البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : كإذا مت فأنت حر وأنت حر يوم أموت ، أو عن دبر مني ، أو دبرتك ) بيان لبعض ألفاظه الصريحة فإنه إثبات العتق عن دبر ، واليوم هنا لمطلق الوقت فيعتق مات المولى ليلا ، أو نهارا لأنه قرن بفعل لا يمتد فإن نوى باليوم النهار دون الليل صحت نيته ; لأنه نوى حقيقة كلامه ، ثم لا يكون مدبرا ; لأنه علق عتقه بما ليس بكائن لا محالة وهو موته بالنهار وربما يموت بالليل فلذا لا يكون مدبرا كذا في المبسوط أي لا يكون مدبرا مطلقا ، وإنما هو مقيد فيعتق بموته نهارا وله بيعه ومثل التعليق بإذا " متى " ، و " إن " والحدث كالموت فلو قال إن حدث بي حدث فأنت حر فهو مدبر ; لأنه تعورف الحدث والحادث في الموت ، وكذا الوفاة والهلاك ; لأن الاعتبار للمعنى وكذا أنت حر مع موتي أو في موتي فإنه تعليق العتق بالموت ، و " في " تستعار بمعنى حرف الشرط كما عرف في الأصول ، وقول [ ص: 286 ] الزيلعي تبعا لما في المحيط إن حرف الظرف إذا دخل على الفعل يصير شرطا تسامح ، وإنما هو بمعناه لأنه لو كان شرطا لطلقت في قوله لأجنبية أنت طالق في نكاحك مع أنها لا تطلق وأفاد بقوله أنت حر يوم أموت أن كل لفظ وقع به العتق للحال إذا أضيف إلى الموت فإنه يوجب التدبير كقوله أعتقتك ، أو أنت عتيق ، أو معتق ، أو محرر بعد موتي ، وفي الخانية والظهيرية : رجل قال لعبده : لا سبيل لأحد عليك بعد موتي قالوا يصير مدبرا ا هـ .

ولم يقيداه بالنية مع أن " لا سبيل لي عليك " كناية لا يعتق بها إلا بالنية لا أن يفرق بين قوله لي وبين قوله لأحد وكذا بعد موتي قرينة لا تتوقف على النية ، وفي الحاوي القدسي لو قال أعتقوه بعد موتي فهو مدبر ا هـ .

وقيد بكون السيد واحدا ; لأنه لو كان بين اثنين فقالا إذا متنا فأنت حر لم يصر بذلك مدبرا ولهما أن يبيعاه فإذا مات أحدهما صار مدبرا من قبل الثاني وصار حكمه حكم عبد بين رجلين دبره أحدهما ، ولو كان كل واحد منهما قال : إذا مت فأنت حر ، أو دبرتك أو دبرت نصيبي منك وخرج القولان منهما جميعا صار مدبرا بينهما فلا يجوز بيعه وأيهما مات عتق نصيبه وسعى العبد للآخر في قيمة نصيبه منه وكان ولاؤه بينهما كذا في الحاوي القدسي ولا فرق في العتق المضاف إلى الموت بين أن يكون معلقا بشرط آخر ، أو لا فلو قال : إن كلمت فلانا فأنت حر بعد موتي فكلمه صار مدبرا ; لأنه بعد الكلام صار التدبير مطلقا وكذا لو قال أنت حر بعد كلامك فلانا وبعد موتي فكلمه فلان كان مدبرا كذا في البدائع وذكر محمد في الأصل إذا قال : أنت حر بعد موتي إن شئت فإن نوى بقوله " إن شئت " الساعة فشاء العبد في ساعته تلك صار مدبرا ; لأنه علق التدبير بشرط وهو المشيئة وقد وجد كما إذا قال إن دخلت الدار فأنت مدبر وإن عنى به مشيئة بعد الموت فليس للعبد مشيئة حتى يموت المولى فإن مات المولى فشاء بعد موته فهو حر من ثلثه وذكر الحاكم في مختصره أن المراد منه أن يعتقه الوصي أو الوارث .

وفي المحيط ولو نهاه عن المشيئة قبل موته جاز نهيه ولا فرق في التدبير بين أن يكون منجزا ، أو مضافا كما إذا قال أنت مدبر غدا ، أو رأس شهر كذا فإذا جاء الوقت صار مدبرا وروى هشام عن محمد رحمه الله تعالى فيمن قال أنت مدبر بعد موتي فهو مدبر الساعة ; لأنه أضاف التدبير إلى ما بعد الموت ، والتدبير بعد الموت لا يتصور فيلغو قوله : بعد موتي فيبقى قوله : أنت مدبر ، أو يجعل قوله : أنت مدبر أي أنت حر فيصير كأنه قال أنت حر بعد موتي ، وفي الذخيرة معزيا إلى الأصل لو قال : أنت حر بعد موتي إن دخلت الدار لا يصح هذا التصرف عندنا أصلا بخلاف ما إذا قال أنت حر بعد موتي إن شئت والفرق أن في فصل المشيئة صححنا تصرفه بطريق الوصية ، وتعليق الوصية بالمشيئة صحيح وتعذر تصحيح هذا التصرف بطريق الوصية ; لأن تعليق الوصية بدخول الموصى له الدار باطل ا هـ .

وفي المحيط لو قال لأمة : إن ملكتك فأنت حرة بعد موتي فولدت فاشتراهما تصير الأم مدبرة دون الولد لأن التدبير ثبت في الأم والولد منفصل عنها قبل الملك فلا يتصور سراية حق التدبير إلى الولد كما لو قال : إن ملكتك فأنت حرة فملكها عتقت ولا يعتق ولد ولدته قبل الملك فكذا هذا ولو قال المولى : ولدت قبل التدبير وقالت : بل بعده فالقول للمولى مع يمينه على علمه والبينة لها ا هـ .

وفي الظهيرية : أنت حر الساعة بعد موتي يعتق بعد الموت ا هـ .

وأشار المصنف بهذه الألفاظ إلى أنه لو قال : أوصيت لك برقبتك ، أو عتقك ، أو نفسك أو أوصيت لك بثلث مالي فإنه يكون مدبرا ; لأن التدبير وصية فإذا أتى بصريحها كان مدبرا بالأولى ولأن الإيصاء للعبد برقبته إزالة ملكه عن رقبته ; لأنه لا يثبت الملك للعبد في رقبته إلا بإعتاقه فهو كبيع نفس العبد منه ولو قال العبد لا : أقبل فهو مدبر وليس رده بشيء كما في الظهيرية وعن أبي يوسف فيمن أوصى بسهم من ماله [ ص: 287 ] لعبده فإنه يعتق بعد موته ولو أوصى له بجزء من ماله لم يعتق لأن السهم عبارة عن السدس فكان سدس رقبته داخلا في الوصية فأما الجزء عبارة عن شيء مبهم والتعيين فيه للورثة فلم تكن الرقبة داخلة تحت الوصية كذا في المحيط وما عن أبي يوسف هنا جزم به في الاختيار وذكر الولوالجي : لو قال مريض أعتقوا فلانا بعد موتي إن شاء الله تعالى صح الإيصاء وفرق بين هذا وبين ما إذا قال : هو حر بعد موتي إن شاء الله تعالى حيث لا يصح ، والفرق أن في المسألة الأولى أمرا بالإعتاق ، والاستثناء في الأمور باطل ، وفي المسألة الثانية إيجاب ، والاستثناء في الإيجاب صحيح ا هـ .


[ ص: 286 - 287 ] ( قوله : فإنه يعتق بعد موته ) ظاهره أنه يعتق كله مع أنه صرح في الفتح فيما لو أوصى لعبده بثلث ماله أنه يعتق ثلثه ولعل ما هنا مبني على قول أبي يوسف بعدم تجزي التدبير تأمل ورأيت في وصايا خزانة الأكمل أوصى لعبده بدراهم مسماة ، أو بشيء من الأشياء لم يجز ولو أوصى له ببعض رقبته عتق ذلك القدر ويسعى في الباقي عند أبي حنيفة ولو وهب له رقبته ، أو تصدق عليه بها عتق من ثلثه ولو أوصى له بثلث ماله صح وعتق ثلثه فإن بقي من الثلث أكمل له ، وإن كان في قيمته فضل على الثلث سعى للورثة ا هـ .

وقوله : فإن بقي من الثلث أكمل له إلخ معناه والله أعلم أنه يستحق ثلث المال ومنه ثلث رقبته وعليه ثلثا رقبته فإن كان ثلثاها أقل من ثلث باقي المال أكمل له تتمة الثلث ، وإن كان ثلثاها أكثر يسعى للورثة فيما زاد فيكمل له ثلث المال فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية