البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : وتنزح البئر بوقوع نجس ) لما ذكر حكم الماء القليل بأنه يتنجس كله عند وقوع النجاسة فيه حتى يراق كله ورد عليه ماء البئر نقضا في أنه لا ينزح كله في بعض الصور ، فذكر أحكامه قال الشارحون : ومنهم المصنف في المستصفى أن المراد بنزح البئر نزح مائها إطلاقا لاسم المحل على الحال كقولهم جرى الميزاب وسال الوادي وأكل القدر والمراد ما حل فيها للمبالغة في إخراج جميع الماء والمراد بالبئر هنا هي التي لم تكن عشرا في عشر أما إذا كانت عشرا في عشر لا تنجس بوقوع نجس إلا بالتغير كما يفيده ما سنذكره والمراد بالنجس هنا هو الذي ليس حيوانا كالدم والبول والخمر ، وأما أحكام الحيوان الواقع فيها فسنذكرها مفصلة وبهذا يظهر ضعف ما في التبيين من أن المصنف أطلق ولم يقدر بشيء ; لأنه لم يعين ما وقع فيها من النجاسة فأي نجس وقع فيها يوجب نزحها ، وإنما ينجس ماء البئر كله بقليل النجاسة ; لأن البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير تفسد بما يفسد به الحوض الصغير إلا أن يكون عشرا في عشر كذا في فتاوى قاضي خان في التفاريق عن أبي حنيفة وأبي يوسف البئر لا تنجس كالماء الجاري البئر إذا لم تكن عريضة ، وكان عمق مائها عشرة أذرع فصاعدا فوقعت النجاسة فيها لا يحكم بنجاستها في أصح الأقاويل ا هـ .

وعزاه في القنية [ ص: 117 ] إلى شرح صدر القضاة

وذكر ابن وهبان أنه مخالف لما أطلقه جمهور الأصحاب كذا في شرح منية المصلي ولا يخفى أن هذا التصحيح لو ثبت لانهدمت مسائل أصحابنا المذكورة في كتبهم وقد عللوا بأن البئر لما وجب إخراج النجاسة منها ولا يمكن إخراجها منها إلا بنزح كل مائها وجب نزحه لتخرج النجاسة معه حقيقية لكن قال في السراج الوهاج ، ولو وقعت في البئر خشبة نجسة أو قطعة من ثوب نجس وتعذر إخراجها وتغيبت فيها طهرت الخشبة والقطعة من الثوب تبعا لطهارة البئر وعزاه إلى الفتاوى وفي المجتبى ومعراج الدراية ونزحه أن يقل حتى لا يمتلئ الدلو منه أو أكثره ا هـ .

أي ونزح ماء البئر لكن هذا إنما يستقيم فيما إذا كانت البئر معينا لا تنزح وأخرج منها المقدار المعروف أما إذا كانت غير معين ، ، فإنه لا بد من إخراجها لوجوب نزح جميع الماء ثم البئر مؤنثة مهموزة ويجوز تخفيف همزها ، وهي مشتقة من بأرت أي حفرت وجمعها في القلة أبؤر وأبآر بهمزة بعد الباء فيهما ، ومن العرب من يقلب الهمزة في أبآر وينقل فيقول آبار وجمعها في الكثرة بآر بكسر الباء بعدها همزة كذا ذكر النووي في شرح مسلم من كتاب الإيمان والإسلام .

واعلم أن مسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس فإن القياس فيها إما أن لا تطهر أصلا كما قال بشر لعدم الإمكان لاختلاط النجاسة بالأوحال والجدران والماء ينبع شيئا فشيئا وإما أن لا تتنجس إسقاطا الحكم لحم النجاسة حيث تعذر الاحتراز أو التطهير كما نقل عن محمد أنه قال اجتمع رأيي ورأي أبي يوسف أن ماء البئر في حكم الجاري ; لأنه ينبع من أسفله ويؤخذ من أعلاه فلا يتنجس كحوض الحمام قلنا وما علينا أن ننزح منها دلاء أخذا بالآثار ومن الطريق أن يكون الإنسان في يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كالأعمى في يد القائد كذا في فتح القدير وغيره من الشروح وفي البدائع بعدما ذكر القياسين قال إلا أنا تركنا القياسين الظاهرين بالخبر والأثر وضرب من الفقه الخفي

أما الخبر فما روى أبو جعفر الأسروشني بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قال في الفأرة تموت في البئر ينزح منها عشرون وفي رواية ثلاثون } وعن أبي سعيد الخدري أنه { قال في دجاجة ماتت في البئر ينزح منها أربعون دلوا } وعن ابن عباس وابن الزبير أنهما أمرا بنزح جميع ماء زمزم حين مات فيها زنجي ، وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليهما أحد فانعقد الإجماع عليه ، وأما الفقه الخفي فهو أن في هذه الأشياء دما مسفوحا وقد تشرب في أجزائها عند الموت فنجسها وقد جاور هذه الأشياء و الماء يتنجس أو يفسد بمجاورة النجس ; لأن الأصل أن ما جاور النجس نجس بالشرع { قال صلى الله عليه وسلم في الفأرة تموت في السمن الجامد يقور ما حولها ويلقى وتؤكل البقية } فقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بنجاسة جار النجس وفي الفأرة ونحوها وما يجاورها من الماء مقدار ما قدره أصحابنا ، وهو عشرون دلوا أو ثلاثون لصغر جثتها فحكم بنجاسة هذا القدر من الماء لأن ما وراء هذا القدر لم يجاور الفأرة بل جاورها ما جاور الفأرة

والشرع ورد بتنجيس جار الخبث لا بتنجيس جار جار النجس ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بطهارة جار السمن الذي جاور الفأرة وحكم بنجاسة ما جاور الفأرة ، وهذا ; لأن جار جار النجس لو حكم بنجاسته لحكم أيضا بنجاسة ما جاور جار النجس ثم هكذا إلى ما لا نهاية له فيؤدي إلى أن قطرة من بول أو فأرة لو وقعت في بحر عظيم أن يتنجس جميع مائه لاتصال بين أجزائه وذلك فاسد وفي الدجاجة والسنور وأشباه ذلك المجاورة أكثر لزيادة ضخامة في جثتها فقدر بنجاسة ذلك القدر والآدمي وما كان جثته مثل جثته كالشاة ونحوها مجاور جميع الماء في العادة لعظم جثته فيوجب تنجيس جميع الماء وكذا إذا تفسخ شيء من هذه الواقعات أو انتفخ ; لأن عند ذلك تخرج البلة منها الرخاوة فيها [ ص: 118 ] فتجاور جميع أجزاء الماء وقبل ذلك لا يجاور إلا قدر ما ذكرنا لصلابة فيها ولهذا قال محمد إذا وقع في البئر ذنب فأرة ينزح جميع الماء ; لأن موضع القطع لا ينفك عن بلة فيجاور أجزاء الماء فيفسدها . ا هـ .

وهذا تقرير حسن لو لم يكن مخالفا لعامة كتب أصحابنا ، فإنها مصرحة بأن مسائل الآبار ليس للرأي فيها مدخل وما ذكره خلافه كذا تعقبه شارح المنية والذي ظهر لي أن ما ذكره في البدائع لا يخالف ما صرحوا به ; لأنه ذكر أن هذا معنى خفي فقهي لا قياس جلي ولا يكون من قبيل الرأي إلا القياس الجلي

وأما القياس الخفي فهو المسمى بالاستحسان قال في التوضيح القياس جلي وخفي فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي ، فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان قياسا خفيا ; لأن الاستحسان قد يطلق على غير القياس الخفي أيضا لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا ذكر الاستحسان أريد به القياس الخفي ، وهو دليل يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام ، وهو حجة عندنا ; لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ; لأنه إما بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار ، وإما بالقياس الخفي إلى آخر ما ذكر في أصول الفقه ، وكذا في كثير من كتب الأصول فظهر بهذا أن طهارة الآبار بالنزح إنما ثبتت بالقياس الخفي الذي ثبت بالضرورة .


[ ص: 117 ] ( قوله : لكن هذا إنما يستقيم فيما إذا كانت البئر معينا ) اسم الإشارة يعود إلى عدم إخراج ما وقع المفهوم من مضمون كلام السراج والمجتبى وأقول : فيه نظر ; لأنه قد يتعذر الإخراج ، وإن كان الواجب نزح الجميع ; لأن الواجب الإخراج قبل النزح لا بعده كما سيصرح به في الفروع ( قوله : ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بطهارة جار السمن إلخ ) أقول : يرد عليه ما لو كان السمن مائعا فقد قال عليه السلام { ، وإن كان مائعا فلا تقربوه } والماء من هذا القبيل لا من قبيل الجامد تأمل .

[ ص: 118 ] ( قوله : وهو حجة عندنا ) قال في التوضيح : ضمير وهو راجع إلى الاستحسان انتهى وعلى هذا فالثابت بالضرورة هو الاستحسان لا القياس الخفي كما حمله المؤلف في آخر عبارته إذ القياس الخفي هو مما ثبت به الاستحسان ثم لا يخفى أنه ليس فيما نقله من كلام التوضيح ما يدل على ما ادعاه من أنه لا يكون من قبيل الرأي إلا القياس الجلي إذ الظاهر أن الخفي مثله ; لأنهم قسموا القياس الذي هو الأصل الرابع المقابل للأصول الثلاثة إلى جلي وخفي تأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية