صفحة جزء
[ ص: 35 ] مقدمة حق على من حاول علما أن يتصوره بحده أو رسمه [ ص: 36 ] ويعرف موضوعه وغايته واستمداده .

فالفقه لغة : العلم بالشيء ثم خص بعلم الشريعة ، وفقه بالكسر فقها علم ، وفقه بالضم فقاهة صار فقيها . واصطلاحا : عند الأصوليين العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية [ ص: 37 ] وعند الفقهاء : حفظ الفروع وأقله ثلاث . وعند أهل الحقيقة : الجمع بين العلم والعمل لقول الحسن البصري : إنما الفقيه المعرض عن الدنيا ، الزاهد في الآخرة ، البصير بعيوب نفسه [ ص: 38 ] وموضوعه : فعل المكلف ثبوتا أو سلبا . واستمداده : من الكتاب والسنة والإجماع والقياس . وغايته : الفوز بسعادة الدارين .


( قوله : مقدمة ) بالرفع خبر لمبتدإ محذوف : أي هذه مقدمة أو بالنصب مفعول لفعل محذوف : أي خذ مقدمة ، وهي بكسر الدال كما صرح به في الفائق ، فهي اسم فاعل من قدم المتعدي : أي مقدمة من فهمها على غيره لما اشتملت عليه من تعريف الفقه لغة واصطلاحا . وموضوعه واستمداده محظوره ومباحه وفضل العلم وتعلمه وترجمة الإمام وغير ذلك ، وإما من اللازم بمعنى تقدم : أي متقدمة بذاتها على غيرها ، ويجوز فتح الدال اسم مفعول من المتعدي : أي قدمها أرباب العقول على غيرها لما اشتملت عليه ، وهي في الأصل صفة ثم جعلت اسما للطائفة المتقدمة من الجيش ، ثم نقلت إلى أول كل شيء ، ثم جعلت اسما للألفاظ المخصوصة حقيقة عرفية إن لوحظ أنها فرد من أفراد المفهوم الكلي ، أو مجازا إن لوحظ خصوصها . وهي قسمان : مقدمة العلم ، وهي ما يتوقف عليه الشروع في مسائله من المعاني المخصوصة ، ومقدمة الكتاب : وهي طائفة من الكلام قدمت أمام المقصود لارتباط له بها وانتفاع بها فيه ، وتمام تحقيق ذلك في المطول وحواشيه .

( قوله : حق ) أي واجب صناعة ليكون شروعه على بصيرة صونا لسعيه عن العبث .

( قوله : على من حاول ) أي رام علما : أي علم كان من العلوم الشرعية وغيرها .

فالشرعية علم التفسير والحديث والفقه والتوحيد ، وغير الشرعية ثلاثة أقسام : أدبية ، وهي اثنا عشر كما في شيخي زاده . وعدها بعضهم أربعة عشر : اللغة والاشتقاق والتصريف والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقوافي وقريض الشعر وإنشاء النثر والكتابة ، والقراءات والمحاضرات ومنه التاريخ . ورياضية

وهي عشرة : التصوف والهندسة والهيئة والعلم التعليمي والحساب والجبر والموسيقى والسياسة والأخلاق وتدبير المنزل . وعقلية : ما عدا ذلك كالمنطق والجدل وأصول الفقه والدين والعلم الإلهي والطبيعي والطب والميقات والفلسفة والكيمياء كذا ذكره بعضهم ا هـ ، ابن عبد الرزاق .

( قوله : أن يتصوره بحده أو رسمه ) الحد : ما كان بالذاتيات كالحيوان الناطق للإنسان ، والرسم ما كان بالعرضيات كالضاحك له .

واعلم أنهم قد اختلفوا في أسماء العلوم ، فقيل إنها اسم جنس لدخول أل عليها ، وقيل علم جنس واختاره السيد ، وقيل علم كالنجم للثريا واختاره ابن الهمام ، وهل مسمى العلم إدراك المسائل أو المسائل نفسها أو الملكة الاستحضارية . قال السيد في شرح المفتاح : المعنى الحقيقي للعلم هو الإدراك ، ولهذا المعنى متعلق هو المعلوم ، وله تابع في الحصول يكون ذلك التابع وسيلة إليه في البقاء وهو الملكة . وقد أطلق العلم على كل منها إما حقيقة عرفية أو اصطلاحية أو مجازا مشهورا . ا هـ .

ثم اعلم أن التعريف إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية ، وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية ، وهو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع ، وتمامه في التوضيح لصدر الشريعة . وذكر السيد في حواشي شرح [ ص: 36 ] الشمسية أن أرباب العربية والأصول يستعملون الحد بمعنى المعرف ، وأن اللفظ إذا وضع في اللغة أو الاصطلاح لمفهوم مركب ، فما كان داخلا فيه كان ذاتيا له . وما كان خارجا عنه كان عرضيا له ، فحدود هذه المفهومات ورسومها تسمى حدودا ورسوما بحسب الاسم ، بخلاف الحقائق فإن حدودها ورسومها بحسب الحقيقة . إذا علمت ذلك ظهر لك أن حد الفقه كغيره من العلوم حد اسمي لتبيين ما تعقله الواضع ووضع الاسم بإزائه فلذا جعلوه مقدمة للشروع . وجوز بعضهم كونه حدا حقيقيا ، وعليه فقيل لا يكون مقدمة ; لأن الحد الحقيقي بسرد العقل كل المسائل : أي بتصور جميع مسائل العلم المحدود وذلك هو معرفة العلم نفسه لا مقدمة الشروع فيه ، وقيل يجوز أخذ جنس وفصل له بلا حاجة إلى سرد الكل فلا مانع من وقوعه مقدمة ، وجعل في التحرير الخلاف لفظيا وتمام تحقيقه فيه فافهم .

( قوله : ويعرف موضوعه إلخ ) اعلم أن مبادئ كل علم عشرة نظمها ابن ذكري في تحصيل المقاصد فقال : فأول الأبواب في المبادي وتلك عشرة على المراد     الحد والموضوع ثم الواضع
والاسم واستمداد حكم الشارع     تصور المسائل الفضيلة
ونسبة فائدة جليلة بين الشارح منها أربعة وبقي ستة .

فواضعه أبو حنيفة رحمه الله تعالى واسمه الفقه . وحكم الشارع فيه وجوب تحصيل المكلف ما لا بد له منه . ومسائله كل جملة موضوعها فعل المكلف . ومحمولها أحد الأحكام الخمسة ، نحو هذا الفعل واجب . وفضيلته كونه أفضل العلوم سوى الكلام والتفسير والحديث وأصول الفقه . ونسبته لصلاح الظاهر كنسبة العقائد والتصوف لصلاح الباطن أفاده ح .

( قوله : ثم خص بعلم الشريعة ) نقله في البحر عن ضياء الحلوم .

( قوله : وفقه إلخ ) قال في البحر بعد كلام : والحاصل أن الفقه اللغوي مكسور القاف في الماضي والاصطلاحي مضمومها فيه كما صرح به الكرماني . ونقل العلامة الرملي في حاشيته عليه أنه يقال فقه بكسر القاف . إذا فهم ، وبفتحها : إذا سبق غيره إلى الفهم ، وبضمها : إذا صار الفقه له سجية .

( قوله : اصطلاحا ) الاصطلاح لغة الاتفاق . واصطلاحا اتفاق طائفة مخصوصة على إخراج الشيء عن معناه إلى معنى آخر رملي .

( قوله : العلم بالأحكام إلخ ) اعلم أن المحقق ابن الهمام أبدل العلم بالتصديق وهو الإدراك القطعي ، سواء كان ضروريا أو نظريا صوابا أو خطأ بناء على أن الفقه كله قطعي .

فالظن بالأحكام الشرعية وكذا الأحكام المظنونة ليسا من الفقه ، وبعضهم خصه بالظنية ، فيخرج عنه ما علم ثبوته قطعا . وبعضهم جعله شاملا للقطعي والظني . وقد نص غير واحد من المتأخرين على أنه الحق وعليه عمل السلف ، وتمامه في شرح التحرير . فالمراد بالعلم هنا الإدراك الصادق على اليقين والظن كما هو اصطلاح المنطقي .

وعلى الأول فالمراد به المقابل للظن كما هو اصطلاح الأصولي . قال صدر الشريعة في التوضيح : وما قيل إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه ؟ فجوابه أولا أنه مقطوع به ، فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية . [ ص: 37 ] وثانيا أن العلم يطلق على الظنيات وتمامه فيه فافهم . والأحكام جمع حكم ، قيل هو خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين . ورده صدر الشريعة بأن الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا كالخلق على المخلوق ثم صار حقيقة عرفية . وخرج بها العلم بالذوات والصفات والأفعال ، والمراد بالشرعية كما في التوضيح ما لا يدرك لولا خطاب الشارع ، سواء كان الخطاب بنفس الحكم أو بنظيره المقيس هو عليه كالمسائل القياسية ، فيخرج عنها مثل وجوب الإيمان والأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم حادث ، أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة ، أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع ، والمراد بالفرعية المتعلقة بمسائل الفروع ، فخرج الأصلية ككون الإجماع أو القياس حجة . وأما الاعتقادية ككون الإيمان واجبا فخرج بالشرعية كما تقدم فافهم ، وقوله عن أدلتها أي ناشئا عن أدلتها حال من العلم : أي أدلتها الأربعة المخصوصة بها وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، فخرج علم المقلد فإنه وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة ، وخرج ما لم يحصل بالدليل كعلم الله تعالى وعلم جبريل عليه السلام . قال في البحر : واختلف في علم النبي صلى الله عليه وسلم الحاصل عن اجتهاد ، هل يسمى فقها ؟ والظاهر أنه باعتبار أنه دليل شرعي للحكم لا يسمى فقها ، وباعتبار حصوله عن دليل شرعي يسمى فقها اصطلاحا . ا هـ .

وأما المعلوم من الدين بالضرورة مثل الصوم والصلاة ، فقيل إنه ليس من الفقه ، إذ ليس حصوله بطريق الاستدلال وجعله في التوضيح منه ، ولعل وجهه أن وصوله إلى حد الضرورة عارض لكونه صار من شعار الدين ، فلا ينافي كونه في الأصل ثابتا بالدليل ، إذ ليس هو من الضروريات البديهية التي لا تحتاج إلى نظر واستدلال ككون الكل أعظم من الجزء نعم يحتاج إلى إخراجه على قول من خص الفقه بالظني ، وقوله التفصيلية تصريح بلازم كما حققه في التحرير ، وغلط من جعله للاحتراز ، وفي هذا المقام تحقيقات ذكرتها في [ منحة الخالق فيما علقته على البحر الرائق ] .

( قوله : وعند الفقهاء إلخ ) قال في البحر : فالحاصل أن الفقه في الأصول علم الأحكام من دلائلها كما تقدم ، فليس الفقيه إلا المجتهد عندهم ، وإطلاقه على المقلد الحافظ للمسائل مجاز . وهو حقيقة في عرف الفقهاء بدليل انصراف الوقت والوصية للفقهاء إليهم . وأقله ثلاثة أحكام كما في المنتقى . وذكر في التحرير أن الشائع إطلاقه على من يحفظ الفروع مطلقا يعني سواء كانت بدلائلها أو لا ا هـ لكن سيذكر في باب الوصية للأقارب أن الفقيه من يدقق النظر في المسائل وإن علم ثلاث مسائل مع أدلتها ، حتى قيل من حفظ ألوفا من المسائل لم يدخل تحت الوصية . ا هـ . لكن الظاهر أن هذا حيث لا عرف وإلا فالعرف الآن هو ما ذكر في التحرير أنه الشائع . وقد صرح الأصوليون بأن الحقيقة تترك بدلالة العادة ، وحينئذ فينصرف في كلام الواقف والموصي إلى ما هو المتعارف في زمنه ; لأنه حقيقة كلامه العرفية فتترك به الحقيقة الأصلية .

( قوله : وعند أهل الحقيقة ) هم الجامعون بين الشريعة والطريقة الموصلة إلى الله تعالى ، والحقيقة لب الشريعة وسيأتي تمامه .

( قوله : الزاهد في الآخرة ) كذا في البحر . والذي في الغزنوية الراغب في الآخرة ابن عبد الرزاق . أقول : ومثله في الإحياء للإمام الغزالي بزيادة حيث قال : سأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه ، فقال إن الفقهاء يخالفونك ، [ ص: 38 ] فقال الحسن : ثكلتك أمك ، وهل رأيت فقيها بعينك ؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة ، البصير بدينه المداوم على عبادة ربه ، الورع الكاف عن أعراض المسلمين ، العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم .

( قوله : وموضوعه إلخ ) . موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية . قال في البحر : وأما موضوعه ففعل المكلف من حيث إنه مكلف ; لأنه يبحث فيه عما يعرض لفعله من حل وحرمة ووجوب وندب ، والمراد بالمكلف البالغ العاقل ، ففعل غير المكلف ليس من موضوعه ، وضمان المتلفات ونفقة الزوجات إنما المخاطب بها الولي لا الصبي والمجنون ، كما يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما أتلفته حيث فرط في حفظها لتنزيل فعلها في هذه الحالة بمنزلة فعله .

وأما صحة عبادة الصبي كصلاته وصومه المثاب عليها فهي عليها عقلية من باب ربط الأحكام بالأسباب ، ولذا لم يكن مخاطبا بها بل ليعتادها فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله تعالى ، وقيدنا بحيثية التكليف ; لأن فعل المكلف لا من حيث التكليف ليس موضوعه كفعله من حيث إنه مخلوق الله تعالى . ا هـ .

( قوله : ثبوتا أو سلبا ) أي من حيث ثبوت التكليف به كالواجب والحرام ، أو سلبه كالمندوب والمباح ، وقصد بذلك دفع ما قد يقال إن قيد الحيثية مراعى ، فالمراد فعل المكلف من حيث إنه مكلف كما مر . فيرد عليه أن فعل المكلف المندوب أو المباح من موضوع الفقه أيضا مع أنه لا تكليف فيه لجواز فعله وتركه . والجواب أنه يبحث عنه في الفقه من حيث سلب التكليف به عن طرفي فعل المكلف . مطلب الفرق بين المصدر والحاصل بالمصدر

[ تنبيه ] قال في النهر : اعلم أن الفعل يطلق على المعنى الذي هو وصف للفاعل موجود كالهيئة المسماة بالصلاة من القيام والقراءة والركوع والسجود ونحوها كالهيئة المسماة بالصوم ، وهي الإمساك عن المفطرات بياض النهار ، وهذا يقال فيه الفعل بالمعنى الحاصل بالمصدر ، وقد يطلق على نفس إيقاع الفاعل هذا المعنى ، ويقال فيه الفعل بالمعنى المصدري : أي الذي هو أحد مدلولي الفعل ، ومتعلق التكليف إنما هو الفعل بالمعنى الأول لا الثاني ; لأن الفعل بالمعنى الثاني اعتباري لا وجود له في الخارج ، إذ لو كان موجودا لكان له موقع فيكون له إيقاع وهكذا فيلزم التسلسل المحال ، فأحكم هذا فإنه ينفعك في كثير من المحال ا هـ .

( قوله : واستمداده ) أي مأخذه .

( قوله : من الكتاب إلخ ) وأما شريعة من قبلنا فتابعة للكتاب . وأما أقوال الصحابة فتابعة للسنة ، وأما تعامل الناس فتابع للإجماع ، وأما التحري واستصحاب الحال فتابعان للقياس بحر ، وبيان ما ذكر في كتب الأصول .

( قوله : وغايته ) أي ثمرته المترتبة عليه .

( قوله : بسعادة الدارين ) أي دار الدنيا بنقل نفسه من حضيض الجهل إلى ذروة العلم ، وببيان ما للناس وما عليهم لقطع الخصومات ودار الآخرة بالنعم الفاخرة

التالي السابق


الخدمات العلمية