صفحة جزء
لكن يا أخي بعد الوقوف [ ص: 25 ] على حقيقة الحال ، والاطلاع على ما حرره المتأخرون كصاحب البحر والنهر والفيض والمصنف وجدنا المرحوم وعزمي زاده وأخي زاده وسعدي أفندي والزيلعي والأكمل [ ص: 26 ] والكمال وابن الكمال ، مع تحقيقات سنح بها البال ، وتلقيتها عن فحول الرجال [ ص: 27 ] ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه ، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ، ومع هذا فمن أتقن كتابي هذا فهو الفقيه الماهر ، ومن ظفر بما فيه ، فسيقول بملء فيه : كم ترك الأول للآخر [ ص: 28 ] ومن حصله فقد حصل له الحظ الوافر ، لأنه هو البحر لكن بلا ساحل ، ووابل القطر غير أنه متواصل بحسن عبارات ورمز إشارات وتنقيح معاني ، وتحرير مباني ، وليس الخبر كالعيان ، [ ص: 29 ] وستقر به بعد التأمل العينان ، فخذ ما نظرت من حسن روضه الأسمى ، ودع ما سمعت عن الحسن وسلمى :

خذ ما نظرت ودع شيئا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل




( قوله : لكن يا أخي إلخ ) لما كان الإذن بالإصلاح مطلقا استدرك عليه بقوله بعد الوقوف وهو ظرف ليصلح كما أفاده ح : أي يصلح بعد [ ص: 25 ] وقوفه واطلاعه على هذه الكتب لا بمجرد الخطور بالبال . ويصح تعلقه بقوله وأن يتلافى تلافه . ويحتمل تعلقه بقوله فصرفت عنان العناية نحو الاختصار : أي إنما اختصرته بعد الوقوف على حقيقة الحال : أي حال المسائل ومعرفة ضعيفها من قويها ، ويدل له قوله : مع تحقيقات سنح إلخ ، ويدل للأول قوله : ويأبى الله إلخ أفاده ط ( قوله : على حقيقة الحال ) حقيقة الشيء : ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان ، بخلاف مثل الضاحك والكاتب مما يمكن تصور الإنسان بدونه تعريفات السيد ( قوله : كصاحب البحر ) هو العلامة الشيخ زين بن نجيم وتقدمت ترجمته ( قوله : والنهر ) أي وكصاحب النهر ، وهو العلامة الشيخ عمر سراج الدين الشهير بابن نجيم ، الفقيه المحقق ، الرشيق العبارة الكامل الاطلاع ، كان متبحرا في العلوم الشرعية ، غواصا على المسائل الغريبة ، محققا إلى الغاية ، وجيها عند الحكام ، معظما عند الخاص والعام ، توفي سنة خمس بعد الألف ، ودفن عند شيخه وأخيه الشيخ زين محبي ملخصا ، وله كتاب إجابة السائل في اختصار أنفع الوسائل وغير ذلك ( قوله : والفيض ) أي وكصاحب الفيض وهو الكركي قال التميمي في طبقات الحنفية : إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن إسماعيل الكركي الأصل ، القاهري المولد والوفاة ، لازم التقي الحصني والتقي الشمني ، وحضر دروس الكافيجي ، وأخذ عن ابن الهمام ، وترجمه السخاوي في الضوء بترجمة حافلة ، وذكر أنه جمع في الفقه فتاوى في مجلدين ، وأن له حاشية على توضيح ابن هشام ا هـ ملخصا ، وتوفي سنة ( 923 ) وأراد بالفتاوى الفيض المذكور المسمى فيض المولى الكريم على عبده إبراهيم ، وقد قال في خطبته : وضعت في كتابي هذا ما هو الراجح والمعتمد ، ليقطع بصحة ما يوجد فيه أو منه يستمد ( قوله : والمصنف ) تقدمت ترجمته ( قوله : وجدنا المرحوم ) هو الشيخ محمد شارح الوقاية . ا هـ . ابن عبد الرزاق ، ولم أقف له على ترجمة ( قوله : وعزمي زاده ) هو العلامة مصطفى بن محمد الشهير بعزمي زاده ، أشهر متأخري العلماء بالروم ، وأغزرهم مادة في المنطوق والمفهوم ، ذو التآليف الشهيرة ، منها حاشية على الدرر والغرر وحاشية على شرح المنار لابن ملك ، توفي في حدود سنة أربعين بعد الألف محبي ملخصا ( قوله : وأخي زاده ) قال المحبي في تاريخه : هو عبد الحليم بن محمد الشهير المعروف بأخي زاده أحد أفراد الدولة العثمانية وسراة علمائها ، كان نسيجا وحده في ثقوب الذهن وصحة الإدراك والتضلع من العلوم . وله تآليف كثيرة منها شرح على الهداية ; وتعليقات على شرح المفتاح ; وجامع الفصولين والدرر والغرر والأشباه والنظائر وتوفي سنة ثلاث عشرة بعد الألف ا هـ ملخصا . وذكر ابن عبد الرزاق أن الذي في الخزائن أخي جلبي بدل أخي زاده ، وهو صاحب حاشية صدر الشريعة المسماة بذخيرة العقبي واسمه يوسف بن جنيد ، وهو تلميذ منلا خسرو . ا هـ . ( قوله : وسعدي أفندي ) اسمه سعد الله بن عيسى بن أمير خان الشهير بسعدي جلبي مفتي الديار الرومية ، له حاشية على تفسير البيضاوي وحاشية على العناية شرح الهداية ، ورسائل وتحريرات معتبرة ، ذكره حافظ الشام البدر الغزي العامري في رحلته ، وبالغ في الثناء عليه والتميمي في الطبقات . ونقل عن الشقائق النعمانية أنه توفي سنة ( 945 ) ( قوله : والزيلعي ) هو الإمام فخر الدين أبو محمد عثمان بن علي صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، قدم القاهرة سنة ( 705 ) وأفتى ودرس وصنف وانتفع الناس به كثيرا ونشر الفقه ، ومات بها سنة ( 743 ) ( قوله : والأكمل ) هو الإمام المحقق الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد البابرتي . ولد في بضع عشرة وسبعمائة . وأخذ عن أبي حيان والأصفهاني ، وسمع الحديث من الدلاصي وابن عبد الهادي ، وكان علامة ذا فنون ، وافر [ ص: 26 ] العقل ، قوي النفس ، عظيم الهيبة ، أخذ عنه العلامة السيد الشريف والعلامة الفنري ، وعرض عليه القضاء فامتنع . له التفسير وشرح المشارق وشرح مختصر ابن الحاجب . وشرح عقيدة الطوسي والعناية شرح الهداية وشرح السراجية ، وشرح ألفية ابن معطي ، وشرح المنار وشرح تلخيص المعاني ، والتقرير شرح أصول البزدوي ، توفي سنة ( 786 ) وحضر جنازته السلطان فمن دونه ، ودفن بالشيخونية في مصر ( قوله : والكمال ) هو الإمام المحقق حيث أطلق محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد السيواسي ثم السكندري كمال الدين بن الهمام ولد تقريبا سنة ( 790 ) وتفقه بالسراج قارئ الهداية وبالقاضي محب الدين بن الشحنة ، لم يوجد مثله في التحقيق ، وكان يقول أنا لا أقلد في المعقولات أحدا . وقال البرهان الأبناسي وكأنه من أقرانه لو طلبت حجج الدين ما كان في بلدنا من يقوم بها غيره ، وكان له نصيب وافر مما لأصحاب الأحوال من الكشف والكرامات ، وكان تجرد أولا بالكلية ، فقال له أهل الطريق ارجع ، فإن للناس حاجة بعلمك ، وكان يأتيه الوارد كما يأتي السادة الصوفية لكنه يقلع عنه بسرعة لمخالطته للناس ، وشرح الهداية شرحا لا نظير له سماه فتح القدير ، وصل فيه إلى أثناء كتاب الوكالة ، وله كتاب التحرير في الأصول الذي لم يؤلف مثله وشرحه تلميذه ابن أمير حاج ، وله المسايرة في العقائد ، وزاد الفقير في العبادات . توفي بالقاهرة سنة ( 861 ) وحضر جنازته السلطان فمن دونه كما في طبقات التميمي ملخصا ( قوله : وابن الكمال ) هو أحمد بن سليمان بن كمال باشا ، الإمام العالم العلامة الرحلة الفهامة . كان بارعا في العلوم ، وقلما أن يوجد فن إلا وله فيه مصنف أو مصنفات دخل إلى القاهرة صحبة للسلطان سليم لما أخذها من يد الجراكسة ، وشهد له أهلها بالفضل والإتقان ، وله تفسير القرآن العزيز ، وحواش على الكشاف وحواش على أوائل البيضاوي وشرح الهداية لم يكمل والإصلاح والإيضاح في الفقه وتغيير التنقيح في الأصول وشرحه . وتغيير السراجية في الفرائض وشرحه وتغيير المفتاح وشرحه وحواشي التلويح وشرح المفتاح ، ورسائل كثيرة في فنون عديدة لعلها تزيد على ثلثمائة رسالة ، وتصانيف في الفارسية وتاريخ آل عثمان بالتركية وغير ذلك ، وكان في كثرة التآليف والسرعة بها وسعة الاطلاع في الديار الرومية كالجلال السيوطي في الديار المصرية . وعندي أنه أدق نظرا من السيوطي وأحسن فهما ، على أنهما كانا جمال ذلك العصر ، ولم يزل مفتيا في دار السلطنة إلى أن توفي سنة ( 940 ) . ا هـ . تميمي ملخصا ( قوله : مع تحقيقات ) حال من ما حرره : أي مصاحبا ما حرره هؤلاء الأئمة لتحقيقات ا هـ ح ، والمراد بها حل المعاني العويصة ، ودفع الإشكالات الموردة على بعض المسائل أو على بعض العلماء ، وتعيين المراد من العبارات المحتملة ونحو ذلك وإلا فذات الفروع الفقهية لا بد فيها من النقل عن أهلها . ( قوله : سنح بها البال ) في القاموس : سنح لي رأي كمنع سنوحا وسنحا وسنحا : عرض وبكذا عرض ولم يصرح ا هـ فعلى الأول هو من باب القلب مثل أدخلت القلنسوة في رأسي والأصل سنحت : أي عرضت بالبال أي في خاطري وقلبي ، وعلى الثاني لا قلب ; والمعنى عليه أن قلبي وخاطري عرض بها ولم يصرح ، وهذا ما جرت عليه عادته رحمه الله تعالى من التعريض بالرموز الخفية كما يشير إليه قريبا ( قوله : وتلقيتها ) أي أخذتها عن أشياخي عن فحول الرجال : أي الرجال الفحول الفائقين على غيرهم . في القاموس : الفحل الذكر من كل حيوان ، وفحول الشعراء الغالبون بالهجاء على من هاجاهم . ا هـ . قال ح : وأورد أن بين الجملتين ، تنافيا ، فإن البال إذا ابتكر هذه التحقيقات جميعها فكيف يكون متلقيا لها جميعها عن فحول الرجال ؟ وقد يجاب بأنه على تقدير مضاف : أي سنح ببعضها البال وتلقيت بعضها عن فحول الرجال ا هـ أي فهو على حد [ ص: 27 ] قوله تعالى - { ومن الجبال جدد بيض وحمر } - ( قوله : ويأبى الله العصمة إلخ ) أبى الشيء يأباه ويأبيه إباء وإباءة بكسرهما كرهه قاموس . وهذا اعتذار منه رحمه الله تعالى : أي إن هذا الكتاب وإن كان مشتملا على ما حرره المتأخرون وعلى التحقيقات المذكورة لكنه غير معصوم . أي غير ممنوع من وقوع الخطأ والسهو فيه . فإن الله تعالى لم يرض ، أو لم يقدر العصمة لكتاب غير كتابه العزيز الذي قال فيه - { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } - فغيره من الكتب قد يقع فيه الخطأ والزلل ، لأنها من تآليف البشر والخطأ والزلل من شعارهم . [ تنبيه ] قال الإمام العلامة عبد العزيز النجاري في شرحه على أصول الإمام البزدوي ما نصه : روى البويطي عن الشافعي رضي الله عنهما أنه قال له : إني صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب . ولا بد أن يوجد فيها ما يخالف ، كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى - { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } - فما وجدتم فيها مما يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإني راجع عنه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال المزني : قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمانين مرة ، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأ . فقال الشافعي : هيه ، أبى الله أن يكون كتابا صحيحا غير كتابه . ا هـ . ( قوله : قليل . خطأ المرء ) أي خطأ المرء القليل . فهو من إضافة الصفة للموصوف . وعبر بالخطأ إشارة إلى أن ذلك واقع لا عن اختيار . فالإثم مرفوع والثواب ثابت ط ( قوله : في كثير صوابه ) متعلق بمحذوف حال من الخطأ : أي الخطأ القليل كائنا في أثناء الصواب الكثير أو باغتفر . وفي بمعنى مع . أو للتعليل أفاده ط . ولا يخفى ما في الجمع بين قليل وكثير وخطإ وصواب من الطباق ( قوله : ومع هذا ) أي مع ما حواه من التحريرات والتحقيقات . ا هـ . ح . قلت : والأولى جعله مرتبطا بقوله ويأبى الله . أي مع كونه غير محفوظ من الخلل فمن أتقنه كما تقول فلان بخيل ومع ذلك فهو أحسن حالا من فلان ط ( قوله : فهو الفقيه ) الجملة خبر من قرنت بالفاء لعموم المبتدأ فأشبه الشرط . والمراد بالفقيه من يحفظ الفروع الفقهية ويصير له إدراك في الأحكام المتعلقة بنفسه وغيره وسيأتي الكلام على معنى الفقه لغة واصطلاحا ط ( قوله : الماهر ) أي الحاذق قاموس ( قوله : ومن ظفر ) في القاموس : الظفر بالتحريك الفوز بالمطلوب ظفره وظفر به وعليه ( قوله : بما فيه ) أي من التحريرات والتحقيقات والفروع الجمة والمسائل المهمة ( قوله : فسيقول ) أتى بسين التنفيس لأن ذلك يكون عند السؤال أو للناظرة مع الإخوان غالبا ، أو أنها زائدة أفاده ط أو لأنه إنما يكون بعد اطلاعه على غيره من الكتب التي حررها غيره وطولها بنقل الأقوال الكثيرة والتعليلات الشهيرة ، وخلافيات المذاهب والاستدلالات من خلوها من تكثير الفروع والتعويل على المعتمد منها كغالب شروح الهداية وغيرها . فإذا اطلع على ذلك علم أن هذا الشرح هو الدرة الفريدة الجامع لتلك الأوصاف الحميدة ، ولذا أكب عليه أهل هذا الزمان في جميع البلدان . ( قوله : بملء فيه ) الملء بالكسر : اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ وبهاء هيئة الامتلاء ومصدره ملء قاموس ، وفيه استعارة تصريحية حيث شبه الكلام الصريح الذي يستحسنه قائله ويرتضيه ، ولا يتحاشى عن الجهر به بما يملأ الإناء بجامع بلوغ كل إلى النهاية أو مكنية حيث شبه الفم بالإناء والملء تخييل . وهو كناية عن الإتيان بهذا القول جهرا بلا توقف ولا خوف من تكذيب طاعن ، وبين قوله فيه وفيه الجناس التام ( قوله : كم ترك الأول للآخر ) مقول القول وكم خبرية للتكثير [ ص: 28 ] مفعول ترك ، والمراد بالأول والآخر جنس من تقدم في الزمن ومن تأخر ، وهذا في معنى ما قاله ابن مالك في خطبة التسهيل : وإذا كانت العلوم منحا إلهية ، ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ، ما عسر على كثير من المتقدمين . ا هـ . وأنت ترى كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل ، لأن المتقدمين كان مصرف أذهانهم إلى استنباط المسائل وتقويم الدلائل ; فالعالم المتأخر يصرف ذهنه إلى تنقيح ما قالوه ، وتبيين ما أجملوه ، وتقييد ما أطلقوه ، وجمع ما فرقوه ، واختصار عباراتهم ، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافاتهم ، فهو كماشطة عروس رباها أهلها حتى صلحت للزواج ، تزينها وتعرضها على الأزواج ، وعلى كل فالفضل للأوائل كما قال القائل :

كالبحر يسقيه السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه

نعم فضل المتأخرين على أمثالنا من المتعلمين ، رحم الله الجميع وشكر سعيهم آمين ( قوله : الحظ ) أي النصيب ، والوافر : الكثير ( قوله : لأنه ) : تعليل للجمل الثلاثة قبله ، والضمير يرجع إلى الكتاب ط ( قوله : هو البحر ) تشبيه بليغ أو استعارة ( قوله : لكن بلا ساحل ) الساحل ريف البحر وشاطئه مقلوب ، لأن الماء سحله وكان القياس مسحولا قاموس ، وإذا كان لا ساحل له فهو في غاية الاتساع ، لأن نهاية البحر ساحله ، فهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم حيث أثبت صفة مدح واستثنى منها صفة مدح أخرى نحو { أنا أفصح العرب بيد أني من قريش } ، وهو آكد في المدح لما فيه من المدح على المدح والإشعار بأنه لم يجد صفة ذم يستثنيها فاضطر إلى استثناء صفة مدح . وله نوع ثان : وهو أن يستثني من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح ، كقوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم     بهن فلول من قراع الكتائب

أي في حدهن كسر من مضاربة الجيوش ، وهذا الثاني أبلغ كما بين في محله فافهم . وفيه أيضا من أنواع البديع نوع من أنواع المبالغة وهو الإغراق ، حيث وصف البحر بما هو ممكن عقلا ممتنع عادة ( قوله : ووابل القطر ) الوابل : الكثير ، وهو من إضافة الصفة للموصوف : أي القطر الوابل ط ( قوله : غير أنه متواصل ) أي تواصلا نافعا غير مفسد بقرينة المقام وإلا كان ذما ، وهذا أيضا من تأكيد المدح بما يشبه الذم ( قوله : بحسن عبارات ) الباء للتعليل مثل - فبظلم - أو للمصاحبة مثل اهبط بسلام - أو للملابسة وهي متعلقة بالبحر لأنه في معنى المشتق : أي الواسع مثل حاتم في قومه ، ومثل قول الشاعر :

أسد علي وفي الحروب نعامة

لتأوله بكريم وجريء أو بمحذوف حال من الضمير في لأنه أو من كتابي ( قوله : ورمز إشارات ) هما بمعنى واحد : وهو الإيماء بالعين أو اليد أو نحوهما كما في القاموس . فكأنه أراد ألطف أنواع الإيماء وأخفاها كما سيصرح به بعد بقوله : معتمدا في دفع الإيراد ألطف الإشارة . ( قوله : وتنقيح معاني ) أي تهذيبها وتنقيتها ، ويحتمل أنه من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ومثله قوله : وتحرير مباني . وفي القاموس : تحرير الكتاب وغيره تقويمه ا هـ ومباني الكلمات : ما تبنى عليه من الحروف ، والمراد بها الألفاظ والعبارات ، من إطلاق الجزء على الكل ، وفي قوله المعاني والمباني مراعاة النظير : وهو الجمع بين أمر وما يناسبه ، لا بالتضاد نحو - { الشمس والقمر بحسبان } - ثم الموجود في النسخ رسمها بالياء مع أن القياس حذفها ، والوقف على النون ساكنة مثل { - فاقض ما أنت قاض } - ( قوله : وليس الخبر كالعيان ) بكسر العين : المعاينة والمشاهدة وهذه علة لمحذوف : أي أن ما قلته خبر يحتمل [ ص: 29 ] الصدق والكذب ، وبعد اطلاعك على التأليف المذكور تعاين ما ذكرته لك وتتحققه بالمشاهدة لأن الخبر ليس كالعيان أفاده ط وفي هذا الكلام اقتباس مما رواه أحمد والطبراني وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم " { ليس الخبر كالمعاينة } " وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كما في المواهب اللدنية ، وتضمين لقول الشاعر :

يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما     قد حدثوك فما راء كمن سمعا

( قوله : وستقر ) القر : بالضم البرد ، وعينه تقر بالكسر والفتح قرة وتضم وقرورا بردت وانقطع بكاؤها . أو رأت ما كانت متشوفة إليه قاموس ، وكأنه وصف العين بالبرودة ، لما قالوا من أن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ( قوله : بعد التأمل ) أي التفكر فيه والتدبر في معانيه ط ( قوله : فخذ ) الفاء فصيحة : أي إذا كان كما وصفته لك أو إذا تأملته وقرت به عيناك فخذ إلخ . ثم اعلم أنه من هنا إلى قوله كيف لا وقد يسر الله ابتداء تبييض إلخ ساقط من كثير من النسخ ، وكأنه من إلحاقات الشارح ، فما نقل من نسخته قبل الإلحاق خلا عن هذه الزيادة ، والله تعالى أعلم . ( قوله : من حسن روضه ) الحسن الجمال جمعه محاسن على غير قياس قاموس . فهو اسم جامد لا صفة فالإضافة فيه لامية فافهم ، والأسمى أفعل تفضيل من السمو : أي الأعلى من غيره . قال ط : وفي الكلام استعارة شبه عبارته الحسنة بالروض بجامع النفاسة وتعلق النفوس بكل والقرينة إضافة الروض إلى الضمير ( قوله : عن الحسن ) الظاهر أنه بضم الحاء ، فالمعنى دع الحسن الصوري المحسوس وانظر إلى حسن روض هذا الشرح الأعلى قدرا . ا هـ . ح ( قوله : وسلمى ) امرأة من معشوقات العرب المشهورات كليلى ولبنى وسعدى وبثينة ومية وعزة ، وليس المراد بها المعنى العلمي ، وإنما المراد الوصفي لاشتهارها بالحسن كاشتهار حاتم بالكرم ، فيقال فلان حاتم بمعنى كريم ، فالمراد دع الجمال والجميل ( قوله : في طلعة ) خبر مقدم وما يغنيك مبتدأ مؤخر ; والمعنى أن طلعة الشمس : أي طلوعها يكفيك عن نور الكوكب المسمى بزحل ، نزل كتابه منزلة الشمس بجامع الاهتداء بكل ، ونزل غيره منزلة زحل ، ولا شك أن نور الشمس والاهتداء به لا يكون لغيرها من الكواكب ، وزحل أحد الكواكب السيارة التي هي السبع ، جمعها الشاعر على ترتيب السموات كل كوكب في سماء بقوله :

زحل شرى مريخه من شمسه     فتزاهرت لعطارد الأقمار

ط ( قوله : هذا ) أي خذ هذا الذي ذكرته ، وأراد به الانتقال عن وصف الكتاب إلى التنبيه على عدم الاغترار بما يشنع به حساد الزمان المغيرون في وجوه الحسان :

كضرائر الحسناء قلن لوجهها     حسدا ولؤما إنه لدميم



التالي السابق


الخدمات العلمية