البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
ثم اعلم أن في قول المصنف في أصل المسألة دبغ إشارة إلى أنه يستوي أنه يكون الدابغ مسلما أو كافرا أو صبيا أو مجنونا أو امرأة إذا حصل به مقصود الدباغ ، فإن دبغه الكافر وغلب على الظن أنهم يدبغون بالسمن النجس ، فإنه يغسل كذا في السراج الوهاج وفيه مسألة جلد الميتة بعد الدباغ هل يجوز أكله إذا كان جلد حيوان مأكول اللحم قال بعضهم نعم ; لأنه طاهر كجلد الشاة المذكاة وقال بعضهم : لا يجوز أكله ، وهو الصحيح لقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } ، وهذا جزء منها { وقال عليه السلام في شاة ميمونة رضي الله تعالى عنها إنما يحرم من الميتة أكلها مع أمره لهم بالدباغ والانتفاع } ، وأما إذا كان جلد ما لا يؤكل كالحمار ، فإنه لا يجوز أكله إجماعا ; لأن الدباغ فيه ليس بأقوى من الذكاة وذكاته لا تبيحه فكذا دباغه . ا هـ .

وهذا الذي قدمناه في جلود الميتات كله مذهبنا وللعلماء فيه سبعة مذاهب ذكرها الإمام النووي في شرح المهذب فنقتصر منها على ما اشتهر من المذاهب منها ما ذهب إليه الشافعي أن كل حيوان ينجس بالموت طهر جلده بالدباغ ما عدا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما فلا يدخل الآدمي في هذا العموم عنده ; لأن الصحيح عنده أن الآدمي لا ينجس بالموت فجلده طاهر من غير دبغ لكن لا يجوز استعماله لحرمته وتكريمه ومنها ما ذهب إليه أحمد أنه لا يطهر بالدباغ شيء ، وهو رواية عن مالك ومنها ما ذهب إليه مالك أنه يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب وجه قول أحمد قوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } ، وهو عام في الجلد وغيره وحديث عبد الله بن عكيم قال { أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهرين [ ص: 110 ] لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي : حديث حسن ووجه قول مالك أن الدباغ إنما يؤثر في الظاهر دون الباطن ووجه قول الشافعي ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من رواية ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أيما إهاب دبغ فقد طهر } وفي صحيح مسلم { إذا دبغ الإهاب فقد طهر } ، وهو حديث حسن صحيح وما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميتة هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا يا رسول الله إنها ميتة قال إنما حرم أكلها } وفي الباب أحاديث أخر ذكرها النووي في شرح المهذب وإنما خرج الكلب والخنزير ; لأن الحياة أقوى من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة والدباغ إنما يطهر الجلد فإذا كانت الحياة لا تطهرهما فالدباغ أولى ولنا ما ذكرناه من الأحاديث في دليل الشافعي ، وهو كما تراه عام فإخراج الخنزير منه لمعارضة الكتاب إياه وهو قوله تعالى { أو لحم خنزير فإنه رجس } بناء على عود الضمير إلى المضاف إليه ; لأنه صالح لعوده وعند صلاحية كل من المتضايفين لذلك يجوز كل من الأمرين وقد جوز عود ضمير ميثاقه في قوله تعالى { ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } إلى كل من العهد ولفظ الجلالة وتعين عوده إلى المضاف إليه في قوله تعالى { واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون } ضرورة صحة الكلام وإلى المضاف في قولك رأيت ابن زيد فكلمته ; لأن المحدث عنه بالرؤية رتب على الحديث الأول عنه الحديث الثاني فتعين هو مرادا به ، وإلا اختل النظم

فإذا جاز كل منهما لغة والموضع موضع احتياط وجب إعادته على ما فيه الاحتياط ، وهو بما قلنا كذا قرره العلامة في فتح القدير أخذا من النهاية ومعراج الدراية وفي غاية البيان ومما ظهر لي في فؤادي من الأنوار الربانية والأجوبة الإلهامية أن الهاء لا يجوز أن ترجع إلى اللحم ; لأن قوله { فإنه رجس } خرج في مقام التعليل ، فلو رجع إليه لكان تعليل الشيء بنفسه ، فهو فاسد لكونه مصادرة ، وهذا ; لأن نجاسة لحمه عرفت من قوله { أو لحم خنزير } ; لأن حرمة الشيء مع صلاحيته للغذاء لا للكرامة آية النجاسة فحينئذ يكون معناه كأنه قال لحم خنزير نجس ، فإن لحمه نجس أما إذا رجع الضمير إلى الخنزير فلا فساد ; لأنه حينئذ يكون حاصل الكلام لحم خنزير نجس ; لأن الخنزير نجس يعني أن هذا الجزء من الخنزير نجس ; لأن كله نجس هذا هو التحقيق في الباب لأولي الألباب ا هـ .

وتعقبه شارح متأخر بأنه عند التأمل بمعزل عن الصواب ، وكيف لا والجري على هذا المنوال مما يسد باب التعليل بالأوصاف المناسبة للأحكام ولا شك أنه لا يلزم من كون الشيء علامة على شيء أن لا يصح التصريح بكون الشيء الثاني علة للشيء الأول بجعل الشارع لما فيه من الوصف المناسب لذلك بل ذلك يصحح التصريح بكونه علة ، ولا يلزم منه تعليل الشيء بنفسه قطعا ، ولنوضحه فيما نحن بصدده فنقول قوله إنه رجس تعليل للتحريم وكون التحريم لا للتكريم علامة على نجاسة المحرم كما هنا يصحح التصريح بكونه نجسا علة لتحريمه لا أنه يمنع منه ، وليس فيه تعليل النجاسة بالنجاسة بل تعليل التحريم الكائن لا للتكريم بوصف مناسب له قائم بالعين المحرمة ، وهو القذارة حثا على مكارم الأخلاق والتزام المروءة بمجانبة الأقذار والنزاهة منها ونظيره قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } فقوله { إنه كان فاحشة ومقتا } تعليل لتحريم نكاح منكوحات الآباء مع أن تحريم نكاحهن علامة على قبحه ممقوتا عند الله تعالى فلم يمنع ذلك من التصريح به علة له ا هـ .

وهو كما ترى في غاية الحسن والتحقيق ، وأما الجواب عن احتجاج أحمد أما على الآية ، فهو أنها عامة خصتها السنة كذا أجاب النووي عنها في شرح المهذب ، وأما عن حديث عبد الله بن عكيم [ ص: 111 ] فالاضطراب في متنه وسنده يمنع تقديمه على حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فإن الناسخ أي معارض فلا بد من مشاكلته في القوة ; ولذا قال به أحمد وقال هو آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركه للاضطراب فيه أما في السند فروى عبد الرحمن عن ابن عكيم كما قدمنا وروى أبو داود من جهة خالد الحذاء عن الحكم بن عتبة بالتاء فوق عن عبد الرحمن أنه انطلق هو وناس إلى عبد الله بن عكيم قال فدخلوا ووقفت على الباب فخرجوا إلي فأخبروني أن عبد الله بن عكيم أخبرهم { أنه عليه السلام كتب إلى جهينة } الحديث ففي هذا أنه سمع من الداخلين وهم مجهولون ، وأما في المتن ففي رواية بشهر وفي أخرى بأربعين يوما وفي أخرى بثلاثة أيام هذا مع الاختلاف في صحبة ابن عكيم ثم كيف كان لا يوازي حديث ابن عباس الصحيح في جهة من جهات الترجيح ثم لو كان لم يكن قطعيا في معاضته ; لأن الإهاب اسم لغير المدبوغ وبعده يسمى شنا وأديما

وما رواه الطبراني في الأوسط من لفظ هذا الحديث هكذا { كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب } في سنده فضالة بن مفضل مضعف والحق أن حديث ابن عكيم ظاهر في النسخ لولا الاضطراب المذكور ، فإن من المعلوم أن أحدا لا ينتفع بجلد الميتة قبل الدباغ ; لأنه حينئذ مستقذر فلا يتعلق النهي به ظاهرا كذا في فتح القدير وفيه كلام من وجوه الأول أنه ذكر أن الترمذي حسنه وقد قدمناه أيضا والحسن لا اضطراب فيه الثاني أن قوله مع الاختلاف في صحبة ابن عكيم لا يقدح في حجيته ; لأنه على تقدير كونه ليس صحابيا يكون الحديث مرسلا وأنتم تعملون به الثالث أن قوله الحق أن حديث ابن عكيم ظاهر في النسخ إلخ أخذا من قول الحازمي كما نقله الزيلعي المخرج عنه أنه قال وطريق الإنصاف أن حديث ابن عكيم ظاهر الدلالة في النسخ ولكنه كثير الاضطراب غير مسلم ; لأن أخبارنا مطلقة فيجوز أن يكون بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون المدة المذكورة في حديث ابن عكيم على الاختلاف فيها ، وبهذا صرح النووي في شرح المهذب ويمكن الجواب عن الأول بما ذكره النووي أن الترمذي إنما حسنه بناء على اجتهاده وقد بين هو وغيره وجه ضعفه وعن الثاني بأن هذا أعني كونه مرسلا صالح لأن يجاب به على مذهب من يرى العمل بالمرسل لا أنه جواب عن حديث ابن عكيم على مقتضى مذهبنا

وأما الجواب عن احتجاج مالك ، فهو مخالف للنصوص الصحيحة التي قدمناها ، فإنها عامة في طهارة الظاهر والباطن وأصرح من ذلك ما رواه البخاري من حديث { سودة قالت ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ، وهو جلدها فمازلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا } ، وهو حديث صحيح ، فإنه استعمل في مائع وهم لا يجيزونه ، وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه ; لأن الماء لا يتنجس عندهم إلا بالتغير

وأما الجواب عن احتجاج الشافعي إن قلنا بأن الكلب ليس بنجس العين ، وإن جلده يطهر بالدباغ ، فهو عموم الأحاديث الصحيحة المتقدمة ، فإنه يدخل في عمومها الكلب ; لأن أيا في الحديث نكرة وصفت بصفة عامة فتعم كما عرف في الأصول ، وأما الخنزير فإنما خرج عن العموم لعارض ذكرناه ، ولقد أنصف النووي حيث قال في شرح المهذب واحتج أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها فتركها " لأني التزمت في خطبة الكتاب الإعراض عن الدلائل الواهية " ا هـ

وإن قلنا إن الكلب كالخنزير فلا يحتاج إلى الجواب وقد قدمنا أن الدباغ جائز بكل ما يمنع النتن والفساد ، ولو ترابا أو ملحا وقال الشافعي لا يجوز بالشمس والتراب والملح لما رواه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس في شاة ميمونة قال إنما حرم أكلها أو ليس في الماء والقرظ ما يطهرها ، وهو حديث حسن ذكره النووي في شرح المهذب ورواه أبو داود والنسائي في سننهما بمعناه عن ميمونة قال يطهرها الماء والقرظ ولنا ما تقدم من الأحاديث الصحيحة ، فإن اسم الدباغ يتناول ما يقع بالتشميس والتتريب فلا [ ص: 112 ] يقيد بشيء ; ولأن المقصود يحصل به فلا معنى لاشتراط غيره

وليس الحديث الذي استدل به الشافعي مما يقتضي الاختصاص بل المراد به ما في معناه بالإجماع ولا يختص بما ذكر في الحديث ثم عندنا يجوز بيع الجلد المدبوغ وينتفع به ، وهو قول الشافعي في الجديد وجمهور العلماء ، وأما بيعه قبل الدباغ فقد نقل النووي في شرح المهذب أن أبا حنيفة يقول بجواز بيعه ورهنه كالثوب النجس ، وهو سهو منه ، فإن مذهب أبي حنيفة عدم جواز بيع جلود الميتة قبل الدباغ ذكره في المحيط وشرح الطحاوي وكثير من الكتب وفي بعض الكتب ذكر خلافا قال بعضهم : إنه ملحق بالميتة وبعضهم ألحقه بالخمر فالظاهر منه الاتفاق على عدم الجواز .

واعلم أن ما طهر جلده بالدباغ طهر بالذكاة لحمه وجلده سواء كان مأكولا أو لا أما طهارة جلده ، فهو ظاهر المذهب كما في البدائع وفي النهاية أنه اختيار بعض المشايخ وعند بعضهم إنما يطهر جلده بالذكاة إذا لم يكن سؤره نجسا ا هـ .

وأما طهارة لحمه إذا كان غير مأكول فقد اختلف فيه فصحح في البدائع والهداية والتجنيس طهارته وصحح في الأسرار والكفاية والتبيين نجاسته وفي المعراج أنه قول المحققين من أصحابنا وفي الخلاصة هو المختار واختاره قاضي خان ، وفي التبيين أنه قول أكثر المشايخ ، وأما المصنف فقد اختلف كلامه فصحح في الكافي نجاسته واختار في الكنز في الذبائح طهارته وسنتكلم عليها بدلائلها وبيان ما هو الحق ثمة إن شاء الله تعالى لكن في كثير من الكتب أن الذكاة إنما توجب الطهارة في الجلد واللحم إذا كانت من الأهل في المحل ، وهو ما بين اللبة واللحيين ، وقد سمى بحيث لو كان مأكولا يحل أكله بتلك الذكاة فذبيحة المجوسي لا توجب الطهارة ; لأنها إماتة وقد قدمنا عن معراج الدراية معزيا إلى المجتبى أن ذبيحة المجوسي وتارك التسمية عمدا توجب الطهارة على الأصح ، وإن لم يكن مأكولا ، وكذا نقل صاحب المعراج في هذه المسألة الطهارة عن القنية أيضا هنا وصاحب القنية هو صاحب المجتبى ، وهو الإمام الزاهدي المشهور علمه وفقهه ويدل على أن هذا هو الأصح أن صاحب النهاية ذكر هذا الشرط الذي قدمناه بصيغة قيل معزيا إلى فتاوى قاضي خان وفي منية المصلي السنجاب إذا أخرج من دار الحرب وعلم أنه مدبوغ بودك الميتة لا تجوز الصلاة عليه ما لم يغسل ، وإن علم أنه مدبوغ بشيء طاهر جاز ، وإن لم يغسل ، وإن شك فالأفضل أن يغسل . ا هـ .


[ ص: 109 ] ( قوله : كجلد الشاة المذكاة ) قال الرملي أقول : يعني في الحل وسواء فيها قبل الدباغ وبعده كنحو أكل تراب لا يضر فحل جلد المذكاة قبل الدباغ وبعده حيث كان من مأكول اللحم متفق عليه وحرمته من غير المأكول كذلك والخلاف في جلد الميتة من المأكول بعد الدباغة والصحيح حرمته تأمل [ ص: 110 ] ( قوله : رتب على الحديث الأول عنه ) أي عن ابن زيد .

وقوله الحديث الثاني أي ، وهو قوله فكلمته نائب فاعل رتب ( قوله : وتعقبه شارح متأخر ) أقول : هو الإمام العلامة المحقق محمد بن أمير حاج الحلبي شارح منية المصلي [ ص: 111 - 112 ] ( قوله : واختاره قاضي خان ) قال الرملي : أقول : الذي اختاره قاضي خان في فتاويه من باب البيع الفاسد طهارته فراجعه تجد ما في نقله عنه اللهم إلا أن يكون قد اختاره في كتاب آخر من كتبه فيكون كلامه قد اختلف كما وقع للمصنف في الكنز وفي الكافي تبيين ( قوله : وفي التبيين أنه قول أكثر المشايخ ) قال الرملي أقول : عبارة التبيين على ما في النسخ التي اطلعنا عليها ، وقال كثير من المشايخ : يطهر جلده بها ولا يطهر لحمه كما لا يطهر بالدباغ ، وهو الصحيح وأنت تعلم ما بينهما من المخالفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية