صفحة جزء
فصل

يخير بين التمتع والإفراد والقران ( و ) ذكره جماعة إجماعا ، قالت عائشة { : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهلل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهلل } قالت : وأهل بالحج وأهل به ناس معه ، وأهل معه ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بعمرة متفق عليه .

وفي مسلم عنها { لا نرى إلا الحج } .

وفيه أيضا { خرجنا مهلين بالحج } ، وذكر بعضهم أنه الأكثر عنها . وفي الصحيحين : { من أراد أن يهل بعمرة فليهلل ، فلولا أني أهديت لأهللت بعمرة } وفي الصحيحين عن جابر أنه أخبر عنها بعمرة ، وعند طائفة من السلف والخلف : لا يجوز إلا التمتع ، وقاله ابن عباس ومن وافقه من أهل الحديث ، وطائفة من بني أمية ومن تبعهم نهوا عن التمتع وعاقبوا من تمتع . وكره التمتع عمر وعثمان .

[ ص: 298 ] ومعاوية وابن الزبير وغيرهم . وبعضهم : والقران ، روى الشافعي عن ابن مسعود أنه كان يكرهه ، وذكر ابن حزم أنهم اختلفوا فيهما ، فمن موجب لذلك ، ومن مانع ، ومن كاره ، ومن مستحب ومن مبيح . وأفضل الأنساك التمتع ثم الإفراد ثم القران ، قال في رواية صالح [ وعبد الله ] الذي يختار المتعة ; لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يعمل لكل واحد منهما على حدة .

وقال أبو داود : سمعته يقول : نرى التمتع أفضل ، وسمعته قال لرجل يريد أن يحج عن أمه : تمتع أحب إلي .

وقال إسحاق بن إبراهيم : كان اختيار أبي عبد الله الدخول بعمرة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم } ، وسمعته يقول : العمرة كانت آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لأن في الصحيحين وغيرهما من طرق { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديا ، وثبت على إحرامه لسوقه الهدي وتأسف } ، كما سبق ، ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل ، ولا يتأسف إلا عليه ، فإن قيل : لم يأمرهم بالفسخ لفضل التمتع ، بل لاعتقادهم عدم جواز العمرة في أشهر الحج ، رد : لم يعتقدوه . ثم لو كان لم يخص به من لم يسق الهدي ؟ لأنهم سواء في الاعتقاد ، ثم لو كان ، لم يتأسف لاعتقاده جوازها فيها وجعل العلة فيه سوق الهدي ؟ ولأن التمتع في الكتاب دون غيره . قال عمران : { نزلت آية التمتع في كتاب الله وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة [ ص: 299 ] الحج ، لم ينه عنها حتى مات صلى الله عليه وسلم } ، رواه مسلم وغيره ، وللبخاري معناه ، ولإتيانه بأفعالها كاملة على وجه اليسر ، وصح { عنه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما } ، وقوله : { إن هذا الدين يسر } وقوله { بعثت بالحنيفية السمحة } . وتجزئ عمرة التمتع ، بلا خلاف ، وفي عمرة الإفراد من أدنى الحل وعمرة القران الخلاف ; ولأن عمل المفرد أكثر من القارن ، فكان أولى ; ولأن في التمتع زيادة على الإفراد وليس فيه ما يوازيه وهو الدم ، وهو دم نسك لا جبران ، وإلا لما أبيح له التمتع بلا عذر ، لعدم جواز إحرام ناقص يحتاج أن يجبره بدم قال في رواية أبي طالب : إذا دخل بعمرة يكون قد جمع الله له حجة وعمرة ودما ، فإن قيل : لو كان دم نسك لم يدخله الصوم كالهدي والأضحية ، ولا يستوي فيه جميع المناسك ، قيل : دخول الصوم لا يخرجه عن كونه نسكا ; ولأن الصوم بدل والقرب يدخلها الإبدال ، واختصاصه لا يمنع كونه نسكا ، كالقران نسك ويقتصر على طواف وسعي ; ولأن سبب التمتع من جهته ، كمن نذر حجة يهدي فيها هديا ، ثم إنما اختص لوجود سببه ، وهو الترفه بأحد السفرين ، فإن قيل : نسك لا دم فيه أفضل كإفراد لا دم فيه ، رد : تمتع المكي وتمتع غيره الذي فيه الدم سواء عندك . وإنما كان إفراد لا دم فيه أفضل ; لأن ما يجب فيه الدم دم جناية ; ولهذا إفراد فيه دم تطوع .

[ ص: 300 ] أفضل ، فإن قيل : في القران مسارعة إلى فعل العبادتين ، وهو أولى للآية وكالصلاة أول وقتها ، قيل : العبرة بمسارعة شرعية ; ولهذا تختلف الصلاة أول وقتها وآخره ، وتؤخر لطلب الماء أو الجماعة . ونقل المروذي عن أحمد : إن ساق الهدي فالقران أفضل ثم التمتع ; لأن في الصحيحين عن عائشة مرفوعا { من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا } اختاره شيخنا ، قال : وإن اعتمر وحج في سفرتين أو اعتمر قبل أشهر الحج فالإفراد أفضل ، باتفاق الأئمة الأربعة ، ونص عليه أحمد في الصورة الأولى ، وذكر في الخلاف وغيره ، وهي أفضل من الثانية ، نص عليه ، وسبقت الثانية آخر الباب قبله .

وقال شيخنا : ومن أفرد العمرة بسفرة ثم قدم في أشهر الحج فإنه متمتع { لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم اعتمروا عمرة القضية ثم تمتعوا } . وعند أبي حنيفة القران أفضل ، وعند مالك الإفراد ، وهو ظاهر مذهب الشافعي أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القران ، وله قول : التمتع ، وقول : القران ، ومذهبه : شرط أفضلية الإفراد أن يعتمر تلك السنة ، فلو أخر العمرة عن سنته فالتمتع والقران أفضل منه ، لكراهة تأخير العمرة عن سنة الحج ، أما حجة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلف فيها بحسب المذاهب ، حتى اختلف كلام القاضي وغيره : هل حل .

[ ص: 301 ] من عمرته ؟ وفيه وجهان ، والأظهر قول أحمد : لا شك أنه كان قارنا والمتعة أحب إلي . قال شيخنا : وعليه متقدمو أصحابه وهو باتفاق علماء الحديث ، كذا قال . وجه أنه كان متمتعا قال سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه { تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة . وبدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس معه بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى ومنهم من لم يهد ، فلما قدم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل تم ليهل بالحج وليهد ، فمن لم يجد فصيام ثلاثه أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله } وعن عروة عن عائشة مثله وأمر ابن عباس بالمتعة وقال : سنة أبي القاسم . متفق عليهن . { وقال ناس لابن عمر : كيف تخالف أباك وقد نهى عنها ؟ فقال : ويلكم ألا تتقون الله ، إن كان عمر نهى عنها يبتغي فيه [ ص: 302 ] الخير يلتمس به تمام العمرة فلم تحرمون ذلك وقد أحله الله وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فرسول الله ، أحق أن تتبعوا سنته أم سنة عمر ؟ لم يقل لكم : إن العمرة في أشهر الحج حرام ، ولكنه قال : إن أتم للعمرة أن تفردوها من أشهر الحج } . رواه أحمد . وللترمذي والنسائي هذا المعنى . ولمسلم وغيره عن ابن عباس قال : { أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة ، وأهل أصحابه بالحج ، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه وحل بقيتهم } .

ولأحمد والترمذي وحسنه عنه : { تمتع النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك } ، وأول من نهى عنها معاوية . فيه ليث بن أبي سليم ضعفه الأكثر . فإن قيل : قال أنس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم { يلبي بالحج والعمرة جميعا يقول لبيك عمرة وحجا } متفق عليه ، وفيهما أن ابن عمر أنكره ، وأن أنسا قال : ما تعدونا إلا صبيانا . ولمسلم : أهل بهما جميعا { لبيك عمرة وحجا } وعن أبي إسحاق عن أبي أسماء الصيقل عن أنس مرفوعا { لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة ، ولكن سقت الهدي وقرنت بين الحج والعمرة } أبو أسماء تفرد عنه أبو إسحاق .

وقال عمر { : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق [ ص: 303 ] يقول أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة } وفي رواية { قل عمرة وحجة } رواهما البخاري وغيره .

وأهل الصبي بن معبد بهما جميعا ، وقال له عمر : هديت لسنة نبيك . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، قيل : يحتمل أن أنسا سمعه يلقن قارنا تلبيته فظنه يلبي بهما عن نفسه ; أو سمعه في وقتين ، أو في وقت واحد لما أدخل الحج على العمرة ، أو قرن بهما أي فعل الحجة بعدها ، ويسمى قرانا لغة . وخبر عمر يحتمل أنه أراد عمرة داخلة في حجة كقوله { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة } وخبر الصبي فيه أن القران سنة ، وإنما الخلاف في الأفضل ، فإن قيل عن عائشة : { إن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج } ، رواه مسلم ، وللشافعي والنسائي : { أهل بالحج } ، ولمسلم والترمذي عن ابن عمر { أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا } . وفي الصحيحين عن جابر قال : { أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج ، وهو فيهما } عن ابن عباس . وسبق خبر عائشة { لولا أني أهديت لأهللت بعمرة } قيل : أفرد عمل الحج عن عمل العمرة ، أو أهل بالحج فيما بعد . وأكثر الروايات عن جابر إنما ذكر الصحابة فقط ، وسبق خبر ابن عباس أيضا ، وأجاب أحمد في رواية أبي طالب فقال : كان هذا في أول الأمر بالمدينة ، ومعناه أنه في ابتداء إحرامه بالمدينة أحرم بالحج ، فلما وصل إلى مكة فسخ .

[ ص: 304 ] على أصحابه وتأسف على التمتع لأجل سوق الهدي ، فكان المتأخر أولى ثم أخبار التمتع أكثر وأصح وأصرح ، فكانت أولى . على أن قوله عليه السلام السابق أولى من فعله ، لاحتماله اختصاصه به . ومن العجب قول القاضي عياض واختاره النووي قد أكثر الناس الكلام على هذه الأخبار ، وأوسعهم نفسا الطحطاوي ، تكلم فيه في زيادة على ألف ورقة ، وتكلم معه الطبري . قال القاضي عياض : وأولى ما يقال على ما فحصناه من كلامهم أنه أحرم مفردا بالحج ثم أدخل عليه العمرة مواساة لأصحابه وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج ، لكونها كانت منكرة عندهم فيها ، ولم يمكنه التحلل بسبب الهدي . واعتذر إليهم ، فصار قارنا آخر أمره . وأما كراهة عمر ففي مسلم أنه قال لأبي موسى : لقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون إلى الحج تقطر رءوسهم . وفي الصحيحين أن أبا موسى كان يفتي بذلك في إمارته وإمارة عمر ، وذكر الخبر ، إلى أن قال لعمر : ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك ؟ قال : إن تأخذ بكتاب الله فإن الله قال { وأتموا الحج والعمرة لله } وإن تأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى نحر الهدي } . فهذا رأي منه كما قال عثمان لما قال له علي وكان يأمر بالمتعة : أنت تنهى عن المتعة ؟ فقال : هذا رأي . وقد روي عن عمر من طرق اختيار التمتع ، رواه أبو عبيد والأثرم والنجاد وغيرهم . [ ص: 305 ] وأما معاوية فأنكر عليه سعد وعجب منه ابن عباس . والنبي صلى الله عليه وسلم حجة على الجميع ، ولهذا روى أحمد وغيره عن ابن عباس : { تمتع النبي صلى الله عليه وسلم } ، فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقيل ذلك لابن عباس فقال : أراهم سيهلكون ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول : نهى أبو بكر وعمر . فإن قيل : قال أبو ذر . كانت متعة الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، رواه مسلم ، وعن الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه { قلت يا رسول الله ، فسن الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة } رواه أحمد والنسائي وابن ماجه ، وأبو داود ولفظه " لكم خاصة " .

وعن أبي عيسى الخراساني عن ابن المسيب { أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج } قيل : قال أحمد في رواية أبي داود : ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة .

وقال في رواية الأثرم عن قول أبي ذر : من يقول هذا والمتعة في كتاب الله وأجمع الناس عليها ؟ وقال أحمد : لا يثبت حديث بلال ولا يعرف الحارث ، ولم يروه إلا الدراوردي .

وقال الدارقطني : تفرد به ربيعة ، وتفرد به الدراوردي عنه ، ولم أجد من وثق أبا عيسى سوى ابن حبان ، . [ ص: 306 ] ولا يخفى تساهله .

ولو صح هذا عند عمر احتج به في موضع وقال ابن القطان : لا يعرف حاله . ويدل على ضعف ذلك قول جابر ، { أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نحل ، فقال سراقة : يا رسول الله أرأيت متعتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال : بل هي للأبد } متفق عليه زاد مسلم : { دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة مرتين لا بل لأبد أبد } وفي مسلم عن ابن عباس مرفوعا { هذه عمرة استمتعنا بها ، فمن لم يكن معه الهدي فليحلل الحل كله ، فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة } وصح هذا المعنى عن علي وسعد بن أبي وقاص وأسماء وعمران وابن عمر وابن عباس وغيرهم [ وهم ] أكثر وأعلم وأصح ومعهم الكتاب والسنة ، فالعمل بذلك أحق وأولى ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية