صفحة جزء
باب الحج عن الغير

الأصل أن كل من أتى بعبادة ما ، [ ص: 596 ] له جعل ثوابها لغيره وإن نواها عند الفعل لنفسه لظاهر الأدلة . وأما قوله تعالى - { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } - أي إلا إذا وهبه له كما حققه الكمال ، [ ص: 597 ] أو اللام بمعنى على كما في - { ولهم اللعنة } - ولقد أفصح الزاهدي عن اعتزاله هنا والله الموفق .


باب الحج عن الغير

اعترض في الفتح بأن إدخال أل على الغير غير واقع على وجه الصحة بل هو ملزوم الإضافة ا هـ لكن قال بعض أئمة النحاة : منع قوم دخول الألف واللام على غير وكل وبعض ، وقالوا هذه كما لا تتعرف بالإضافة لا تتعرف بالألف واللام .

[ ص: 595 ] مطلب في دخول أل على غير . وعندي أنها تدخل عليها ، فيقال فعل الغير كذا ، والكل خير من البعض ، وهذا لأن الألف واللام هنا ليست للتعريف ولكنها المعاقبة للإضافة ، لأنه قد نص أن غيرا تتعرف بالإضافة في بعض المواضع . ثم إن الغير قد يحمل على الضد والكل على الجملة والبعض على الجزء ، فيصلح دخول الألف واللام عليه أيضا من هذا الوجه ، يعني أنها تتعرف على طريقة حمل النظير على النظير ، فإن الغير نظير الضد والكل نظير الجملة ، والبعض نظير الجزء ، وحمل النظير على النظير سائغ شائع في لسان العرب كحمل الضد على الضد ، كما لا يخفى على من تتبع كلامهم ، وقد نص العلامة الزمخشري على وقوع هذين الحملين وشيوعهما في لسانهم في الكشاف أفاده ابن كمال . مطلب في إهداء ثواب الأعمال للغير ( قوله بعبادة ما ) أي سواء كانت صلاة أو صوما أو صدقة أو قراءة أو ذكرا أو طوافا أو حجا أو عمرة ، أو غير ذلك من زيارة قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء والأولياء والصالحين ، وتكفين الموتى ، وجميع أنواع البر كما في الهندية ط وقدمنا في الزكاة عن التتارخانية عن المحيط الأفضل لمن يتصدق نفلا أن ينوي لجميع المؤمنين والمؤمنات لأنها تصل إليهم ولا ينقص من أجره شيء . ا هـ .

وفي البحر بحث أن إطلاقهم شامل للفريضة لكن لا يعود الفرض في ذمته لأن عدم الثواب لا يستلزم عدم السقوط عن ذمته ا هـ . على أن الثواب لا ينعدم كما علمت ، وسنذكر فيما لو أهل بحج عن أبويه أنه قيل إنه يجزيه عن حج الفرض ، وهذا يؤيد ما بحثه في البحر ، ويؤيده أيضا قوله في جامع الفتاوى ، وقيل لا يجوز في الفرائض . وبحث أيضا أن الظاهر أنه لا فرق بين أن ينوي به عند الفعل للغير أو يفعله لنفسه ثم يجعل ثوابه لغيره لإطلاق كلامهم . ا هـ . قلت : وإذا قلنا بشموله للفريضة أفاد ذلك لأن الفرض ينويه عن نفسه ، فإذا صح جعل ثوابه لغيره دل على أنه لا يلزم في وصول الثواب أن ينوي الغير عند الفعل ، وقدمنا في آخر الجنائز قبيل باب الشهيد عن ابن القيم الحنبلي أنه اختلف عندهم في أنه هل يشترط نية الغير عند الفعل ؟ فقيل لا لكون الثواب له فله التبرع به لمن أراد ، وقيل نعم وهو الأولى لأنه إذا وقع له لم يقبل انتقاله عنه ، وقدمنا عنه أيضا أنه لا يشترط في الوصول أن يهديه بلفظه كما لو أعطى فقيرا بنية الزكاة لأن السنة لم تشترط ذلك في حديث الحج عن الغير ونحوه ، نعم لو فعله لنفسه ثم نوى جعل ثوابه لغيره لم يكف كما لو نوى أن يهب أو يعتق أو يتصدق ، وأنه يصح إهداء نصف الثواب أو ربعه . ويوضحه أنه لو أهدى الكل إلى أربعة يحصل لكل ربعه ، وتمامه هناك . مطلب فيمن أخذ في عبادته شيئا من الدنيا .

[ تنبيه ] قال في البحر : ولم أر حكم من أخذ شيئا من الدنيا ليجعل شيئا من عبادته للمعطي ، وينبغي أن لا يصح ذلك ا هـ أي لأنه إن كان أخذه على عبادة سابقة يكون ذلك بيعا لها ، وذلك باطل قطعا ، وإن كان أخذه ليعمل يكون إجارة على الطاعة وهي باطلة أيضا كما نص عليه في المتون والشروح والفتاوى ، إلا فيما استثناه المتأخرون من جواز [ ص: 596 ] الاستئجار على التعليم والأذان والإمامة وعللوه بالضرورة وخوف ضياع الدين في زماننا لانقطاع ما كان يعطى من بيت المال . وبه علم أنه لا يجوز الاستئجار على الحج عن الميت لعدم الضرورة كما يأتي بيانه في هذا الباب ، ولا على التلاوة والذكر لعدم الضرورة أيضا ، وتمام الكلام على ذلك في رسالتنا [ شفاء العليل وبل الغليل ، في بطلان الوصية بالختمات والتهاليل ] فافهم ( قوله له جعل ثوابها لغيره ) أي خلافا للمعتزلة في كل العبادات ولمالك والشافعي في العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة فلا يقولان بوصولها بخلاف غيرها كالصدقة والحج ، وليس الخلاف في أن له ذلك أو لا كما هو ظاهر اللفظ ، بل في أنه ينجعل بالجعل أو لا بل يلغو جعله ، أفاده في الفتح : أي الخلاف في وصول الثواب وعدمه ( قوله لغيره ) أي من الأحياء والأموات بحر عن البدائع . قلت : وشمل إطلاق الغير النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر من صرح بذلك من أئمتنا ، وفيه نزاع طويل لغيرهم .

والذي رجحه الإمام السبكي وعامة المتأخرين منهم الجواز كما بسطناه آخر الجنائز فراجعه ( قوله وإن نواها إلخ ) قدمنا الكلام عليه قريبا ( قوله لظاهر الأدلة ) علة لقوله له جعل ثوابها لغيره وهو من إضافة الصفة للموصوف : أي للأدلة الظاهرة أي الواضحة الجلية ، فالظهور بالمعنى اللغوي لا الأصولي ، لأن الأدلة فيه متواترة قطعية الدلالة على المراد لا تحتمل التأويل كما تعرفه ( قوله أي إلا إذا وهبه ) جواب قوله وأما ، وأسقط الفاء من جوابها وهو لا يسقط إلا في ضرورة الشعر كقوله

فأما القتال لاقتال لديكم

كما في المغني . وأجاب عن قوله تعالى { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم } بأن الأصل فيقال لهم أكفرتم ، فحذف القول استغناء عنه بالمقول فتبعته الفاء في الحذف . قال : ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا كالحاج عن غيره يصلي عنه ركعتي الطواف ، ولو صلى أحد عن غيره ابتداء لا يصح على الصحيح ا هـ وكذلك الجواب هنا محذوف مع الفاء استغناء عنه بأي المفسرة له . والتقدير : وأما قوله تعالى فمؤول أي إلا إذا وهبه ، على أن الدماميني اختار جواز حذف الفاء في سعة الكلام واستشهد له بالأحاديث والآثار ( قوله كما حققه الكمال ) حيث قال ما حاصله : أن الآية وإن كانت ظاهرة فيما قاله المعتزلة ، لكن يحتمل أنها منسوخة أو مقيدة ; وقد ثبت ما يوجب المصير إلى ذلك وهو ما صح عنه صلى الله عليه وسلم " { أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عنه والآخر عن أمته } " فقد روي هذا عن عدة من الصحابة وانتشر مخرجوه ; فلا يبعد أن يكون مشهورا يجوز تقييد الكتاب به بما لم يجعله صاحبه لغيره .

وروى الدارقطني " { أن رجلا سأله عليه الصلاة والسلام فقال : كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما ; فقال صلى الله عليه وسلم : إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك وأن تصوم لهما مع صومك } " وروي أيضا عن علي عنه صلى الله عليه وسلم قال " { من مر على المقابر وقرأ { قل هو الله أحد } إحدى عشرة مرة ثم وهب أجرها للأموات أعطي من الأجر بعدد الأموات } " وعن { أنس قال يا رسول الله إنا نتصدق عن موتانا ونحج عنهم وندعو لهم ، فهل يصل ذلك لهم ؟ قال نعم ، إنه ليصل إليهم ، وإنهم ليفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أهدي إليه } " رواه أبو حفص العكبري . وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال " { اقرءوا على موتاكم يس } " رواه أبو داود ، فهذا كله ونحوه مما تركناه خوف الإطالة يبلغ القدر المشترك بينه وهو النفع بعمل الغير مبلغ التواتر ، وكذا ما في الكتاب العزيز من الأمر بالدعاء للوالدين ، ومن الإخبار باستغفار الملائكة للمؤمنين [ ص: 597 ] قطعي في حصول النفع ، فيخالف ظاهر الآية التي استدلوا بها إذ ظاهرها أن لا ينفع استغفار أحد لأحد بوجه من الوجوه لأنه ليس من سعيه ، فقطعنا بانتفاء إرادة ظاهرها فقيدناها بما لم يهبه العامل ، وهذا أولى من النسخ لأنه أسهل إذ لم يبطل بعد الإرادة ، ولأنها من قبيل الإخبار ولا نسخ في الخبر . ا هـ . ( قوله أو اللام بمعنى على ) جواب آخر ورده الكمال بأنه بعيد من ظاهر الآية ومن سياقها فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدى . ا هـ . وأيضا فإنها تتكرر مع قوله تعالى { أن لا تزر وازرة وزر أخرى } وأجيب بأجوبة أخرى ذكرها الزيلعي وغيره . منها : النسخ بآية { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان } وعلمت ما فيه . ومنها : أنها خاصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام لأنها حكاية عما في صحفهما . ومنها : أن المراد بالإنسان الكافر . ومنها : أنه ليس من طريق العدل وله من طريق الفضل . ومنها : أنه ليس له إلا سعيه ، لكن قد يكون سعيه بمباشرة أسبابه بتكثير الإخوان وتحصيل الإيمان .

وأما قوله عليه الصلاة والسلام " { إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث } " فلا يدل على انقطاع عمل غيره ، والكلام فيه . زيلعي . وأما قوله عليه الصلاة والسلام " { لا يصوم أحد عن أحد ، ولا يصلي أحد عن أحد } " فهو في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب كما في البحر ( قوله ولقد أفصح الزاهدي إلخ ) حيث قال في المجتبى بعد ذكره عبارة الهداية . قلت : ومذهب أهل العدل والتوحيد أنه ليس له ذلك إلخ فعدل عن الهداية وسمى أهل عقيدته بأهل العدل والتوحيد ، لقولهم بوجوب الأصلح على الله تعالى ، وأنه لو لم يفعل ذلك لكان جورا منه تعالى ولقولهم بنفي الصفات ، وأنه لو كان له صفات قديمة لتعدد القدماء والقديم واحد ، وبيان إبطال عقيدتهم الزائغة في كتب الكلام ، وقد نقل كلامه في معراج الدراية وتكفل برده ; وكذلك الشيخ مصطفى الرحمتي في حاشيته فقد أطال وأطاب ، وأوضح الخطأ من الصواب ( قوله والله الموفق ) لا يخفى على ذوي الأفهام ما فيه من حسن الإيهام .

التالي السابق


الخدمات العلمية