى الامتناع من العمل بشيء من أقواله ، وإن لم ينقل عن إمامه شيء من ذلك : فهو لا يعرف حكم إمامه فيها ، فيكون شبيها بالقول بالوقف في أنه يمتنع من العمل بشيء منها ، هذا كله إن علم التاريخ ، وأما إن جهل : فإما أن يمكن الجمع من القولين ، باختلاف حالين أو محلين ، أو لا يمكن ، فإن أمكن : فإما أن يكون مذهب إمامه جواز الجمع حينئذ كما في الآثار ووجوبه ، أو التخيير ، أو الوقف ، أو لم ينقل عنه شيء من ذلك ، فإن كان الأول ، أو الثاني : فليس له حينئذ إلا قول واحد وهو ما اجتمع منهما ، فلا يحل حينئذ الفتيا بأحدهما على ظاهره ، على وجه لا يمكن الجمع ، [ ص: 270 ] وإن كان الثالث : فمذهبه أحدهما بلا ترجيح ، وهو بعيد ، سيما مع تعذر تعادل الأمارات ، وإن كان الرابع ، أو الخامس : فلا عمل إذا ، وأما إن لم يمكن الجمع مع الجهل بالتاريخ : فإما أن يعتقد نسخ الأول بالثاني أو لا يعتقد ، فإن كان يعتقد ذلك : وجب الامتناع من الأخذ بأحدهما ; لأنا لا نعلم أيهما هو المنسوخ عنده ، وإن لم يعتقد النسخ : فإما التخيير .

وإما الوقف ، أو غيرهما ، والحكم في الكل سبق ، ومع هذا كله : فإنه يحتاج إلى استحضار ما اطلع عليه من نصوص إمامه عند حكاية بعضها مذهبا له ، ثم لا يخلو : إما أن يكون إمامه يعتقد وجوب تجديد الاجتهاد في ذلك أو لا ، فإن اعتقده : وجب عليه تجديده في كل حين أراد حكاية مذهبه ، وهذا يتعذر في مقدرة البشر إن شاء الله ; لأن ذلك يستدعي الإحاطة بما روي عن الإمام في تلك المسألة على جهته في كل وقت يسأل ، ومن لم يصنف كتبا في المذهب ، بل أخذ أكثر مذهبه من قوله وفتاويه ، كيف يمكن حصر ذلك عنه ؟ هذا بعيد عادة ، [ ص: 271 ] وإن لم يكن مذهب إمامه وجوب تجديد الاجتهاد عند نسبة بعضها إليه مذهبا له : ينظر ، فإن قيل : ربما لا يكون مذهب أحد القول بشيء من ذلك ، فضلا عن الإمام ، قلنا : نحن لم نجزم بحكم فيها ، بل رددناه ، وقلنا : إن كان كذا : لزم منه كذا ، ويكفي في إيقاف إقدام هؤلاء تكليفهم نقل هذه الأشياء عن الإمام ، ومع ذلك فكثير من هذه الأقسام قد ذهب إليه كثير من الأئمة .

وليس هذا موضع بيانه ، وإنما يقابلون هذا التحقيق بكثرة نقل الروايات ، والأوجه ، والاحتمالات ، والتهجم على التخريج والتفريع ، حتى لقد صار هذا عندهم عادة وفضيلة ، فمن لم يأت بذلك لم يكن عندهم بمنزلة ، فالتزموا للحمية نقل ما لا يجوز نقله ، لما علمته آنفا ، ثم لقد عم أكثرهم بل كلهم نقل أقاويل يجب الإعراض عنها في نظرهم ، بناء على كونه قولا ثالثا وهو باطل عندهم ، أو لأنها مرسلة في سندها عن قائلها ، وخرجوا ما يكون بمنزلة قول ثالث ، بناء على ما يظهر لهم من الدليل ، فما هؤلاء بمقلدين حينئذ ، وقد يحكي أحدهم في كتابه أشياء ، يتوهم المسترشد : أنها إما مأخوذة من نصوص الإمام ، أو مما اتفق الأصحاب على نسبتها إلى الإمام مذهبا له ، ولا يذكر الحاكي له ما يدل على ذلك ، ولا أنه اختيار له ، ولعله يكون قد استنبطه أو رآه وجها لبعض الأصحاب أو احتمالا ، فهذا أشبه التدليس ، فإن قصده فشبه المين ، وإن وقع سهوا أو جهلا ، فهو أعلى مراتب البلادة والشين .

كما قيل : [ ص: 272 ]

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

وقد يحكون في كتبهم ما لا يعتقدون صحته ، ولا يجوز عندهم العمل به ، ويرهقهم إلى ذلك : تكثير الأقاويل ; لأن من يحكي عن الإمام أقوالا متناقضة ، أو يخرج خلاف المنقول عن الإمام ، فإنه لا يعتقد الجمع بينهما على وجه الجمع ، بل إما التخيير ، أو الوقف ، أو البدل ، أو الجمع بينهما على وجه يلزم عنه قول واحد باعتبار حالين ، أو محلين ، وكل واحد من هذه الأقسام : حكمه خلاف هذه الحكاية عند تعريها عن قرينة مفيدة لذلك ، والغرض كذلك ، وقد يشرح أحدهم كتابا ، ويجعل ما يقوله صاحب الكتاب المشروح رواية ، أو وجها ، أو اختيارا لصاحب الكتاب ، ولم يكن ذكره صاحب الكتاب عن نفسه ، أو أنه ظاهر المذهب ، من غير أن يبين سبب شيء من ذلك ، وهذا إجمال ، أو إهمال ، وقد يقول أحدهم " الصحيح من المذهب " أو " ظاهر المذهب كذا " ولا يقول " وعندي " ويقول غيره خلاف ذلك ، فلمن يقلد العامي إذا ؟ فإن كلا منهم يعمل بما يرى ، فالتقييد إذا ليس للإمام ، بل للأصحاب في أن هذا مذهب الإمام ، ثم إن أكثر المصنفين والحاكين قد يفهمون معنى ، ويعبرون عنه بلفظ يتوهمون أنه واف بالغرض ، وليس كذلك ، فإذا نظر أحد فيه وفي قول من أتى بلفظ واف بالغرض ربما يتوهم أنها مسألة خلاف ; لأن بعضهم قد يفهم من عبارة من يثق به معنى قد يكون على وفق مراد المصنف للفظ ، وقد لا يكون ، فيحصر ذلك المعنى في لفظ وجيز .

[ ص: 273 ] فبالضرورة يصير مفهوم كل واحد في اللفظين من جهة التنبيه وغيره غير مفهوم للآخر ، وقد يذكر أحدهم في مسألة إجماعا ، بناء على عدم علمه بقول يخالف ما يعلمه ، ومن يتتبع حكاية الإجماعات ممن يحكيها ، وطالبه بمستنداتها : علم صحة ما ادعيناه ، وربما أتى بعض الناس بلفظ يشبه قول من قبله ، ولم يكن أخذه منه ، فيظن : أنه قد أخذه منه ، فيحمل كلامه على محمل كلام من قبله ، فإن رئي مغايرا له : نسب إلى السهو أو الجهل ، أو تعمد الكذب ، إن كان ، أو يكون قد أخذ منه ، أو أتى بلفظ يغاير مدلول كلام من أخذ منه ، فيظن أنه لم يأخذ منه ، فيحمل كلامه على غير محمل كلام من أخذ منه ، فيجعل الخلاف فيما لا خلاف فيه ، أو الوفاق فيما فيه خلاف ، وقد يقصد أحدهم حكاية معنى ألفاظ الغير ، وربما كانوا ممن لا يرى جواز نقل المعنى دون اللفظ ، وقد يكون فاعل ذلك ممن يعلل المنع في صورة الفرض بما يفضي إليه من التحريف غالبا ، وهذا المعنى موجود في ألفاظ أكثر الأئمة ، فمن عرف حقيقة هذه الأسباب : ربما رأى ترك التصنيف أولى ، إن لم يحترز عنها ، لما يلزم من هذه المحاذير وغيرها غالبا ، فإن قيل : يرد هذا فعل القدماء وإلى الآن من غير نكير ، وهو دليل على الجواز ، وإلا امتنع على الأئمة ترك الإنكار إذن ، { وينهون عن المنكر } ونحوها من نصوص الكتاب والسنة .

قلت : الأولون لم يفعلوا شيئا مما عنيناه ، [ ص: 274 ] فإن الصحابة لم ينقل عن واحد منهم تأليف ، فضلا عن أن يكون على هذه الصفة ، وفعلهم غير ملزم لمن لا يعتقده حجة ، بل لا يكون ملزما لبعض العوام عند من لا يرى أن العامي ملزوم بالتزامه مذهب إمام معين ، فإن قيل : إنما فعلوا ذلك ليحفظوا الشريعة من الإغفال والإهمال ، قلنا : قد كان أحسن من هذا في حفظها أن يدونوا الوقائع والألفاظ النبوية وفتاوى الصحابة ، ومن بعدهم على جهاتها وصفاتها ، مع ذكر أسبابها كما ذكرنا سابقا حتى يسهل على المجتهد معرفة مراد كل إنسان بحسبه ، فيقلده على بيان وإيضاح ، [ ص: 275 ] وإنما عنينا ما وقع في التآليف من هذه المحاذير ، لا مطلق التأليف ، وكيف يعاب مطلقا ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { قيدوا العلم بالكتابة } فلما لم يميزوا في الغالب ما نقلوه مما خرجوه ، ولا ما عللوه مما أهملوه ، وغير ذلك مما سبق بأن الفرق بين ما عبناه وبين ما صنفناه ، وأكثر هذه الأمور المذكورة يمكن أن أذكرها من ذكر المذهب مسألة مسألة ، لكنه يطول هنا ، وإذا علمت عقد اعتذارنا ، وخيرة اختيارنا ، فنقول : الأحكام المستفادة من مذهبنا وغيره من اللفظ : أقسام كثيرة ، منها : أن يكون لفظ الإمام رضي الله عنه بعينه ، أو إيمائه ، أو تعليله ، أو سياق كلامه ومنها : أن يكون مستنبطا من لفظه : إما اجتهادا من الأصحاب ، أو بعضهم ، ومنها : ما قيل " إنه الصحيح من المذهب " .

ومنها : ما قيل " إنه ظاهر المذهب " ومنها ما قيل " إنه المشهور من المذهب " ، ومنها : ما قيل " نص عليه " يعني الإمام أحمد رضي الله عنه ، ولم يتعين لفظه ، ومنها : ما قيل " إنه ظاهر كلام الإمام " ولم يعين قائله لفظ الإمام رضي الله عنه ومنها : ما قيل " ويحتمل كذا " ولم يذكر أنه يريد بذلك كلام الإمام رضي الله عنه ، أو غيره ، ومنها : ما ذكر من الأحكام سردا ، ولم يوصف بشيء أصلا ، فيظن سامعه : أنه مذهب الإمام رضي الله عنه ، وربما كان بعض الأقسام المذكورة آنفا ، [ ص: 276 ] ومنها : ما قيل " إنه مشكوك فيه " ، ومنها : ما قيل " إنه توقف فيه الإمام أحمد رضي الله عنه ولم يذكر لفظه فيه " ، ومنها : ما قال فيه بعضهم " اختياري " ولم يذكر له أصلا من كلام الإمام أحمد رضي الله عنه أو غيره ، ومنها : ما قيل " إنه خرج على رواية كذا " أو " على قول كذا " ولم يذكر لفظ الإمام رضي الله عنه فيه ، ولا تعليله ، ومنها : أن يكون مذهبا لغير الإمام رضي الله عنه ولم يعين ربه ، ومنها : أن يكون لم يقل به أحد ، لكن القول به لا يكون خرقا لإجماعهم ، ومنها : أن يكون بحيث يصح تخريجه على وفق مذاهبهم ، لكنهم لم يتعرضوا له بنفي ولا إثبات . انتهى كلام ابن حمدان .

وفي بعضه شيء وقع هو فيه في تصانيفه ، ولعله بعد تصنيف هذا الكتاب ، ووقع للمصنف وغيره حكاية هذه الألفاظ الأخيرة في كتبهم ، وتقدم التنبيه على ما هو أكثر من ذلك وأعظم فائدة في الخطبة في الكلام على مصطلح المصنف في كتابه هذا ، مع أني لم أطلع على كتابه وقت الخطبة ، والله أعلم ، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية