صفحة جزء
ونقل المروذي فيمن يطلب العلم وتأذن له والدته وهو يعلم أن المقام أحب إليها ، قال إن كان جاهلا لا يدري كيف يطلق ولا يصلي فطلب العلم أحب إلي ، وإن كان قد عرف فالمقام عليها أحب إلي ، وهذا [ ص: 525 ] لعله يوافق على أفضلية الجهاد ما سبق من رواية حرب وابن هانئ ، وكلام الأصحاب هنا يدل على أن من العلم ما يقع نفلا ، وجزم به في الرعاية في الجهاد في طلب العلم بلا إذن ، وصرح به من الأئمة إسحاق ، نقله ابن منصور ، لأنه لا تعارض بين نفل وواجب ، فيجب من القرآن ما يجزي الصلاة ، وهو الفاتحة على المذهب ، ونقل الشالنجي أقل ما يجب الفاتحة وسورتان ، وهو بعيد ، لم أجد له وجها ، ولعله غلط ، وذكر ابن حزم أنهم اتفقوا أن حفظ شيء منه واجب ، وأنه لا يلزمه حفظ أكثر من البسملة والفاتحة وسورة معها ، وعلى استحسان حفظ جميعه ، وأن ضبط جميعه واجب على الكفاية ، ويأتي ذلك في الباب ، قال أحمد : ويجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه ، قيل له : فكل العلم يقوم به دينه ، قال : الفرض الذي يجب عليه في نفسه لا بد له من طلبه ، قيل مثل أي شيء ؟ قال الذي لا يسعه جهله : صلاته ، وصيامه ، ونحو ذلك ، ومراد أحمد ما يتعين وجوبه ، وإن لم يتعين ففرض كفاية ، وذكره الأصحاب ومنع الآمدي في خلو الزمان عن مجتهد كون التفقه في الدين من فروض الكفايات ; اكتفاء برجوع العوام إلى المجتهدين في العصر السابق ، وهذا غريب ، فمتى قامت طائفة بما لا يتعين وجوبه قامت بفرض كفاية ثم من تلبس به نفل في حقه ، ووجوبه مع قيام غيره دعوى تفتقر إلى دليل ، وصرح بعض الحنفية والشافعية بأنه فرض كفاية ، وأنه لا يقع نفلا ، وأنه إنما كان أفضل لأن فرض الكفاية أفضل من النفل ، ولعل المراد ما لم يكن النفل سببا فيه ، فإن ابتداء السلام أفضل من رده للخبر ، [ ص: 526 ] وجعل بعض الشافعية ذلك حجة في أن صلاة الجنازة المتكررة فرض كفاية كما يأتي عنهم ، وصرح به بعضهم في رد السلام المتكرر ، ولم أجد ما قاله الشافعية في غير ذلك ، ولا الحنفية إلا في العلم ويأتي كلام شيخنا في صلاة الجنازة أن فرض الكفاية إذا فعل ثانيا أنه فرض كفاية في أحد الوجهين ، فعلى هذا لا مدخل له هنا ، وكذا الجهاد ، وسيأتي والله أعلم ، وقد ذكر شيخنا أن تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد وأنه من نوع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات ، قال : والمتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول : أفضل ما تطوع به الجهاد ، وذلك لمن أراد أن ينشئه تطوعا باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه ، باعتبار أن الفرض قد سقط عنه ، فإذا باشره وقد سقط الفرض فهل يقع فرضا أو نفلا ؟ ؟ على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره ، وابتنى على الوجهين جواز فعلها بعد العصر ، والفجر مرة ثانية والصحيح أن ذلك يقع فرضا ، وأنه يجوز فعلها بعد العصر والفجر ، وإن كان ابتداء الدخول فيها تطوعا كما في التطوع الذي لزم بالشروع فإنه كان نفلا ، ثم يصير إتمامه واجبا ، وليحذر العالم ويجتهد فإن دينه أشد . نقل المروذي : العالم يقتدى به ، ليس العالم مثل الجاهل ، ومعناه لابن المبارك وغيره .

وقال الفضيل بن عياض : يغفر لسبعين جاهلا قبل أن يغفر لعالم واحد .

وقال شيخنا : أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ، فذنبه من جنس ذنب اليهود ، والله أعلم ، وفي آداب عيون المسائل : العلم أفضل الأعمال ، وأقرب العلماء إلى الله وأولاهم به أكثرهم له خشية ، وذكر [ ص: 527 ] أكثر الأصحاب بعد الجهاد والعلم الصلاة ( ش ) في تقديمها ، للأخبار في أنها أحب الأعمال إلى الله وخيرها ، ولأن مداومته عليه السلام على نفلها أشد ، ولقتل من تركها تهاونا ; ولتقديم فرضها ، وإنما أضاف الله تعالى إليه الصوم في قوله { كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به } فإنه لم يعبد به غيره في جميع الملل ، بخلاف غيره ، وإضافة عبادة إلى غير الله قبل الإسلام لا توجب عدم أفضليتها في الإسلام ، فإن الصلاة في الصفا والمروة أعظم منها في مسجد من مساجد قرى الشام ( ع ) وإن كان ذلك المسجد ما عبد به غير الله قط ، وقد أضافه إليه بقوله { وأن المساجد لله } فكذا الصلاة مع الصوم ، وقيل أضاف الصوم إليه لأنه لا يطلع عليه غيره ، وهذا لا يوجب أفضليته فإن من نوى صلة رحمه وأن يصلي ويتصدق ويحج كانت نيته عبادة يثاب عليها ، ونطقه بما يسمعه الناس من كلمة التوحيد أفضل ( ع ) { وسأله عليه السلام رجل : أي العمل أفضل ؟ قال عليك بالصوم فإنه لا مثل له } إسناده حسن ، رواه أحمد والنسائي من حديث أبي أمامة ، فإن صح فما سبق أصح ، ثم يحمل على غير الصلاة ، أو بحسب السائل ، وقيل الصوم ، قال أحمد : لا يدخله رياء ، قال بعضهم : وهذا يدل على أفضليته على غيره ، ونقل المروذي ويوسف بن موسى في رجل أراد أن يصوم تطوعا فأفطر لطلب العلم ، فقال : إذا احتاج إلى طلب العلم فهو أحب إلي .

وقال ابن شهاب : أفضل ما تعبد به المتعبد الصوم ، وقيل ما تعدى نفعه ، وحمل صاحب المحرر وغيره أفضلية الصلاة على النفع القاصر كالحج ، وإلا فالمتعدي [ ص: 528 ] أفضل ، نقل المروذي إذا صلى واعتزل فلنفسه ، وإذا قرأ فله ، ولغيره يقرأ أعجب إلي ، وعن أبي الدرداء مرفوعا { ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ ؟ قالوا : بلى ، قال : إصلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة } رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ، ونقل حنبل " اتباع الجنازة أفضل من الصلاة " ، وفي بعض كلام القاضي أن التكسب للإنسان أفضل من التعلم ، لتعديه ، وظاهر كلام ابن الجوزي وغيره أن الطواف أفضل من الصلاة فيه .

وقال شيخنا ، وذكره عن جمهور العلماء للخبر ، وقد نقل حنبل : نرى لمن قدم مكة أن يطوف ، لأنه صلاة ، والطواف أفضل من الصلاة ، والصلاة بعد ذلك وعن ابن عباس الطواف لأهل العراق ، والصلاة لأهل مكة ، وكذا عطاء ، هذا كلام أحمد وذكر أحمد في رواية أبي داود عن عطاء والحسن ومجاهد الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف أفضل للغرباء ، فدل ما سبق أن الطواف أفضل من الوقوف بعرفة لا سيما وهو عبادة بمفرده ، يعتبر له ما يعتبر للصلاة غالبا ; وقيل الحج أفضل ، لأنه جهاد وقالت عائشة { يا رسول الله ، هل على النساء جهاد ؟ قال ؟ عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة } إسناده صحيح ، رواه أحمد وابن ماجه .

ولأحمد والبخاري عنها { يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد ؟ قال لكن أفضل الجهاد حج مبرور } .

وروى أبو يعلى الموصلي عن سناد بن فروخ وجماعة قالوا : ثنا القاسم بن الفضل ، عن محمد بن علي ، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { الحج جهاد كل ضعيف } ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة [ ص: 529 ] عن وكيع ، عن القاسم كلهم ثقات ، ورواه أحمد عن محمد بن علي هو الباقر ، ولد سنة ست وخمسين ، وماتت أم سلمة في ولاية يزيد ، ففي سماعه منها نظر ، .

وعن أبي هريرة مرفوعا { جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة : الحج والعمرة } رواه النسائي ، وعن بريدة مرفوعا { النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله } رواه أحمد ولأحمد وأبي داود من حديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبرني رسول مروان إلى أم معقل عنها مرفوعا { الحج والعمرة في سبيل الله } وعن أم معقل أيضا مرفوعا { الحج في سبيل الله } رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق بصيغة ( عن ) فظهر من ذلك أن نفل الحج أفضل من صدقة التطوع ، ومن العتق ، ومن الأضحية ويأتي ذلك في صدقة التطوع والأضحية والعتق ، وعلى ذلك إن مات في الحج فكما لو مات في الجهاد ، ويكون شهيدا روى أبو داود ثنا عبد الوهاب بن نجدة ، حدثنا بقية عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن أبي بردة إلى مكحول ، إلى عبد الرحمن بن غنيم الأشعري أن أبا مالك الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد ، أو وقصه فرسه أو بعيره ، أو لدغته هامة ، أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد ، وإن له الجنة } " بقية " مختلف فيه ، وفيه تدليس وهو إن شاء الله حديث حسن ، وقوله " فصل " خرج ، وعلى هذا فالموت في طلب العلم أولى بالشهادة على ما سبق وللترمذي وقال حسن غريب ، عن أنس مرفوعا { من خرج في [ ص: 530 ] طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع } وظاهر كلام أحمد والأصحاب وبقية العلماء أن المرأة كالرجل في استحباب التطوع بالحج لما سبق .

وقال ابن عباس : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم { يأيها الناس ، كتب عليكم الحج فقام الأقرع بن حابس فقال : في كل عام يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها ، الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع } حديث صحيح ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه .

ولأبي داود ، عن النفيلي عن عبد العزيز بن محمد ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن أبي واقد الليثي عن أبيه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه في حجة الوداع { هذه ثم ظهور الحصر } رواه أحمد عن سعيد بن منصور عن عبد العزيز بن زيد ، عن واقد بن أبي واقد ، عن أبيه فذكره وقد تفرد عنه زيد .

وقال بعضهم الخبر منكر ، فما زلن يحججن ، وعن أبي هريرة مرفوعا مثله ، قال : فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة ، وكانت تقول : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه عن يزيد ، أظنه عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة عنه .

وقال أحمد حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج بنسائه ، قال إنما هي هذه ، ثم الزمن ظهور الحصر } صالح صالح الحديث ، قاله أحمد ، ووقفه ابن معين وغيره ، وضعفه أبو داود والنسائي وغيرهما .

وقال ابن عدي لا بأس إذا سمعوا منه [ ص: 531 ] قديما ، مثل ابن أبي ذئب وظهور بضم الظاء المعجمة .

وقال ابن الأثير : أي إنكن لا تعدن تخرجن ، وتلزمن الحصر ، هي جمع الحصير التي تبسط في البيوت بضم الصاد ، وتسكن تخفيفا . وفي البخاري عن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جده " أن عمر أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حجة حجها ، يعني في الحج ، وبعث معهن عبد الرحمن ، يعني ابن عوف وعثمان بن عفان ، نقل أبو طالب ليس أشبه الحج شيء ; للتعب الذي فيه ، ولتلك المشاعر ، وفيه مشهد ليس في الإسلام مثله ، وعشية عرفة ، وفيه إنهاك المال ، والبدن ، وإن مات بعرفة فقد طهر من ذنوبه ، واختار شيخنا أن كل واحد بحسبه ، فإن الذكر بالقلب أفضل من الغزاة بلا قلب ، وهو يعني كلام ابن الجوزي فإنه قال : أصوب الأمور أن ينظر إلى ما يطهر القلب ويصفيه للذكر والأنس فيلازمه . وفي رد شيخنا على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة ومالك للعلم ، والتحقيق : لا بد لكل من الآخرين ، وقد يكون كل واحد أفضل في حال ، كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم بحسب الحاجة والمصلحة ، ويوافق ما سبق قول إبراهيم بن جعفر لأحمد : الرجل يبلغني عنه صلاح ، أفأذهب أصلي خلفه ؟ قال أحمد انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله .

وقال أبو الحسين بن سمعون من أصحابنا : وسأله البرقاني أيها الشيخ ، تدعو الناس إلى الزهد في الدنيا ، وتلبس أحسن الثياب ، تأكل أطيب الطعام ، فكيف هذا ؟ قال : كل ما يصلحك مع الله فافعله ، وقد نقل عنه مثنى : أفضلية الفكرة على [ ص: 532 ] الصلاة والصوم ، فقد يتوجه أن عمل القلب أفضل من عمل الجوارح ، ويكون مراد الأصحاب عمل الجوارح ، وروى أحمد ، وأبو داود من رواية يزيد بن زياد عن مجاهد ، عن رجل عن أبي ذر مرفوعا { أتدرون أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال قائل : الصلاة والزكاة ، وقائل : الجهاد ، قال : أحب الأعمال إلى الله ، الحب في الله ، والبغض في الله } { وسأل عليه السلام أي عرى الإسلام أوثق ؟ قالوا الصلاة ، والزكاة ، وصيام رمضان ، قال : لا ، أوثق عرى الإسلام أن تحب في الله وتبغض في الله } رواه أحمد ، وغيره ، من حديث البراء ، ولهذا ذكر في الفنون رواية مثنى فقال : يعني الفكرة في آلاء الله ، ودلائل صنعه ، والوعد والوعيد ، لأنه الأصل الذي يفتح أبواب الخير ، وما أثمر الشيء فهو خير من [ أجل ] ثمرته .

وقال في الفنون أيضا : لو لم يكن مقاساة المكلف إلا لنفسه لكفاه ، إلى أن قال : فكفى بك شغلا أن تصح وتسلم ، وتداوي بعضك ببعض ، فذلك هو الجهاد الأكبر ، لأنه مغالبة المحبوبات ، لأنك إذا تأملت ما يكابد المعاني ، لهذه الطباع المتغالبة وجدته القتل في المعنى ، لأنه إن ثار غضبه كلف بتبريد تلك النار المضطرمة بالحلم ، وإن تكلبت الطباع لاستيفاء لذة مع تمكن قدرة وخلوة كلف بتقليص أدوات الامتداد باستحضار زجر الحكمة والعلم ورهبة وعيد الحق ، وإن ثار الحسد كلف القنوع بالحال وترك مطالعة أحوال الأغيار ، وإن غلب الحقد وطلب التشفي من البادئ بالسوء كلف تغيير الحقد باستحضار العفو ، وإن ثار الإعجاب والمباهاة لرؤية الخصائص التي في النفس كلف استحضار لطيفة من التواضع والعطاء [ ص: 533 ] للجنس ، وإن استحلت النفس الاستماع إلى اللغو كلف استحضار الصيانة عن الإصغاء إلى داعية الشهوة واللهو ، هذا وأمثاله هو العمل ، والناس عنه بمعزل ، لا يقع لهم أن العمل سوى ركعات يتنفل بها الإنسان في جوف الليل ، تلك عبادة الكسالى العجزة ، إنما تمييز الإنسان بهذه المقامات التي تنكشف فيها الأحوال . من وصل إلى هذه المقامات فقد رقي إلى درجة الصديقين ، وإلا فكل أحد إذا خلا بنفسه ، وسكنت طباعه لم يصعب عليه رطل من الماء ، واستقبال المحراب ، لكن ما وراء ذلك هو العمل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فما تنفع صلاة الليل مع التبتل : للقبح بالنهار ، وما تنفع إدارة السبحة بالغدوات في المساجد والمسلمون قتلى أفعالك طول النهار : أموالها في الأسواق ، وأعراضها في المساطب ، من يتخبطه شيطانه بأنواع التخبيط ، ويتلاعب به في الليل والنهار كل التلاعب لا يستحسن منه ركيعات في جوف الليل ، قد قنع منك بالفروض الموظوفة مع سلامة الناس من يدك ولسانك ويأتي كلامه في عدد الشهداء ، وهذا ظاهر المنهاج ، فإن فيه من انفتح له طريق عمل بقلبه بدوام ذكر أو فكر ، فذلك الذي لا يعدل به ألبتة ، وظاهره أن العالم بالله وبصفاته أفضل من العالم بالأحكام الشرعية ، لأن العلم يشرف بشرف معلومه ، وبثمراته ، فكل صفة توجب حالا : ينشأ عنها أمر مطلوب ، فمعرفة سعة الرحمة تثمر الرجاء ، وشدة النقمة تثمر الخوف الكاف عن المعاصي ، وتفرده بالنفع والضرر يثمر التوكل عليه وحده ، والمحبة له والهبة ومعرفة الأحكام لا تثمر ذلك ، والمتكلم الأصولي لا تدوم [ ص: 534 ] له هذه الأحوال غالبا ، وإلا لكان عارفا ، ويؤيد هذا قول أحمد عن معروف : وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف ؟ ؟ وقال أيضا عنه : كان معه رأس العلم : خشية الله . وفي خطبة كفاية ابن عقيل ، إنما شرف العلوم بحسب مؤدياتها ، ولا أعظم من المبادئ ، فيكون العلم المؤدي إلى معرفته ، وما يجب له وما يجوز أجل العلوم . والأشهر عن أحمد الاعتناء بالحديث ، والفقه ، والتحريض على ذلك عجيب ممن يحتج بالفضيل ، وقال : لعل الفضيل قد اكتفى وقال : لا يتثبط عن طلب العلم إلا جاهل ، وقال : ليس قوم خيرا من أهل الفقه ، وعاب على محدث لا يتفقه ، وقال : يعجبني أن يكون الرجل فهيما في الفقه ، قال شيخنا ، قال أحمد معرفة الحديث والفقه فيه أعجب إلى من حفظه ، وفي خطبة مذهب ابن الجوزي بضاعة الفقه أربح البضائع ، وفي كتاب العلم له الفقه عمدة العلوم وفي صيد الخاطر له الفقه عليه مدار العلوم ، فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه ، فإنه الأنفع ، وفيه المهم من كل علم ، هو المهم وقال في كتابه السر المصون : تأملت سبب الفضائل فإذا هو علو الهمة ، وذلك أمر مركوز في الجبلة لا يحصل بالكسب ، وكذلك خسة الهمة ، وقد قال الحكماء : تعرف همة الصبي من صغره ، فإنه إذا قال للصبيان من يكون معي ؟ دل على علو همته ، وإذا قال مع من أكون ؟ دل على خستها ، فأما الخسة فالهمم فيها درجات منهم من ينفق عمره في جمع المال ولا يحصل شيئا من العلم ، ومنهم من يضم إلى ذلك البخل ، ومنهم من رضي بالدون في المعاش ، وأخسهم الكساح ، فأما [ ص: 535 ] علو الهمة في الفضائل فقوم يطلبون الرئاسة ، وكان أبو مسلم الخراساني عالي الهمة في طلبها ، وكانت همته الرضاء في طلب الخلافة ، وكان المتنبي يصف علو همته ، وما كانت إلا التكبر بما يحسنه من الشعر ، ومن الناس من يرى أن غاية المراتب الزهد فيطلبه ، ويفوته العلم ، فهذا مغبون ، لأن العلم أفضل من الزهد ، فقد رضي بنقص وهو لا يدري ، وسبب رضاه بالنقص قلة فهمه ، إذ لو فهم لعرف شرف العلم على الزهد ، ومنهم من يقول : المقصود من العلم العمل ، وما يعلم هذا أن العلم عمل القلب ، وذاك أشرف من عمل الجوارح ، ومن طلبة العلم من تعلو همته إلى فن من العلوم فيقتصر عليه وهذا نقص ، فأما أرباب النهاية في علو الهمة فإنهم لا يرضون إلا بالغاية ، فهم يأخذون من كل فن من العلم مهمه ، ثم يجعلون جل اشتغالهم بالفقه ، لأنه سيد العلوم ، ثم ترقيهم الهمم العالية إلى معاملة الحق ومعرفته ، والأنس به ، وقيل ما هم هذا كلامه . وقال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى : عليك بالفقه ، فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه ، وأملى الشافعي على مصعب الزبيري أشعار هذيل ووقائعها ، وآدابها حفظا ، فقال له : أين أنت بهذا الذهن عن الفقه ؟ فقال : إياه أردت .

وقال أحمد عن الشافعي : إنما كانت همته الفقه .

وقال أبو حنيفة : ليس شيء أنفع من الفقه وقال محمد بن الحسن : كان أبو حنيفة يحثنا على الفقه ، وينهانا عن الكلام ، وفي خطبة المحيط للحنفية : أفضل العلوم عند الجمهور بعد معرفة أصل الدين وعلم اليقين معرفة الفقه .

وقال العقلاء : ازدحام العلوم ، مضلة للفهوم .

وقال البخاري لأبي العباس الوليد بن إبراهيم [ ص: 536 ] وقد جاء إليه لأجل معرفة الحديث فقال له : يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده ، والوقوف على مقاديره ، فقلت له : عرفني ، فقال : اعلم أن الرجل لا يصير محدثا كاملا في حديث إلا بعد كذا وكذا وذكر أشياء كثيرة يطول ذكرها ، قال فهالني قوله ، قال وسكت متفكرا وأطرقت نادما ، فلما رأى ذلك مني قال لي : فإن كنت لا تطيق احتمال هذه المشاق كلها فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه ، وأنت في بيتك قار ساكن ، كي لا تحتاج إلى بعد الأسفار ، وطي الديار ، وركوب البحار ، وهو مع ذا ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة ، ولا عزه له بأقل من عز المحدث ، فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث ، وأقبلت على علم ما أمكنني من عمله بتوفيق الله تعالى ومنه .

وقال الشافعي : ما ناظرت ذا فن إلا وقطعني ، وما ناظرت ذا فنون إلا قطعته ، وقال الأصمعي : ما أعياني إلا المنفرد .

وقال المبرد : ينبغي لمن يحب العلم أن يفتن في كل ما يقدر عليه من العلوم ، إلا أنه يكون مفردا غالبا ، عليه علم منها ، يقصده بعينه ويبالغ فيه ، قال أبو جعفر النحاس : هذا من أحسن ما سمعت في هذا .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا { تجدون الناس معادن ، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ، والناس تبع لقريش في هذا الشأن : مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم . }

التالي السابق


الخدمات العلمية