صفحة جزء
فصل قد سبق في ذكر الفقر والمسكنة في الباب قبله مسائل تتعلق بالمسألة ومسألة من جاءه مال بسؤال أو إشراف نفس أو بهما ، وهل يجب أخذه بدونهما ؟ فأما إن شك في تحريم المال ، فإن كان أصله التحريم كالذبيحة في غير بلد الإسلام ولو كان فيهم مسلمون فمحرم ، لحديث عدي بن حاتم { إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله } متفق عليه ، وإن كان أصله الإباحة كما لو شك في الماء المتغير هل هو بنجاسة أو لا عمل بالأصل ، لقول عبد الله بن زيد : [ ص: 657 ] { شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا } متفق عليه . وإن لم يعرف له أصل فإن علم أن فيه حراما وحلالا كمن في ماله هذا وهذا فقيل بالتحريم ، قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب بن أبي الفرج في كتابه المنتخب ، ذكره قبيل باب الصيد [ وعلل القاضي ] وجوب الهجرة من دار الحرب بتحريم الكسب عليه هناك ، لاختلاط الأموال لأخذهم من غير جهته ووضعه في غير حقه .

وقال الأزجي في نهايته : هذا قياس المذهب كما قلنا في اشتباه الأواني الطاهرة بالنجسة ، وقدمه أبو الخطاب في الانتصار في مسألة اشتباه الأواني ، وقد قال أحمد : لا يعجبني أن يأكل منه ، وسأل المروذي أبا عبد الله عن الذي يعامل بالربا يؤكل عنده ؟ قال : لا ، قد { لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقوف عند الشبهة } ، ومراده حديث النعمان بن بشير ، متفق عليه ، وقال أنس : إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه ، واشرب من شرابه . ذكره البخاري .

وعن الحسن بن علي مرفوعا { دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك } رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه .

( والثاني ) إن زاد الحرام على الثلث حرم الكل وإلا فلا ، قدمه في الرعاية ; لأن الثلث ضابط في مواضع . [ ص: 658 ]

( والثالث ) إن كان الأكثر الحرام حرم وإلا فلا ، إقامة للأكثر مقام الكل ; لأن القليل تابع ، قطع به ابن الجوزي في المنهاج ، وذكر شيخنا : إن غلب الحرام هل تحرم معاملته ؟ أو تكره ؟ على وجهين ، وقد نقل الأثرم وغير واحد عن الإمام أحمد فيمن ورث مالا : إن عرف شيئا بعينه رده ، وإذا كان الغالب على ماله الفساد تنزه عنه ، أو نحو ذلك . ونقل عنه حرب في الرجل يخلف مالا : إن كان غالبه نهبا أو ربا ينبغي لوارثه أن يتنزه عنه ، إلا أن يكون يسيرا لا يعرف ، ونقل عنه أيضا : هل للرجل أن يطلب من ورثة إنسان مالا مضاربة ينفعهم وينتفع ؟ قال : إن كان غالبه الحرام فلا .

( والرابع ) عدم التحريم مطلقا ، قل الحرام أو كثر ، لكن يكره ، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته ، وجزم به في المغني وغيره ، وقدمه الأزجي وغيره ( م 2 ) ، لما رواه أحمد عن أبي هريرة [ ص: 659 ] مرفوعا { إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه ، وإن سقاه شرابا فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه } وروى جماعة من حديث الثوري عن سلمة بن كهيل عن ذر بن عبد الله عن ابن مسعود أن رجلا سأله فقال : لي جار يأكل الربا ولا يزال يدعوني ، فقال : مهنوه لك وإثمه عليه . قال الثوري : إن عرفته بعينه فلا تأكله ، ومراد ابن مسعود وكلامه لا يخالف هذا . وروى جماعة أيضا من حديث معمر عن أبي إسحاق عن الزبير بن الخريت عن سلمان قال : إذا كان لك صديق عامل فدعاك إلى طعام فاقبله ، فإن مهنأه لك وإثمه عليه قال معمر : وكان عدي بن أرطاة عامل البصرة يبعث إلى الحسن كل يوم بجفان ثريد ، فيأكل منها ويطعم أصحابه ، ويبعث عدي إلى الشعبي وابن سيرين والحسن ، فقبل الحسن والشعبي [ ص: 660 ] ورد ابن سيرين . قال : وسئل الحسن عن طعام الصيارفة فقال : قد أخبركم الله عن اليهود والنصارى أنهم يأكلون الربا وأحل لكم طعامهم .

وقال منصور : قلت لإبراهيم اللخمي : عريف لنا يصيب من الظلم فيدعوني فلا أجيبه ، فقال إبراهيم : للشيطان غرض بهذا ليوقع عداوة ، وقد كان العمال يهمطون ويصيبون ثم يدعون فيجابون . قلت : نزلت بعامل فنزلني وأجاز لي قال [ اقبل ] قلت : فصاحب ربا ، قال : اقبل ما لم تره بعينه .

قال الجوهري : الهمط الظلم والخلط ويقال : همط الناس فلان يهمطهم إذا ظلمهم حقهم ، والهمط أيضا الأخذ بغير تقدير : وينبني على هذا الخلاف حكم معاملته وقبول صدقته وهبته وإجابة دعوته ونحو ذلك ، قال ابن الجوزي : بناء على ما ذكره إذا كان الأكثر الحرام يجب السؤال ، وإن لم يكن أكثر فالورع التفتيش ولا يجب ، فإن كان هو المسئول وعلمت إن له غرضا في حضورك وقبول [ ص: 661 ] هديته فلا ثقة بقوله والله أعلم ، وإن لم يعلم أن في المال حراما فالأصل الإباحة ، ولا تحريم بالاحتمال ، وإن كان تركه أولى للشك فيه ، وإن قوي سبب التحريم فظنه فيتوجه فيه كآنية أهل الكتاب وطعامهم .


[ ص: 658 ] مسألة 2 ) قوله : وإذا شك في تحريم المال وعلم أن فيه حراما وحلالا كمن في ماله هذا وهذا ، فقيل بالتحريم ، قطع به شرف الإسلام عبد الوهاب بن أبي الفرج في كتاب المنتخب ، ذكره قبيل باب الصيد وقال الأزجي في نهايته : هذا قياس المذهب وقدمه أبو الخطاب في الانتصار في مسألة اشتباه الأواني ، والثاني إن زاد الحرام على الثلث حرم الكل وإلا فلا ، قدمه في الرعاية والثالث إن كان الأكثر الحرام حرم وإلا فلا ، قطع به ابن الجوزي في المنهاج ، وذكر شيخنا : إن غلب الحرام هل تحرم معاملته ؟ أم تكره ، على وجهين . والرابع عدم التحريم مطلقا ، قل الحرام أو كثر ، لكن يكره ، وتقوى الكراهية وتضعف بحسب كثرة الحرام [ ص: 659 ] وقلته ، جزم به في المغني وغيره ، وقدمه الأزجي وغيره ، انتهى ، وأطلقها في الآداب الكبرى والقواعد الأصولية ( قلت ) : الصحيح الأخير ، على ما اصطلحناه ، وجزم به الشارح .

وقاله ابن عقيل في الفصول ، وغيره ، قال في الآداب الكبرى بعد أن ذكر ما ذكره المصنف هنا عن هذا القول : وهو ظاهر ما قطع به ، وقدمه غير واحد ، ثم قال : قدمه الأزجي وغيره ، وجزم به في المغني وغيره ، انتهى ، والصواب القول الأول ، لقوله عليه أفضل الصلاة والسلام { دع ما يريبك إلى ما لا يريبك } وقد قال في آداب الرعاية الكبرى : ولا يأكل مختلطا بحرام بلا ضرورة ، والله أعلم ، ولا يسعنا إلا حلم الله وعفوه . [ ص: 660 ] تنبيه ) قوله : وينبني على هذا حكم معاملته وقبول صدقته وإجابة دعوته ونحو ذلك ، انتهى قد علمت الصحيح من المذهب من ذلك ،

التالي السابق


الخدمات العلمية