صفحة جزء
وفي الأشباه لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة كحق الشفعة وعلى هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ، وفيها في آخر بحث تعارض العرف مع اللغة . المذهب عدم اعتبار العرف الخاص لكن أفتى كثير باعتباره [ ص: 519 ] وعليه فيفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال


مطلب : لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة . ( قوله : لا يجوز الاعتياض عن الحقوق المجردة عن الملك ) قال : في البدائع : الحقوق المفردة لا تحتمل التمليك ولا يجوز الصلح عنها . أقول : وكذا لا تضمن بالإتلاف قال : في شرح الزيادات للسرخسي وإتلاف مجرد الحق لا يوجب الضمان ; لأن الاعتياض عن مجرد الحق باطل إلا إذا فوت حقا مؤكدا ، فإنه يلحق بتفويت حقيقة الملك في حق الضمان كحق المرتهن ; ولذا لا يضمن بإتلاف شيء من الغنيمة أو وطء جارية منها قبل الإحراز ; لأن الفائت مجرد الحق وإنه غير مضمون ، وبعد الإحراز بدار الإسلام ، ولو قبل القسمة يضمن لتفويت حقيقة الملك ويجب عليه القيمة في قتله عبدا من الغنيمة يعد الإحراز في ثلاث سنين بيري ، وأراد بقوله لتفويت حقيقة الملك الحق المؤكد إذ لا تحصل حقيقة الملك إلا بعد القسمة كما مر . ( قوله : كحق الشفعة ) قال في الأشباه : فلو صالح عنها بمال بطلت ورجع ، ولو صالح المخيرة بمال لتختاره بطل ولا شيء لها ولو صالح إحدى زوجتيه بمال لتترك نوبتها لم يلزم ولا شيء لها وعلى هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف في الأوقاف وخرج عنها حق القصاص وملك النكاح وحق الرق فإنه يجوز الاعتياض عنها كما ذكره الزيلعي في الشفعة ، والكفيل بالنفس إذا صالح المكفول له بمال لا يصح ولا يجب ، وفي بطلانها روايتان ، وفي بيع حق المرور في الطريق روايتان وكذا بيع الشرب إلا تبعا . ا هـ .

مطلب : في الاعتياض عن الوظائف والنزول عنها ( قوله : وعلى هذا لا يجوز الاعتياض عن الوظائف بالأوقاف ) من إمامة وخطابة وأذان وفراشة وبوابة ، ولا على وجه البيع أيضا ; لأن بيع الحق لا يجوز كما في شرح الأدب وغيره وفي الذخيرة : أن أخذ الدار بالشفعة أمر عرف بخلاف القياس فلا يظهر ثبوته في حق جواز الاعتياض عنه . ا هـ . أقول : والحق في الوظيفة مثله والحكم واحد بيري . ( قوله : المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ) قال : في المستصفى التعامل العام أي الشائع المستفيض ، والعرف المشترك لا يصح الرجوع إليه مع التردد . ا هـ . . وفي محل آخر منه [ ص: 519 ] ولا يصلح مقيدا ; لأنه لما كان مشتركا كان متعارضا . ا هـ . بيري وفي الأشباه عن البزازية ، وكذا أي تفسد الإجارة لو دفع إلى حائك غزلا على أن ينسجه بالثلث ومشايخ بلخ وخوارزم أفتوا بجواز إجارة الحائك للعرف وبه أفتى أبو علي النسفي أيضا والفتوى على جواب الكتاب ; لأنه منصوص عليه فيلزم إبطال النص . ا هـ .

فأفاد أن عدم اعتباره بمعنى أنه إذا وجد النص ، بخلافه لا يصلح ناسخا للنص ، ولا مقيدا له ، وإلا فقد اعتبروه في مواضع كثيرة منها مسائل الإيمان ، وكل عاقد وواقف ، وحالف يحمل كلامه على عرفه كما ذكره ابن الهمام وأفاد ما مر أيضا أن العرف العام يصلح مقيدا ; ولذا نقل البيري في مسألة الحائك المذكورة قال : السيد الشهيد : لا نأخذ باستحسان مشايخ بلخ بل نأخذ بقول أصحابنا المتقدمين ; لأن التعامل في بلد لا يدل على الجواز ما لم يكن على الاستمرار من الصدر الأول فيكون ذلك دليلا على تقرير النبي عليه الصلاة والسلام إياهم على ذلك ، فيكون شرعا منه فإذا لم يكن كذلك لا يكون فعلهم حجة إذا كان كذلك من الناس كافة في البلدان كلها فيكون إجماعا والإجماع حجة ، ألا ترى أنهم لو تعاملوا على بيع الخمر والربا لا يفتى بالحل ؟ . ا هـ . قلت : وبه ظهر الفرق بين العرف الخاص والعام ، وتمام الكلام على هذه المسألة مبسوط في رسالتنا المسماة : بنشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف .

مطلب في النزول عن الوظائف بمال ( قوله : وعليه فيفتى بجواز النزول عن الوظائف بمال ) قال : العلامة العيني في فتاواه : ليس للنزول شيء يعتمد عليه ولكن العلماء والحكام مشوا ذلك للضرورة ، واشترطوا إمضاء الناظر لئلا يقع فيه نزاع . ا هـ . ملخصا من حاشية : الأشباه للسيد أبي السعود ، وذكر الحموي أن العيني ذكر في شرح نظم درر البحار في باب القسم بين الزوجات أنه سمع من بعض شيوخه الكبار أنه يمكن أن يحكم بصحة النزول عن الوظائف الدينية قياسا على ترك المرأة قسمها لصحبتها ; لأن كلا منهما مجرد إسقاط ا هـ .

مطلب في العرف الخاص والعام قلت : وقدمنا في الوقف عن البحر أن للمتولي عزل نفسه ، عند القاضي ، وأن من العزل الفراغ لغيره عن وظيفة النظر أو غيره ، وأنه لا ينعزل بمجرد عزل نفسه خلافا للعلامة قاسم ، بل لا بد من تقرير القاضي المفروغ له لو أهلا وأنه لا يلزم القاضي تقريره ، ولو أهلا وأنه جرى العرف بالفراغ بالدراهم ، ولا يخفى ما فيه فينبغي الإبراء العام بعده ا هـ . أي لما فيه من شبهة الاعتياض عن مجرد الحق ، وقد مر أنه لا يجوز وليس فيما ذكر عن العيني جوازه لكن قال : الحموي وقد استخرج شيخ مشايخنا نور الدين علي المقدسي صحة الاعتياض عن ذلك في شرحه على نظم الكنز من فرعه في مبسوط السرخسي وهو أن العبد الموصى برقبته لشخص ، وبخدمته لآخر لو قطع طرفه أو شج موضحة فأدى الأرش ، فإن كانت الجناية تنقص الخدمة يشترى به عبد آخر يخدمه أو يضم إليه ثمن العبد بعد بيعه فيشترى به عبد يقوم مقام الأول فإن اختلفا في بيعه لم يبع ، وإن اصطلحا على قسمة الأرش بينهما نصفين فلهما ذلك ولا يكون ما يستوفيه الموصى له بالخدمة من الأرش بدل الخدمة ; لأنه لا يملك الاعتياض عنها ، ولكنه إسقاط لحقه به كما لو صالح موصى له بالرقبة على مال دفعه للموصى له بالخدمة ليسلم العبد له . ا هـ .

قال : فربما يشهد هذا للنزول عن الوظائف بمال . ا هـ . قال : الحموي : فليحفظ هذا فإنه نفيس جدا . ا هـ . وذكر نحوه البيري عند قول الأشباه ، وينبغي [ ص: 520 ] أنه لو نزل له وقبض المبلغ ، ثم أراد الرجوع عليه لا يملك ذلك فقال : أي على وجه إسقاط الحق إلحاقا له بالوصية بالخدمة والصلح عن الألف على خمسمائة ، فإنهم قالوا يجوز أخذ العوض على وجه الإسقاط للحق ، ولا ريب أن الفارغ يستحق المنزول عنه استحقاقا خاصا بالتقرير ، ويؤيده ما في خزانة الأكمل وإن مات العبد الموصى بخدمته بعدما قبض الموصى له بدل الصلح فهو جائز . ا هـ .

ففيه دلالة على أنه لا رجوع على النازل ، وهذا الوجه هو الذي يطمئن به القلب لقربه ا هـ .

كلام البيري ، ثم استشكل ذلك بما مر من عدم جواز الصلح عن حق الشفعة والقسم فإنه يمنع جواز أخذ العوض هنا ثم قال : ولقائل أن يقول هذا حق جعله الشرع لدفع الضرر ، وذلك حق فيه صلة ولا جامع بينهما فافترقا وهو الذي يظهر . ا هـ . وحاصله : أن ثبوت حق الشفعة للشفيع ، وحق القسم للزوجة وكذا حق الخيار في النكاح للمخيرة إنما هو لدفع الضرر عن الشفيع والمرأة ، وما ثبت لذلك لا يصح الصلح عنه ; لأن صاحب الحق لما رضي علم أنه لا يتضرر بذلك فلا يستحق شيئا أما حق الموصى له بالخدمة ، فليس كذلك بل ثبت له على وجه البر والصلة فيكون ثابتا له أصالة فيصح الصلح عنه إذا نزل عنه لغيره ، ومثله ما مر عن الأشباه من حق القصاص والنكاح والرق وحيث صح الاعتياض عنه ; لأنه ثابت لصاحبه أصالة لا على وجه رفع الضرر عن صاحبه ولا يخفى أن صاحب الوظيفة ثبت له الحق فيه بتقرير القاضي على وجه الأصالة لا على وجه رفع الضرر ، فإلحاقها بحق الموصى له بالخدمة ، وحق القصاص وما بعده أولى من إلحاقها بحق الشفعة والقسم ، وهذا كلام وجيه لا يخفى على نبيه وبه اندفع ما ذكره بعض محشي الأشباه من أن المال الذي يأخذه النازل ، عن الوظيفة رشوة ، وهي حرام بالنص ، والعرف لا يعارض النص وجه الدفع ما علمت من أنه صلح عن حق كما في نظائره والرشوة لا تكون بحق واستدل بعضهم للجواز بنزول سيدنا الحسين بن سيدنا علي رضي الله تعالى عنهما عن الخلافة لمعاوية على عوض ، وهو ظاهر أيضا ، وهذا أولى مما قدمناه في الوقف عن الخيرية من عدم الجواز ومن أن للمفروغ له الرجوع بالبدل ، بناء على أن المذهب عدم اعتبار العرف الخاص ، وأنه لا يجوز الاعتياض عن مجرد الحق لما علمت من أن الجواز ليس مبنيا على اعتبار العرف الخاص ، بل على ما ذكرنا من نظائره الدالة عليه وإن عدم جواز الاعتياض عن الحق ليس على إطلاقه . ورأيت بخط بعض العلماء عن المفتي أبي السعود أنه أفتى بجواز أخذ العوض في حق القرار والتصرف ، وعدم صحة الرجوع بالجملة فالمسألة ظنية والنظائر المتشابهة للبحث فيها مجال وإن كان الأظهر فيها ما قلنا فالأولى ما قال في البحر من أنه ينبغي الإبراء العام بعده والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ تنبيه ] ما قلناه في الفراغ عن الوظيفة يقال مثله في الفراغ عن حق التصرف في مشد مسكة الأراضي ويأتي بيانها قريبا وكذا في فراغ الزعيم عن تيماره ، ثم إذا فرغ عنه لغيره ولم يوجهه السلطان للمفروغ له بل أبقاه على الفارغ أو وجهه لغيرهما ينبغي أن يثبت الرجوع للمفروغ له على الفارغ ببدل الفراغ ; لأنه لم يرض بدفعه إلا بمقابلة ثبوت ذلك الحق له ، لا بمجرد الفراغ وإن حصل لغيره . وبهذا أفتى في الإسماعيلية والحامدية وغيرهما خلافا لما أفتى به بعضهم من عدم الرجوع ; لأن الفارغ فعل ما في وسعه وقدرته إذ لا يخفى أنه غير مقصود من [ ص: 521 ] الطرفين ولا سيما إذا أبقى السلطان والقاضي التيمار أو الوظيفة على الفارغ فإنه يلزم اجتماع العوضين في تصرفه وهو خلاف قواعد الشرع فافهم والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية