صفحة جزء
[ ص: 622 ] هل الحج يكفر الكبائر ؟ قيل نعم كحربي أسلم ، وقيل غير المتعلقة بالآدمي كذمي أسلم . وقال عياض : أجمع أهل السنة أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة ، ولا قائل بسقوط الدين ولو حقا لله تعالى كدين صلاة وزكاة ، نعم إثم المطل وتأخير الصلاة ونحوها يسقط ، وهذا معنى التكفير على القول به ، وحديث ابن ماجه { أنه عليه الصلاة والسلام استجيب له حتى في الدماء والمظالم } [ ص: 623 - 624 ] ضعيف .


مطلب في تكفير الحج الكبائر ( قوله قيل نعم إلخ ) أي لحديث ابن ماجه في سننه المروي عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس أن أباه أخبره عن أبيه " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة فأجيب إني قد غفرت لهم ما خلا المظالم فإني آخذ للمظلوم منه ، فقال : أي رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشية عرفة فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل } " الحديث . وقال ابن حبان : إن كنانة روى عنه ابنه منكر الحديث وكلاهما ساقط الاحتجاج . وقال البيهقي : هذا الحديث له شواهد كثيرة ذكرناها في كتاب الشعب ، فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإلا فقد قال تعالى { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وظلم بعضهم بعضا دون الشرك ا هـ وروى ابن المبارك أنه صلى الله عليه وسلم قال " { إن الله عز وجل قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات ، فقام عمر فقال يا رسول الله هذا لنا خاصة ؟ قال : هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة ، فقال عمر رضي الله عنه كثر خير ربنا وطاب } " وتمامه في الفتح ، وساق فيه أحاديث أخر . [ ص: 623 ] والحاصل أن حديث ابن ماجه وإن ضعف فله شواهد تصححه والآية أيضا تؤيده ، ومما يشهد له أيضا حديث البخاري مرفوعا " { من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه } " وحديث مسلم مرفوعا " { إن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وإن الحج يهدم ما كان قبله } " لكن ذكر الأكمل في شرح المشارق في هذا الحديث أن الحربي تحبط ذنوبه كلها بالإسلام والهجرة والحج ، حتى لو قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لم يؤاخذ بشيء من ذلك ، وعلى هذا كان الإسلام كافيا في تحصيل مراده ، ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة والحج تأكيدا في بشارته وترغيبا في مبايعته فإن الهجرة والحج لا يكفران المظالم ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر ، وإنما يكفران الصغائر

. ويجوز أن يقال والكبائر التي ليست من حقوق أحد كإسلام الذمي ا هـ ملخصا ، وكذا ذكر الإمام الطيبي في شرحه وقال إن الشارحين اتفقوا عليه ، وهكذا ذكر النووي والقرطبي في شرح مسلم كما في البحر . وفي شرح اللباب ومشى الطيبي على أن الحج يهدم الكبائر والمظالم ، ووقع منازعة غريبة بين أمير بادشاه من الحنفية حيث مال إلى قول الطيبي وبين الشيخ ابن حجر المكي من الشافعية ، وقد مال إلى قول الجمهور وكتبت رسالة في بيان هذه المسألة . ا هـ .

قلت : وظاهر كلام الفتح الميل إلى تكفير المظالم أيضا ، وعليه مشى الإمام والسرخسي في شرح السير الكبير وقاس عليه الشهيد الصابر المحتسب ، وعزاه أيضا المناوي إلى القرطبي في شرح حديث " { من حج فلم يرفث } إلخ فقال : وهو يشمل الكبائر والتبعات ، وإليه ذهب القرطبي . وقال عياض : هو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها . وقال الترمذي : هو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحق الله تعالى لا العباد ، ولا يسقط الحق نفسه بل من عليه صلاة يسقط عنه إثم تأخيرها لا نفسها ، فلو أخرها بعد تجدد إثم آخر ا هـ ونحوه في البحر ، وحقق ذلك البرهان اللقاني في شرحه الكبير على جوهرة التوحيد بأن قوله صلى الله عليه وسلم " { خرج من ذنوبه } " لا يتناول حقوق الله تعالى وحقوق عباده لأنها في الذمة ليست ذنبا وإنما الذنب المطل فيها ، فالذي يسقط إثم مخالفة الله تعالى . ا هـ . والحاصل أنه تأخير الدين وغيره وتأخير نحو الصلاة والزكاة من حقوقه تعالى ، فيسقط إثم التأخير فقط عما مضى دون الأصل ودون التأخير المستقبل . قال في البحر : فليس معنى التكفير كما يتوهمه كثير من الناس أن الدين يسقط عنه ، وكذا قضاء الصلاة والصوم والزكاة إذ لم يقل أحد بذلك . ا هـ .

وبهذا ظهر أن قول الشارح كحربي أسلم في غير محله لاقتضائه كما قال ح سقوط نفس الحق ولا قائل به كما علمته بل هذا الحكم يخص الحربي كما مر عن الأكمل . قلت : قد يقال بسقوط نفس الحق إذا مات قبل المقدرة على أدائه سواء كان حق الله تعالى أو حق عباده ، وليس في تركته ما يفي به لأنه إذا سقط إثم التأخير ولم يتحقق منه إثم بعده فلا مانع من سقوط نفس الحق ، أما حق الله تعالى فظاهر ، وأما حق العبد فالله تعالى يرضي خصمه عنه كما مر في الحديث . والظاهر أن هذا هو مراد القائلين بتكفير المظالم أيضا وإلا لم يبق للقول بتكفيرها محل ، على أن نفس مطل الدين حق عبد أيضا لأن فيه جناية عليه بتأخير حقه عنه ، فحيث قالوا بسقوطه فليسقط نفس الدين أيضا عند العجز كما تقدم عن عياض ، لكن تقييد عياض بالتوبة والعجز غير ظاهر لأن التوبة مكفرة بنفسها وهي إنما تسقط حق الله تعالى لا حق [ ص: 624 ] العبد ، فتعين كون المسقط هو الحج كما اقتضته الأحاديث المارة ; أما أنه لا قائل بسقوط الدين فنقول : نعم ذلك عند القدرة عليه بعد الحج . وعليه يحمل كلام الشارحين المار . وحينئذ صح قول الشارح كحربي أسلم بهذا الاعتبار فافهم . ثم اعلم أن تجويزهم تكفير الكبائر بالهجرة والحج مناف لنقل عياض الإجماع على أنه لا يكفرها إلا التوبة ولا سيما على القول بتكفير المظالم أيضا ، بل القول بتكفير إثم المطل وتأخير الصلاة ينافيه لأنه كبيرة وقد كفرها الحج بلا توبة .

وكذا ينافيه عموم قوله تعالى - { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } - وهو اعتقاد أهل الحق أن من مات مصرا على الكبائر كلها سوى الكفر فإنه قد يعفى عنه بشفاعة أو بمحض الفضل . والحاصل كما في البحر أن المسألة ظنية فلا يقطع بتكفير الحج للكبائر من حقوقه تعالى فضلا عن حقوق العباد ، والله تعالى أعلم ( قوله ضعيف ) أي بكنانة وابنه عبد الله فإنهما ساقطا الاحتجاج كما مر لا بأبيه العباس بن مرداس كما وقع في البحر فإنه صحابي والصحابة كلهم عدول كما بين في محله فافهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية