البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : ويطلبه غلوة إن ظن قربه ، وإلا لا ) أي يجب على المسافر طلب الماء قدر غلوة إن ظن قربه ، وإن لم يظن قربه لا يجب عليه وحد القرب ما دون الميل قيدنا به ; لأن الميل وما فوقه بعيد لا يوجب الطلب وقيدنا بالمسافر ; لأن طلب الماء في العمرانات واجب اتفاقا مطلقا وكذا لو كان بقرب منها وقد اختلفوا في مقدار الطلب فاختار المصنف هنا قدر غلوة ، وهي مقدار رمية سهم كما في التبيين أو ثلثمائة ذراع كما في الذخيرة والمغرب إلى أربعمائة واختار في المستصفى أنه يطلب مقدار ما يسمع صوت أصحابه ويسمع صوته ، وهو الموافق لما قال أبو يوسف سألت أبا حنيفة عن المسافر لا يجد الماء أيطلب عن يمين الطريق أو عن يساره قال إن طمع فيه فليفعل ولا يبعد فيضر بأصحابه إن انتظروه وبنفسه إن انقطع عنهم ويوافقه ما صححه في البدائع فقال : والأصح أنه يطلب قدر ما لا يضر بنفسه ورفقته بالانتظار ، فكان هو المعتمد وعلى اعتبار الغلوة فالطلب أن ينظر يمينه وشماله وأمامه ووراء غلوة كذا في الحقائق وظاهره أنه لا يلزمه المشي بل يكفيه النظر في هذه الجهات ، وهو في مكانه ، وهذا إذا كان حواليه لا يستتر عنه ، فإن كان بقربه جبل صغير ونحوه صعده ونظر حواليه إن لم يخف ضررا على نفسه أو ماله الذي معه أو المخلف في رحله

فإن خاف لم يلزمه الصعود والمشي كذا في التوشيح ولو بعث من يطلب له كفاه عن الطلب بنفسه ، وكذا لو أخبره من غير أن يرسله كذا في منية المصلي ولو تيمم من غير طلب ، وكان الطلب واجبا وصلى ثم طلبه فلم يجده وجبت عليه الإعادة عندهما خلافا لأبي يوسف كذا في السراج الوهاج وفي المستصفى وفي إيراد هذه المسألة عقيب المسألة المتقدمة لطيفة ، فإن الاختلاف في تلك المسألة بناء على اشتراط الطلب وعدمه ا هـ .

وعند الشافعي يجب الطلب مطلقا لقوله تعالى { فلم تجدوا ماء } ; لأن الوجود يقتضي سابقة الطلب ، وهي دعوى لا دليل عليها لقوله تعالى { أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم } ولا طلب وقوله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } وقوله { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } وقوله { ووجدوا ما عملوا حاضرا } ولم يطلبوا خطاياهم وقوله تعالى { وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } وقوله { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض } ولقوله عليه السلام { من وجد لقطة فليعرفها } ولا طلب من الواجد ولقوله من وجد زادا وراحلة ويقال فلان وجد ماله ، وإن لم يطلبه ووجد مرضا في نفسه ولم يطلبه فقد ثبت أن الوجود يتحقق من غير طلب والله تعالى جعل شرط الجواز عدم الوجود من غير طلب فمن زاد شرط الطلب فقد زاد على النص ، وهو لا يجوز بخلاف العمرانات ; لأن العدم ، وإن ثبت حقيقة لم يثبت ظاهرا ; لأن كون الماء في العمرانات دليل ظاهر على وجود الماء ; لأن قيام العمارة بالماء فكان العدم ثابتا من وجه دون وجه

وشرط الجواز العدم المطلق ولا يثبت ذلك في العمرانات إلا بعد الطلب وبخلاف ما إذا غلب على ظنه قربه ; لأن غلبة الظن تعمل عمل اليقين في حق وجوب العمل ، وإن لم تعمل في حق الاعتقاد كما في التحري في القبلة وكما في دفع الزكاة [ ص: 170 ] لمن غلب على ظنه فقره وكما إذا غلب على ظنه نجاسة الماء أو طهارته ، وأما إذا لم يغلب على ظنه قربه فلا يجب بل يستحب إذا كان على طمع من وجود الماء كذا في البدائع وظاهره أنه إذا لم يطمع لا يستحب له الطلب وعلل له في المبسوط بأنه لا فائدة فيه إذا لم يكن على رجاء منه وبما تقرر علم أن المراد بالظن غالبه ، والفرق بينهما على ما حققه اللامشي في أصوله أن أحد الطرفين إذا قوي وترجح على الآخر ، ولم يأخذ القلب ما ترجح به ، ولم يطرح الآخر فهو الظن ، وإذا عقد القلب على أحدهما وترك الآخر فهو أكبر الظن وغالب الرأي ا هـ .

وغلبة الظن هنا أما بأن وجد إمارة ظاهرة أو أخبره مخبر كذا أطلقه في الوشيح وقيده في البدائع بالعدل


[ ص: 169 ] ( قوله : أي يجب على المسافر طلب الماء ) يعني يفترض كما في الشرنبلالية مستدلا بقول قاضي خان يشترط ( قوله : وظاهره أنه لا يلزمه المشي ) قال في النهر أقول : معنى ما في الحقائق أنه يقسم المشي مقدار الغلوة على هذه الجهات فيمشي على أنها أربعمائة ذراع من كل جانب مائة ذراع إذ الطلب لا يتم بمجرد النظر ويدل على ذلك ما مر عن الإمام ، وما في منية المصلي لو بعث من يطلب له كفاه عن الطلب بنفسه وكذا لو أخبره مكلف عدل من غير إرسال إذ على ما فهمه لا يحتاج إلى البعث أصلا ا هـ .

واعلم أن ما نقله هنا عن الحقائق هو مذهب الشافعي رحمه الله وذلك ; لأنه قال في الشافي عند قول النسفي ولا لفرضين وقبل الوقت ولا بغير طلب وفوت ما نصه المسألة الثالثة لا يجوز لعادم الماء أن يتيمم إلا بعد الطلب عند توهم وجود الماء حواليه ولا يصح الطلب إلا بعد دخول الوقت والطلب أن ينظر يمينه وشماله وأمامه ووراءه غلوة وعندنا لا يجب الطلب وعند تحقق عدم الماء حواليه يتيمم من غير طلب إجماعا ا هـ كلامه .

وكان المؤلف حمل كلامه على أن ذلك التفسير للطلب ليس خاصا بقول الشافعي هذا وفي شرح المنية الصغير فيطل يمينا ويسارا قدر غلوة من كل جانب ، وهي ثلثمائة خطوة إلى أربعمائة وقيل قدر رمية سهم ا هـ .

وظاهره أن الطلب غلوة من جانبي اليمين واليسار ; ولذا قال في الشرح الكبير ولا يلزمه أن يطلبه مقدار ميل من كل جانب للزوم الضرر ا هـ .

ويؤيده ما مر من سؤال أبي يوسف لأبي حنيفة وجوابه له وكذا نقل بعضهم عن البرجندي وخزانة المفتين أنه يجب [ ص: 170 ] في جانب اليمين واليسار وكذا في الشرنبلالية عن قاضي خان لكن فيها عن البرهان أن قدر الطلب بغلوة من جانب ظنه ا هـ .

والظاهر حمل عباراتهم على هذا توفيقا بينهم فتأمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية