البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( باب تفويض الطلاق ) .

لما فرغ من بيان ما يوقعه الزوج بنفسه صريحا وكناية شرع فيما يوقعه غيره بإذنه وهو ثلاثة أنواع تفويض وتوكيل ورسالة ، والتفويض إليها يكون بلفظ التخيير ، والأمر باليد ، والمشيئة وقدم الأول لثبوته بصريح الدليل ( قوله : ولو قال لها اختاري ينوي الطلاق فاختارت في مجلسها بانت بواحدة ) لأن المخيرة لها خيار المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماعا سكوتيا عند تصريح بعضهم وما نقل من خلاف علي رضي الله عنه لم يثبت وتمسك ابن المنذر لمن لم يشترطه بقوله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها { لا تعجلي حتى تستأمري أبويك } ضعيف لأن هذا التخيير لم يكن للتنازع فيه وهو أن توقع بنفسها بل على أنها إن اختارت نفسها طلقها بدليل قوله تعالى { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } وأجاب في المعراج بأنه عليه السلام جعل لها الخيار إلى غاية استشارة أبويها لا مطلقا وكلامنا في المطلق ا هـ .

ولأنه تمليك الفعل منها لكونها عاملة لنفسها وهو يقتصر عليه وأورد على أنه تمليك منها أنه كيف يعتبر تمليكا مع بقاء ملكه ، والشيء الواحد يستحيل أن يكون كله مملوكا لشخصين ، وأجاب في الكافي بأنه تمليك الإيقاع لا تمليك العين فقبل الإيقاع بقي ملكه ا هـ .

وأورد على كونها عاملة لنفسها لو وكله بإبراء نفسه كان وكيلا بدليل صحة رجوعه قبل الإبراء مع أن المديون عامل لنفسه وسيأتي جوابه وما فيه في فصل المشيئة وقول الزيلعي في الوكالة عند قوله وبطل توكيل الكفيل بمال أنه مالك وليس بوكيل يقتضي أن لا يصح الرجوع عنه ليس بصحيح فقد صرح في العناية وغيرها أنه لا يتقيد بالمجلس ويصح الرجوع عنه ، وفي العناية أن التمليك هو الإقدار الشرعي على محل التصرف ، والتوكيل الإقدار على التصرف فاندفعت هذه الشبهة ا هـ .

وفيه نظر لأن التمليك الإقدار الشرعي على نفس التصرف ابتداء ، والتوكيل الإقدار الشرعي على نفس التصرف لا ابتداء كما أشار إليه في فتح القدير في أول كتاب البيع وهو الحق لأنه لا معنى للإقرار على المحل إلا باعتبار التصرف فيه ، وفي المعراج لا يلزم من التمليك عدم صحة الرجوع لانتقاضه بالهبة فإنها تمليك ويصح الرجوع لكنه تمليك يخالف سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس إذا كانت غائبة ولا يتوقف على القبول لكونها تطلق نفسها بعد التفويض وهو بعد تمام التمليك قيد بالنية لأنه من الكنايات ودلالة الحال قائمة مقامها قضاء لا ديانة ، والدلالة مذاكرة الطلاق أو الغضب وقدمنا أنه مما تمحض للجواب ، والقول قوله مع اليمين في عدم النية أو الدلالة وتقبل بينتها على إثبات الغضب أو المذاكرة لا على النية إلا إذا قامت على إقراره بها كما ذكره الولوالجي .

وإذا لم يصدق [ ص: 336 ] قضاء لا يسعها الإقامة معه إلا بنكاح مستقبل لأنها كالقاضي وإنما ترك ذكر الدلالة هنا للعلم مما قدمه أول الكنايات وأراد بنية الطلاق نية تفويضه وقيد بالمجلس لأنها لو قامت عنه أو أخذت في عمل آخر بطل خيارها كما سنذكره وأفاد بذكر مجلسها أنه لا اعتبار بمجلسه فلو خيرها ثم قام هو لم يبطل بخلاف قيامها كذا في البدائع وأشار باقتصاره على التخيير إلى أنه لو زاد متى شئت فإنه لا يتقيد بالمجلس فهو لها فيه وبعده وبخطابها إلى أنه لو خيرها وهي غائبة اعتبر مجلس علمها ، ولو قال : جعلت لها أن تطلق نفسها اليوم اعتبر مجلس علمها في هذا اليوم فلو مضى اليوم ثم علمت خرج الأمر من يدها وكذا كل وقت قيد التفويض به وهي غائبة ولم تعلم حتى انقضى بطل خيارها ، ولو قال الزوج علمت في مجلس القول وأنكرت المرأة فالقول لها لأنها منكرة كذا في المحيط ، ولو قال لها : اختاري رأس الشهر فلها الخيار في الليلة الأولى ، واليوم الأول من الشهر ، ولو قال : اختاري إذا قدم فلان وإذا أهل الهلال فلها الخيار ساعة يقدم أو أهل الهلال في المجلس ، ولو قال : اختاري اليوم واختاري غدا فهما خياران ، ولو قال في اليوم وغد فهو خيار واحد كذا في المحيط أيضا .

وأشار بعدم ذكر قبولها إلى أنه تمليك يتم بالمملك وحده فلو رجع قبل انقضاء المجلس لم يصح وما علل به في الذخيرة من كونه بمعنى اليمين إذ هو تعليق الطلاق بتطليقها نفسها فخلاف التحقيق لأنه اعتبار ممكن في سائر الوكالات لتضمنه معنى إذا بعته فقد أجزأته فكان يقتضي أن لا يصح الرجوع عنها مع أنه صحيح كذا في فتح القدير ، وفيه نظر لأن هذا الاعتبار لا يمكن في الوكالة لأنه لا يصح تعليق الإجازة بالشرط كما في الكنز وغيره بخلاف الطلاق فكان سهوا ، والحق ما في الذخيرة ، وفي جامع الفصولين أنه تمليك فيه معنى التعليق فلكونه تمليكا تقيد بالمجلس ولكونه تعليقا بقي إلى ما وراء المجلس ولم يصح الرجوع عنه عملا بشبهيه ، وفي جامع الفصولين تفويض الطلاق إليها قيل هو وكالة يملك عزلها وإلا صح أنه لا يملكه ا هـ .

وإنما وقع البائن به لأنه ينبئ عن الاستخلاص ، والصفا من ذلك الملك وهو بالبينونة وإلا لم تحصل فائدة التخيير إذ كان له أن يراجعها شاءت أو أبت وقيد باقتصاره على التخيير المطلق لأنه لو قال لها : اختاري الطلاق فقالت اخترت الطلاق فهي واحدة رجعية لأنه لما صرح بالطلاق فقد خيرها بين نفسها بتطليقة واحدة رجعية وبين ترك التطليقة وكذا في قوله : أمرك بيدك كذا في البدائع وهو مستفاد من قول المصنف آخر الباب اختاري تطليقة أو أمرك بيدك في تطليقة ، والمراد بقوله فاختارت اختيارها نفسها فلو اختارت زوجها لم يقع وخرج الأمر من يدها ، ولو قالت اخترت نفسي لا بل زوجي يقع ، ولو قالت زوجي لا بل نفسي لا يقع وخرج الأمر من يدها ولو عطفت بأو فقالت اخترت نفسي أو زوجي لا يقع ، ولو كان بالواو فالاعتبار للمقدم ويلغو ما بعده .

ولو خيرها ثم جعل لها شيئا لتختاره فاختارته لم يقع ولا يجب المال لأنه رشوة كذا في فتح القدير ، وفي تلخيص الجامع من باب إجازة الطلاق لو قالت طلقت نفسي فأجاز طلقت اعتبارا بالإنشاء كذا أبنت إذا نويا ، ولو ثلاثا بخلاف الأول كذا حرمت وبدون النية إيلاء لأنه يمين ، وفي اخترت لا يقع إذ لا وضع أصلا [ ص: 337 ] ولا عرف إلا جوابا كذا جعلت الخيار إلي أو أمري بيدي فطلقت لأن الفاء للتفسير فاعتبر المفسر ولغا لفقد التمليك سابقا بخلاف الواو لأنه للابتداء فتقع رجعية وتتخير إذ يوقف ماله إنشاؤه وهو التخيير دون الاختيار ولم يستند لأنه سبب عند الإجازة للتعليق بها فاعتبر المجلس بعدها ولم يقيد بوجود الشرط قبلها في تعليق الفضولي بخلاف البيع لأنه لا يقبل التعليق فاعتبر سببا حال العقد كذا جعلت أمس أمري بيدي ، وفي قلت أمس أمري بيدي اليوم لا خيار لها لأن الوقت ثم للجعل ، والمجلس بعد الإجازة وهناك للأمر فانتهى بمضيه . ا هـ .


( باب تفويض الطلاق ) .

( قوله : وقدمنا أنه مما تمحض للجواب ) الضمير عائد على قوله اختاري [ ص: 336 ] ( قوله : لأنه لا يصح تعليق الإجازة . . . إلخ ) قال في النهر أقول : فرق ما بين الضمني ، والقصدي ، وقد أجازوا القضاء على الغائب ضمنا ومنعوه قصدا ( قوله : ولو قالت اخترت نفسي لا بل زوجي يقع ) قال في النهر وما في الاختيار من أنه لا يقع لأنه للإضراب عن الأول سهو ا هـ .

وسينبه عليه المؤلف في آخر هذا الباب ( قوله : بخلاف الأول ) أي قولها طلقت لأنه صريح فلم تشترط فيه النية ولم تصح فيه نية الثلاث وكذا لو قالت : حرمت عليك نفسي فقال الزوج أجزت كان كما في أبنت لكونه من الكنايات لكن هنا بدون نية الزوج يكون إيلاء ، والفرق أن أجزت هنا بمنزلة حرمت وتحريم الحلال يمين بالنص ، ولو قالت : اخترت نفسي منك فقال الزوج أجزت ونوى الطلاق لا يقع شيء لأن قولها اخترت لم يوضع للطلاق لا صريحا ولا كناية ولا عرف إيقاع الطلاق به إلا إذا وقع جوابا لتخيير الزوج وكذا لو قالت قد جعلت الخيار إلي أو قد جعلت أمري بيدي فطلقت نفسي فقال الزوج أجزت من حيث إنه لا يقع شيء لكن يصير الخيار ، والأمر بيدها إذا نوى الزوج الطلاق وإنما لم يقع الطلاق بقولها فطلقت نفسي إذا أجاز الزوج لأن الفاء للتفسير ، والطلاق يصلح تفسيرا للتفويض ، والعبرة في التفسير للمفسر بالفتح وهو الأمر فكانت مطلقة قبل صيرورة الأمر بيدها فيلغوا لفقد التمليك سابقا على التطليق بخلاف الواو لأنها للابتداء لا للتفسير فكانت آتية بأمرين يملك الزوج إنشاءهما وهما التفويض ، والطلاق فإذا قال : أجزت جاز الأمران فتطلق رجعية وتتخير في إيقاع أخرى بحكم التفويض الذي أجازه بخلاف ما مر من قولها اخترت إذا أجازه الزوج حيث [ ص: 337 ] لا يفيد شيئا ولم يتوقف على إجازة الزوج لأنه إنما يتوقف عليها ما يكون له إنشاؤه وهو التخيير كما في مسألتنا دون ما ليس له إنشاؤه كالاختيار .

وقوله : ولم يستند . . . إلخ جواب عما يقال لما قالت فطلقت بالفاء ، وقال الزوج أجزت صار الأمر بيدها مستند إلى وقت الجعل فتبين أنها طلقت بعدما صار الأمر بيدها فوجب أن تطلق .

والجواب أن الجعل لم يستند بالإجازة لعدم قبوله ذلك لأنه عبارة عن مالكية التصرف ، والتصرف في الماضي محال فكذا مالكيته فكان قولها سببا لمالكيتها أمرها عند الإجازة لا قبلها لأنه تصرف فضولي فيتوقف على الإجازة مطلقا وينفذ عندها لتعلق النفاذ بها ولهذا اعتبر تبدل المجلس في حق خروج الأمر من يدها بعد وجود الإجازة لا قبلها حتى لو قامت بعد الجعل قبل إجازة الزوج لا يبطل وكذا لا يعتد بوجود شرط الطلاق قبل الإجازة في تعليق الفضولي طلاق امرأة بدخول الدار فدخلت ثم أجاز لأن اليمين انعقدت عند الإجازة لا قبلها ولا بد للطلاق المعلق من وجود شرط مستأنف بعد الإجازة وهذا بخلاف البيع لأنه لما لم يقبل التعليق اعتبر سببا حال صدور عقد الفضولي حتى لو أجاز المالك البيع يثبت الملك للمشتري من وقت العقد فيستحق به الزوائد المتصلة ، والمنفصلة .

وقوله : كذا . . . إلخ أي وكذا لو قالت المرأة : جعلت أمس أمري بيدي فقال الزوج أجزت لا يقع ، وإن زادت واخترت نفسي لكن يكون لها الخيار إذ نوى الطلاق ، ولو قالت له قلت أمس أمري بيدي اليوم كله فقال أجزت لا يقع شيء ولا خيار لها ، والفرق أن ذكر الوقت وهو أمس في الأولى لبيان وقت الجعل لا لتوقيت جعل الأمر بيدها فبقي الجعل مطلقا فكان موقوفا على الإجازة فكان اعتبار المجلس بعد الإجازة فلا يبطل بقيامها قبله أما هنا الوقت لتوقيت الأمر باليد فينتهي بمضي وقته لأن قولها قلت أمس . إلخ بمنزلة قوله : أمرك بيدك اليوم كله فلم يكن الأمر باليد موجودا وقت الإجازة بصفة التوقف فلغت الإجازة لفقده كذا في شرح الفارسي ملخصا .

التالي السابق


الخدمات العلمية