البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله وإن استأذنها الولي فسكتت أو ضحكت أو زوجها فبلغها الخبر فسكتت فهو إذن ) لقوله عليه الصلاة والسلام { البكر تستأمر في نفسها فإن سكتت فقد رضيت } ولأن حيثية الرضا فيه راجحة ; لأنها تستحي عن إظهار الرغبة لا عن الرد والضحك أدل على الرضا من السكوت . والأصل أن سكوت البكر للاستئمار وكالة وللعقد إجازة كما ذكره الإسبيجابي فالإذن في عبارة المختصر مشترك بين الوكالة والإجازة ففي المسألة الأولى توكيل وفي الثانية إجازة ويتفرع على كونه توكيلا أن الولي لو استأذنها في رجل معين ، فقالت يصلح أو سكتت ثم لما خرج قالت لا أرضى ولم يعلم الولي بعدم رضاها فزوجها فهو صحيح كما في الظهيرية ; لأن الوكيل لا ينعزل حتى يعلم وليس السكوت إذنا حقيقيا لما في الخانية من الأيمان إذا حلفت أن لا تأذن في تزويجها فسكتت عند الاستئمار لا تحنث ا هـ .

والمراد بالولي من له ولاية استحباب ; لأن الكلام في البالغة العاقلة فيفيد أنه ليس لها ولي أقرب منه ; لأنه حينئذ له الولاية المذكورة فلو استأذنها من غيره أقرب منه فلا يكون سكوتها إذنا ولا بد من النطق ; لأن الأبعد مع الأقرب كالأجنبي كما ذكره الإسبيجابي ولهذه النكتة عبر بالولي دون القريب ودخل تحت الولي القاضي ; لأن له ولاية الاستحباب في نكاحها ولذا قال في الخانية والقاضي عند الأولياء بمنزلة الولي في ذلك . ا هـ .

فيكفي سكوتها ودخل أيضا المولى في نكاح المعتقة إذا كانت بكرا بالغة كما في القنية ولو زوجها وليان متساويان كل واحد منهما من رجل فأجازتهما معا بطلا لعدم الأولوية وإن سكتت بقيا موقوفين حتى تجيز أحدهما بالقول أو بالفعل وهو ظاهر الجواب كما في البدائع وحكم رسول الولي كالولي ; لأنه قائم مقامه فيكفي سكوتها واختاره أكثر المتأخرين كما في الذخيرة والمراد بالسكوت ما كان [ ص: 120 ] عن اختيار لما في الخانية لو أخذها العطاس أو السعال حين أخبرت فلما ذهب العطاس أو السعال قالت لا أرضى صح ردها ، وكذا لو أخذ فمها ثم ترك ، فقالت لا أرضى ; لأن ذلك السكوت كان عن اضطرار ، وأطلقه فشمل ما إذا كانت عالمة بحكمه أو جاهلة وشمل ما إذا استأذنها لنفسه لما في الجوامع لو استأذن بنت عمه لنفسه وهي بكر بالغة فسكتت فزوجها من نفسه جاز ; لأنه صار وكيلا بسكوتها ا هـ .

وقيد بالسكوت ; لأنها لو ردته ارتد وقولها لا أريد الزوج أو لا أريد فلانا سواء في أنه رد سواء كان قبل التزويج أو بعده وهو المختار كما في الذخيرة ولو قالت بعد الاستئمار : غيره أولى منه فليس بإذن وهو إجازة بعد العقد ، كما فيها أيضا . وفرقوا بينهما بأنه يحتمل الإذن وعدمه فقبل النكاح لم يكن النكاح فلا يجوز بالشك وبعد النكاح كان فلا يبطل بالشك كذا في الظهيرية وهو مشكل ; لأنه لا يكون نكاحا إلا بعد الصحة وهو بعد الإذن فالظاهر أنه ليس بإذن ، فيهما وقولها " ذلك إليك " إذن مطلقا بخلاف قولها أنت أعلم أو أنت بالمصلحة أخبر وبالأحسن أعلم كما في فتح القدير وأراد بالسكوت السكوت عن الرد لا مطلق السكوت ; لأنه لو بلغها الخبر فتكلمت بكلام أجنبي فهو سكوت هنا فيكون إجازة فلو قالت الحمد لله اخترت نفسي أو قالت هو دباغ لا أريده فهذا كلام واحد فكان ردا ، كذا في الظهيرية

وأطلق في الضحك فشمل التبسم وهو الصحيح كما في فتح القدير ولا يرد عليه ما إذا ضحكت مستهزئة فإنه لا يكون إذنا وعليه الفتوى وضحك الاستهزاء لا يخفى على من يحضره ; لأن الضحك إنما جعل إذنا لدلالته على الرضا فإذا لم يدل على الرضا لم يكن إذنا ، وأطلق في الاستئذان فانصرف إلى الكامل وهو بأن يسمي لها الزوج على وجه يقع لها به المعرفة ويسمي لها المهر ، أما الأول فلا بد منه لتظهر رغبتها فيه من رغبتها عنه فلو قال أزوجك من رجل فسكتت لا يكون إذنا فلو سمى فلانا أو فلانا فسكتت فله أن يزوجها من أيهما شاء ، وكذا لو سمى جماعة مجملا فإن كانوا يحصون فهو رضا نحو من جيراني أو بني عمي وهم كذلك وإن كانوا لا يحصون نحو من بني تميم فليس برضا كما في المحيط ، وهذا كله إذا لم تفوض الأمر إليه أما إذا قالت أنا راضية بما تفعله أنت بعد قوله وإن أقواما يخطبونك أو زوجني ممن تختاره ونحوه فهو استئذان صحيح كما في الظهيرية وليس له بهذا المقالة أن يزوجها من رجل ردت نكاحه أولا ; لأن المراد بهذا العموم غيره كالتوكيل بتزويج امرأة ليس للوكيل أن يزوجه مطلقته إذا كان الزوج قد شكا منها للوكيل وأعلمه بطلاقها كما في الظهيرية .

وأما الثاني ففيه ثلاثة أقوال مصححة : قيل لا يشترط ذكر المهر في الاستئذان ; لأن للنكاح صحة بدونه وصححه في الهداية ، وقيل يشترط ذكره ; لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق في القلة والكثرة وهو قول المتأخرين من مشايخنا كما في الذخيرة وفي فتح القدير أنه الأوجه وتفرع عليه أنه لو لم يذكر المهر لها قالوا إن وهبها من رجل نفذ نكاحه ; لأنها رضيت بنكاح لا تسمية فيه والنكاح بلفظ الهبة يوجب مهر المثل وإن زوجها بمهر مسمى لا ينعقد نكاح الولي ; لأنها ما رضيت بتسمية الولي فلا ينعقد نكاح الولي إلا بإجازة مستقلة كذا في الخانية وغيرها ، وهو مشكل ; لأن مقتضى الاشتراط أن لا يصح الاستئذان إذا لم يذكره فلم يصح [ ص: 121 ] ( قولهم إنها رضيت بنكاح لا تسمية فيه فسكوتها إنما هو لعلمها بعدم صحة الاستئذان ، وقيل إن كان المزوج أبا أو جدا لا يشترط ذكر المهر عند الاستئذان وإن كان غيرهما يشترط وصححه في الكافي والمعراج وكأنه سهو وقع من قائله ; لأن التفرقة بين الأب والجد وبين غيرهما إنما هو في تزويج الصغيرة بحكم الجبر والكلام إنما هو في الكبيرة التي وجب مشاورتها والأب في ذلك كالأجنبي لا يفعل شيئا إلا برضاها فقد اختلف الترجيح فيها والمذهب الأول كما في الذخيرة أن إشارة كتب محمد تدل عليه ولم يذكر المصنف البكاء للاختلاف فيه

والصحيح المختار للفتوى أنها إن بكت بلا صوت فهو إذن ; لأنه حزن على مقاومة أهلها وإن كان بصوت فليس بإذن ; لأنه دليل السخط والكراهة غالبا لكن في المعراج البكاء وإن كان دليل السخط لكنه ليس برد حتى لو رضيت بعده ينفذ العقد ولو قالت لا أرضى ثم رضيت بعده لا يصح النكاح ا هـ .

وبهذا تبين أن قول الوقاية والبكاء بلا صوت إذن ومعه رد ليس بصحيح إلا أن يؤول أن معناه ومعه ليس بإذن ; لأنه دليل السخط وفي فتح القدير والمعول عليه اعتبار قرائن الأحوال في البكاء والضحك فإن تعارضت أو أشكل احتيط ا هـ .

وقدم المصنف مسألة الاستئذان قبل العقد ; لأنه السنة قال في المحيط والسنة أن يستأمر البكر وليها قبل النكاح بأن يقول إن فلانا يخطبك أو يذكرك فسكتت وإن زوجها بغير استئمار فقد أخطأ السنة وتوقف على رضاها . ا هـ .

وهو محمل النهي في حديث مسلم { لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا : يا رسول الله ، وكيف إذنها ؟ قال أن تسكت } فهو لبيان السنة للاتفاق على أنها لو صرحت بالرضا بعد العقد نطقا فإنه يجوز وأراد ببلوغها الخبر : علمها بالنكاح فدخل فيه ما لو زوجها الولي وهي حاضرة فسكتت فإنه إجازة على الصحيح وعلمها به يكون بإخبار وليها أو رسوله مطلقا أو فضولي عدل أو اثنين مستورين عند أبي حنيفة ولا يكفي إخبار واحد غير عدل ولها نظائر ستأتي في كتاب القضاء من مسائل شتى .


( قوله جاز ; لأنه صار وكيلا بسكوتها ) أما لو زوجها لنفسه فبلغها الخبر فسكتت فإنه لا يجوز كما سيأتي بعد ورقة . ( قوله كما فيها أيضا ) الضمير راجع إلى الذخيرة ثم إن ذكر قوله وفرقوا بينهما إلى قوله كذا في الظهيرية عقب قوله كما فيها أيضا ثم إعقابه بقوله وهو مشكل إلخ كما في هذه النسخة أحسن مما في عامة النسخ حيث ذكر فيها بعد قوله كما فيها أيضا وأراد بالسكوت إلى قوله كذا في الظهيرية ثم قوله وقولها ذلك إليك إلى قوله كما في فتح القدير ثم قوله وفرقوا بينهما ثم قوله وهو مشكل . ( قوله وقولها ذلك إليك إذن ) ; لأنه إنما يذكر للتوكيل بخلاف ما بعده ; لأنه قد يذكر للتعريض بعدم المصلحة فيه كذا في الفتح . ( قوله وهو مشكل ; لأنه لا يكون نكاحا إلخ ) أصل الإشكال لصاحب الفتح ، وقد أجاب عنه في الرمز بقوله : ويجاب بأن العقد إذا وقع وورد بعده ما يحتمل كونه تقريرا له وكونه ردا ترجح بوقوعه احتمال التقرير وإذا ورد قبله ما يحتمل الإذن وعدمه ترجح الرد لعدم وقوعه فيمنع من إيقاعه لعدم تحقق الإذن فيه .

( قوله قالوا إن وهبها من رجل ) قال في الفتح يعني فوضها ا هـ وعزا المسألة إلى التجنيس معللة بأنه إذا وهبها فتمام العقد بالزوج والمرأة عالمة به وإذا سمى مهرا فتمامه به أيضا ، ثم قال وهو فرع اشتراط التسمية في كون السكوت الرضا ويجب كون الجواب في المسألة الأولى مقيدا بما إذا علمت بالتفويض تفريعا على القول الآخر قال في النهر وبه اندفع إشكال البحر . ( قوله وهو مشكل ; لأن مقتضى الاشتراط إلخ ) قال في الرمز والجواب أن الذي رضيت به لم يوجد وما وجد إن لم ترض به أو لا فإجازتها كافية في نفاذه [ ص: 121 ] ( قوله ليس بصحيح ) فيه نظر فإن كلام المعراج ليس بأقوى من كلام الوقاية فإنها من المتون المعتبرة ومثلها في النقاية والملتقى والإصلاح على أنه في المعراج نقل أيضا عن المبسوط ما نصه : وفي المبسوط قال بعض المتأخرين هذا إذا كان لبكائها صوت كالويل ، وأما إذا خرج الدمع من غير صوت لا يكون ردا ; لأنها تحزن على مفارقة بيت أبويها وعليه الفتوى ، وإنما يكون ذلك عند الإجازة ا هـ .

فقوله هذا إذا كان لبكائها صوت أي كونه ردا بدليل مقابله ويدل عليه أن أصل الخلاف في أن البكاء رد أو لا لقول قاضي خان في شرح الجامع الصغير : وإن بكت كان ردا في إحدى الروايتين عن أبي يوسف وعنه في رواية يكون رضا قالوا إن كان البكاء عن صوت وويل لا يكون رضا وإن كان عن سكوت فهو رضا ا هـ .

فقوله قالوا إلخ توفيق بين الروايتين فعلم أن من قال لا يكون رضا معناه يكون ردا والله أعلم وفي الاختيار ولو بكت فيه روايتان والمختار إن كان بغير صوت فهو رضا وفي الذخيرة بعد حكاية الروايتين وبعضهم قالوا إن كان البكاء مع الصياح والصوت فهو رد وإن كان مع السكوت فهو رضا وهو الأوجه وعليه الفتوى . ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية