البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
الثالث أعني صفة الماء المستعمل لم تذكر في ظاهر الرواية ; ولهذا ذكر في الكافي الذي هو جمع كلام محمد أن الماء المستعمل لا يجوز التوضؤ به ولم يبين صفته من الطهارة أو النجاسة ; فلهذا لم تثبت مشايخ العراق خلافا بين أصحابنا في صفته فقالوا : طاهر غير طهور عند أصحابنا ، وغيرهم أثبت الخلاف فقالوا إن عن أبي حنيفة روايتين في رواية محمد عنه أنه طاهر غير طهور وبها أخذ وكذا رواها فروعا عامر عن أبي حنيفة كما ذكره قاضي خان في شرحه وفي رواية أبي يوسف والحسن بن زياد أنه نجس غير أن الحسن روي عنه التغليظ وأبا يوسف روي عنه التخفيف وكل أخذ لما روى وروي عن أبي يوسف أن المستعمل إن كان محدثا أو جنبا فالماء نجس ، وإن كان طاهرا فالماء طاهر وعند زفر إن كان المستعمل محدثا أو جنبا فهو طاهر غير طهور ، وإن كان متوضئا فهو طاهر طهور ، وقد صحح المشايخ رواية محمد حتى قال في المجتبى وقد صحت الروايات عن الكل أنه طاهر غير طهور إلا الحسن وقال فخر الإسلام في شرح الجامع الصغير هو المختار عندنا ، وهو المذكور في عامة كتب محمد عن أصحابنا فاختاره المحققون من مشايخ ما وراء النهر وفي المحيط أنه المشهور عن أبي حنيفة وفي كثير من الكتب وعليها الفتوى من غير تفصيل بين المحدث والجنب المذكور في فتاوى الولوالجي والتجنيس في مواضع أن الفتوى على رواية محمد لعموم البلوى إلا في الجنب وقد ذكر النووي أن الصحيح من مذهب الشافعي أنه طاهر غير طهور وبه قال أحمد ، وهو رواية عن مالك ولم يذكر ابن المنذر عنه غيرها ، وهو قول جمهور السلف والخلف ا هـ .

وجه رواية النجاسة قوله صلى الله عليه وسلم { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة } كذا في الهداية وكثير من الكتب قال في البدائع : وجه الاستدلال به حرمة الاغتسال في الماء القليل لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة لم يكن للنهي معنى ; لأن إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام أما تنجيس الطاهر فحرام فكان هذا نهيا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال وذا يقتضي التنجس به ولا يقال يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا نم غير ضرورة ، وذلك حرام ; لأنا نقول الماء القليل إنما يخرج عن كونه مطهرا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبا عليه كماء الورد واللبن فأما إذا كان مغلوبا فلا ، وهاهنا الماء المستعمل ما يلاقي البدن ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل فكيف يخرج به من أن يكون مطهرا .

فأما ملاقاة النجس الطاهر توجب تنجيس الطاهر ، وإن لم يغلب على الطاهر لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما فيحكم بنجاسة الكل فثبت أن النهي لما قلنا ولا يقال يحتمل أنه نهي لأن أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية وذا يوجب تنجيس الماء القليل ; لأنا نقول [ ص: 100 ] الحديث مطلق فيجب العمل بإطلاقه ; ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون ; لأنه هو المتعارف بين المسلمين والمسنون منه إزالة النجاسة قبل الاغتسال على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيد بالنهي عن البول فيه فيوجب حمل النهي على الاغتسال فيه لما ذكرنا صيانة لكلام صاحب الشرع عن الإعادة الخالية عن الإفادة ا هـ .

وقد حصل من الجواب الأول دفع ما ذكره في فتح القدير تبعا للنووي ، ومن الجواب الثاني دفع ما في السراج الوهاج كما لا يخفى على من يراجعهما ، وفي معراج الدراية ، فإن قيل القران في النظم لا يوجب القران في الحكم فلا يلزم تنجس الماء بالاغتسال قلنا قد بينا أن مطلق النهي للتحريم خصوصا إذا كان مؤكدا بنون التوكيد لا باعتبار القران ا هـ .

ويستدل لأبي حنيفة وأبي يوسف أيضا بالقياس وأصله الماء المستعمل في النجاسة الحقيقية والفرع المستعمل في الحكمية بجامع الاستعمال في النجاسة بناء على إلغاء وصف الحقيقي في ثبوت النجاسة ، وذلك لأن معنى الحقيقية ليس إلا كون النجاسة موصوفا بها جسم محسوس مستقل بنفسه عن المكلف لا أن وصف النجاسة حقيقة لا يقوم إلا بجسم كذلك ، وفي غيره مجاز بل معناه الحقيقي واحد في ذلك الجسم .

وفي الحدث وهذا ; لأنه ليس المتحقق لنا من معناها سوى أنها اعتبار شرعي منع الشارع من قربان الصلاة والسجود حال قيامه لمن قام به إلى غاية استعمال الماء فيه ، فإذا استعمله قطع ذلك الاعتبار كل ذلك ابتلاء للطاعة فأما أن هناك وصفا حقيقيا عقليا أو محسوسا فلا ومن ادعاه لا يقدر في إثباته على غير الدعوى ، ويدل على أنه اعتبار اختلافه باختلاف الشرائع ألا ترى أن الخمر محكوم بنجاسته في شريعتنا ، وبطهارته في غيرها فعلم أنها ليست سوى اعتبار شرعي ألزم معه كذا إلى غاية كذا ابتلاء وفي هذا لا تفاوت بين الدم والحدث ، فإنه أيضا ليس إلا ذلك الاعتبار فظهر أن المؤثر نفس وصف النجاسة ، وهو مشترك في الأصل والفرع فيثبت مثل حكم الأصل ، وهو نجاسة الماء المستعمل فيه في الفرع ، وهو المستعمل في الحدث ، فيكون نجسا إلا أن هذا إنما ينتهض على من يسلم كون حكم الأصل ذلك كمالك وأكثر العلماء

وأما من يشترط في نجاسته خروجه من الثوب متغيرا بلون النجاسة كالشافعي فلا فعنده الماء الذي يستعمل في الحقيقية التي لا لون لها يغاير لون الماء كالبول طاهر يجوز شربه وغسل الثوب به دون إزالة الحدث ; لأنه عنده مستعمل ، وهو لا يقصر وصف الاستعمال على رافع الحدث ، فإنما ينتهض عليه بعد الكلام معه في نفس هذا التفصيل ، وهو سهل غير أنا لسنا إلا بصدد توجيه رواية نجاسة المستعمل عن أبي حنيفة على أصولنا ، فإن قيل لو تم ما ذكرت كان للبلوى تأثير في إسقاط حكمه فالجواب الضرورة لا يعدو حكمها محلها والبلوى فيه إنما هي في الثياب فيسقط اعتبار نجاسة ثوب المتوضئ وتبقى حرمة شربه والطبخ به وغسل الثوب منه ونجاسة من يصيبه كذا قرر ، وجه القياس العلامة المحقق كمال الدين بن همام الدين رحمه الله على النجاسة واستدل في الكفاية للشيخ جلال الدين الخبازي بإشارة قوله تعالى عقب الأمر بالوضوء والتيمم { ولكن يريد ليطهركم } فدل إطلاق التطهير على ثبوت النجاسة في أعضاء الوضوء ودل الحكم بزوالها بعد التوضؤ على انتقالها إلى الماء ، فيجب الحكم بالنجاسة ثم إن أبا يوسف جعل نجاسته خفيفة لعموم البلوى فيه لتعذر صيانة الثياب عنه ولكونه محل اجتهاد فأوجب ذلك خفة في حكمه والحسن يجعل نجاسته غليظة ; لأنها نجاسة حكمية ، وأنها أغلظ من الحقيقية ألا ترى أنه عفا عن القليل من الحقيقية دون الحكمية .

ووجه رواية محمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث { جابر قال مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانني فوجداني قد أغمي علي فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب [ ص: 101 ] وضوءه علي فأفقت } وفي البخاري أيضا أن { الناس كانوا يتمسحون بوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم } وفيه { أنه إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه } فكذا استدل مشايخنا لرواية الطهارة منهم البيهقي في الشامل وكذا استدل به النووي في شرح المهذب ولكن لقائل أن يقول إن هذا لا يصلح دليلا للمدعي لأن هذا الذي تمسحوا به ليس هو المتساقط من أعضائه عليه الصلاة والسلام ، فإنه يجوز أن يكون هو ما فضل من وضوئه ، فإن في بعض رواياته الصحيحة فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به وفي لفظ النسائي في هذا الحديث { وأخرج بلال فضل وضوئه فابتدره الناس } وليس المراد به المتساقط من وضوئه عليه السلام وكذا حديث جابر { فصب عليه من وضوئه } ، فإن جعل الوضوء اسما لمطلق الماء فلا دلالة فيه على طهارة الماء المستعمل ، وإن أريد بوضوئه فضل مائه الذي توضأ ببعضه لا استعمله في أعضائه فلا دلالة فيه أيضا ، وإن جعل اسما للماء المعد للوضوء فلا دلالة فيه أيضا فحينئذ لا يدل مع هذه الاحتمالات كذا ذكره العلامة الهندي ; ولهذا والله أعلم لم يستدل المحقق ابن الهمام بهذه الدلائل لرواية الطهارة وإنما استدل بالقياس فقال المعلوم من جهة الشارع أن الآلة التي تسقط الفرض وتقام بها القربة تتدنس

وأما الحكم بنجاسة العين شرعا فلا وذلك ; لأنه أصله مال الزكاة تدنس بإسقاط الفرض به حتى جعل من الأوساخ في لفظه عليه السلام فحرم على من شرف بقرابته الناصرة له ولم يصل مع هذا إلى النجاسة حتى لو صلى حامل دراهم الزكاة صحت فكذا يجب في الماء أن يتغير على وجه لا يصل إلى التنجس ، وهو سلب الطهورية إلا أن يقوم فيه دليل يخصه غير هذا القياس ا هـ .

لكن قد علمت الدليل الذي ذكرناه لأبي حنيفة آنفا فاندفع به هذا القياس وبهذا يترجح القول بالنجاسة ولهذا والله أعلم ذكر صاحب الهداية في التجنيس أن الفتوى على رواية محمد لعموم البلوى إلا في الجنب كما نقلناه عنه وعن الولوالجي آنفا ، فإنه لما كان دليل النجاسة قويا كان هو المختار إلا أن البلوى عمت في الماء المستعمل في الحدث الأصغر فأفتى المشايخ بالطهارة بخلاف المستعمل في الأكبر لم يوجد فيه عموم البلوى فكان على المختار من النجاسة ويؤيده ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في المبسوط أن قوله في الأصل إذا اغتسل الطاهر في البئر أفسده دليل على أن الصحيح من قول أبي حنيفة إن الماء المستعمل نجس ; لأن الفاسد من الماء هو النجس ا هـ .

لكن رجح في موضع آخر رواية أبي يوسف القائلة بالتخفيف واستبعد رواية الحسن القائلة بالتغليظ فقال ما رواه الحسن بعيد ، فإن للبلوى تأثيرا في تخفيف النجاسة ومعنى البلوى في الماء المستعمل الطاهر ، فإن صون الثياب عنه غير ممكن ، وهو مختلف في نجاسته فلذلك خف حكمه ا هـ .

وفي فتاوى قاضي خان المشهور عن أبي حنيفة وأبي يوسف نجاسة الماء المستعمل لكن قال في الذخيرة الظاهر أن الماء المستعمل طاهر للجنب والمحدث وقد قدمناه في الغسل فليراجع .

ثم اعلم أن الماء المستعمل على قول القائلين بنجاسته نجاسة عينية عند البعض حتى لا يجوز الانتفاع به بوجه ما وعند البعض نجاسته بالمجاورة حتى يجوز الانتفاع به بسائر الوجوه سوى الشرب ; لأن هذا ماء أزيلت به النجاسة الحكمية فصار كما أزيل به النجاسة الحقيقية ووجه الأول أن المجاورة إنما تكون بانتقال شيء من عين إلى عين ، ولم يوجد حقيقة إلا أنه يتنجس الماء بالاستعمال شرعا فيكون نجسا عينا فيكون كذا ذكره الإمام صاحب الهداية في التجنيس ولم يرجح لكن تأخيره وجه الأول يفيد ترجيحه كما هي عادته في الهداية وفي الخلاصة ويكره شرب الماء المستعمل ، وأما الماء إذا وقعت فيه نجاسة فإن تغير وصف الماء لم يجز الانتفاع به بحال ، وإن لم يتغير الماء جاز الانتفاع به كبل الطين وسقي الدواب ا هـ .

ولا يخفى أن الكراهة على رواية [ ص: 102 ] الطهارة أما على رواية النجاسة ، فحرام لقوله تعالى { ويحرم عليهم الخبائث } والنجس منها


[ ص: 99 - 100 ] ( قوله : وقد حصل من الجواب الأول دفع ما ذكره في فتح القدير ) أي من الجواب عن السؤال الأول ، وهو قوله لا يقال يحتمل أنه نهي لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرا إلخ والذي ذكره في فتح القدير هو قوله : وأما قوله صلى الله عليه وسلم { لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة } فغاية ما يفيد نهي الاغتسال كراهة التحريم ويجوز كونها لكي لا تسلب الطهورية فيستعمله بعض من لا علم له بذلك في رفع الحدث ويصلي ولا فرق بين هذا وبين كونه يتنجس فيستعمله من لا علم له بحاله في لزوم المحذور ، وهو الصلاة مع المنافي فيصلح كون كل منهما مثيرا للنهي المذكور ا هـ .

ووجه الدفع أنه لا يلزم من الاغتسال في الماء القليل سلب الطهورية فلا يلزم هذا المحذور ولكن لا تنسى ما مر في الفساقي من الكلام في الملقى والملاقى فتدبر ( قوله : ومن الجواب الثاني دفع ما في السراج ) أي جواب السؤال الثاني وما في السراج هو ما ذكر في السؤال ، فإنه قال في الحديث ، وهذا يدل على نجاسته إلا أن يجاب عنه أن المغتسل من الجنابة لا يخلو بدنه عن نجاسة المني عادة والعادة كالمتيقن [ ص: 101 ]

( قوله : ولا يخفى أن الكراهة على رواية الطهارة ) قال الرملي عن النهر وأقول : يمكن حمله على رواية النجاسة بناء على أن المطلق منها ينصرف إلى التحريم ا هـ فليتأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية