البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : ، وإن أقرا أو شهدا بعد مضي ريحها لا لبعد المسافة أو وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها أو رجع عما أقرا وأقر سكران بأن زال عقله لا ) أي لا يحد في هذه المسائل كلها ، أما ثبوته بعد زوال رائحتها بإقرار أو ببينة فللتقادم وهو مقدر به فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عند محمد اعتبارا بحد الزنا وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان ، والرائحة قد تكون من غيره كما قيل

يقولون لي إنكه شربت مدامة فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا

وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه ، فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة على القرب ، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره ، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل ، وإنما يشتبه على الجهال ، وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا على ما مر تقريره وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة ; لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا ورجح في غاية البيان قول محمد فقال : والمذهب عندي في الإقرار ما قاله محمد ; لأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنكره بعض أهل العلم قال أبو عبيد : لأن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا بها الرد ، والإعراض وعدم الاستماع احتيالا للدرء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقر ماعز فكيف يأمر ابن مسعود بالتلتلة ، والمزمزة ، والاستنكاه حتى يظهر سكره فلو صح فتأويله أنه جاء في رجل أنه مولع بالشراب مدمن فاستجازه لذلك ا هـ .

وفي فتح القدير وقول محمد هو الصحيح . ا هـ .

والحاصل أن المذهب قول أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أن قول محمد أرجح من جهة المعنى وقدمنا التفصيل في اشتراط وجود الرائحة وأن المسافة إذا كانت بعيدة فالشرط وجودها عند التحمل لا الأداء وهو المراد بقوله لا لبعد المسافة وقدمنا أن وجود الرائحة لا بد منها سواء كان قد شرب الخمر أو سكر من نبيذ ، وقول الزيلعي وأشار في الهداية إلى أنه لا يشترط غير صحيح ; لأنه قال أولا ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به وهو سكران وثانيا فإن أخذه الشهود وريحها توجد أو سكران وكونه سكران مغن عن اشتراط وجود الرائحة إذ لا يوجد سكران بغير رائحة ما شربه ، وأما إذا وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها فلأنه يحتمل أنه شربها مكرها أو مضطرا ، والرائحة محتملة أيضا فلا يجب الحد بالشك وأشار إلى أنه لو وجد سكران لا يحد من غير إقرار ولا بينة لاحتمال [ ص: 30 ] ما ذكرنا ولاحتمال أنه سكر من المباح وفي الظهيرية شهد أحدهما أنه شربها ، والآخر أنه قاءها لم يحد ، وإذا شرب قوم نبيذا فسكر منه بعضهم دون البعض حد من سكر ، وأما إذا رجع عن الإقرار فلأنه خالص حق الله تعالى فيعمل الرجوع فيه كسائر الحدود وهذا لأنه يحتمل أن يكون صادقا فصارت شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات ، وأما إذا أقر وهو سكران فلزيادة احتمال الكذب في إقراره فيحتال للدرء ; لأنه خالص حق الله تعالى وأشار إلى أن كل حد كان خالصا لله تعالى فلا يصح إقرار السكران به ، وإن ما لم يكن خالصا لله تعالى ، فإنه يصح إقراره به كحد القذف ; لأنه فيه حق العبد ، والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه كما في سائر تصرفاته .

والحاصل أن إقراره بالحدود لا يصح إلا حد القذف وإقراره بسبب القصاص وسائر الحقوق من المال ، والطلاق ، والعتاق وغيرها صحيح ; لأنها لا تقبل الرجوع ولذا إذا أقر بالسرقة ولم يقطع لسكره أخذ منه المال وصار ضامنا له ، وأما ارتداده فليس بصحيح فلا تبين منه امرأته ; لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر قال في فتح القدير هذا في الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى ، فإن كان في الواقع قصد أن يتكلم به ذاكرا لمعناه كفر وإلا فلا وفي التبيين وعند أبي يوسف ارتداده كفر ذكره في الذخيرة .

وأما إذا أسلم ينبغي أن يصح كإسلام المكره ا هـ .

وفي فتح القدير أن إسلامه غير صحيح وقيد بالإقرار ; لأنهم لو شهدوا عليه بالشرب وهو سكران قبلت شهادتهم وكذا بالزنا وهو سكران كما إذا زنى وهو سكران وكذا بالسرقة وهو سكران ويحد بعد الصحو ويقطع ; لأن الإنشاء لا يحتمل الكذب فيعتبر فعله فيما ينفذ من غير قصد واعتقاد وهذا كله إذا سكر من المحرم ، وأما إذا سكر بالمباح كشرب المضطر ، والمكره ، والمتخذ من الحبوب ، والعسل ، والدواء ، والبنج فلا تعتبر تصرفاته كلها ; لأنه بمنزلة الإغماء لعدم الجناية وفي الخانية ، وإن زال عقله بالبنج فطلق إن كان حين تناوله البنج علم أنه بنج يقع الطلاق ، وإن لم يعلم لا يقع وعن أبي يوسف ومحمد لا يقع من غير فصل وهو الصحيح ا هـ .

وهذا يدل على أن البنج حلال مطلقا على الصحيح وقوله بأن زال عقله بيان حد السكر فعند أبي حنيفة السكران من النبيذ الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا قليلا ولا كثيرا ولا يعقل الرجل من المرأة ولا الأرض من السماء وقالا : هو الذي يهذي ويختلط كلامه غالبا ، فإن كان نصفه مستقيما فليس بسكران ; لأنه السكران في العرف وإليه مال أكثر المشايخ وله أن يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درءا للحد ونهاية السكران يغلب السرور على العقل فيسلبه الميز بين شيء وشيء وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو ، والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط وفي الخانية وبقولهما أفتى المشايخ وفي فتح القدير واختاروه للفتوى لضعف دليل الإمام واستدل له في الظهيرية بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال من بات سكرانا بات عروسا للشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح فهذا إشارة إلى أن السكران من لا يحس بشيء مما يصنع به وحكى أن أئمة بلخ اتفقوا على أنه يستقرأ سورة من القرآن ، فإن أمكنه أن يقرأها فليس بسكران [ ص: 31 ] حتى يحكى أن أميرا ببلخ أتاه بعض الشرطى بسكون الراء بسكران فأمره الأمير أن يقرأ { قل يا أيها الكافرون } فقال السكران للأمير اقرأ سورة الفاتحة أولا فلما قال الأمير { الحمد لله رب العالمين } قال : قف فقد أخطأت من وجهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية وهي آية من أول الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء ، فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي الذي جاء به ويقول : أمرتك أن تأتيني بالسكران فجئتني بمقرئ بلخ . ا هـ .

وفي فتح القدير ولا شك أن المراد ممن يحفظ القرآن أو كان حفظها فيما حفظ منه لا من لم يدرسها أصلا ولا ينبغي أن يعول على هذا بل ولا معتبر به ، فإنه طريق سماع تبديل كلام الله تعالى ، فإنه ليس كل سكران إذا قيل له اقرأ { قل يا أيها الكافرون } يقول لا أحسنها الآن بل يندفع قارئا فيبدلها إلى الكفر ولا ينبغي لأحد أن يلزم أحدا بطريق ذكر ما هو كفر ، وإن لم يؤاخذ به .


( قوله : غير أنه مقدر بالزمان عند محمد ) أي بشهر كما قدمه في الباب السابق ( قوله : وتلتلوه ومزمزوه ) قال في الفتح المزمزة التحريك بعنف والترترة والتلتلة التحريك وهما بتاءين مثناتين من فوق ( قوله : وقول الزيلعي وأشار في الهداية إلخ ) أقول : ما ذكره من عبارة الهداية ظاهر فيما قاله الزيلعي ; لأن الرائحة قد يزيلها السكران باستعمال شيء فلا يلزم من وجود السكر وجود الرائحة ثم رأيت في حاشية أبي السعود كما ذكرت حيث قال بعد سوقه عبارة المؤلف وفيه نظر إذ ما نقله في البحر عن الهداية لا ينافي ما ادعاه الزيلعي حتى لو ذهبت الريح بالمعالجة لم يكن ذلك مانعا من إقامة الحد كما قدمناه عن البرجندي معزيا للمحيط وهذا الذي قد فهمه الزيلعي من عبارة الهداية هو الظاهر وقوله إذ لا يوجد سكران إلخ غير مسلم لما علمت من عدم التلازم بينهما [ ص: 30 ] ( قوله : وهذا يدل على أن البنج حلال مطلقا ) أي سواء علم به أو لا ولم يذكر ما إذا سكر منه وفي التتارخانية ولو سكر من نبيذ العسل أو الذرة أو نحو ذلك أو من البنج أو لبن الرماك لم يحد ثم قال وفي جامع الجوامع وجدت بخط شيخي في زماننا الفتوى على أن من سكر من البنج يحد ا هـ .

ومثله في القهستاني عن النهاية وفي العناية رواية الجامع الصغير للإمام المحبوبي تدل على أن السكر الحاصل من البنج حرام وكلام المصنف يدل على أن البنج مباح ولا تنافي بينهما . ا هـ .

. وفي حاشية أبي السعود بعد نقله عن المؤلف تصحيح الحل ويخالفه ما جزم به في التنوير من كتاب الأشربة بحرمته ، ونصه : ويحرم أكل البنج والحشيشة والأفيون لكن دون حرمة الخمر . ا هـ .

قلت التوفيق بينهما ممكن بما نقله شيخنا عن القهستاني آخر كتاب الأشربة ونصه أن البنج أحد نوعي القت حرام ; لأنه يزيل العقل وعليه الفتوى بخلاف نوع آخر منه ، فإنه مباح كالأفريت ; لأنه وإن اختل العقل لكنه لا يزيل وعليه يحمل ما في الهداية وغيرها من إباحة البنج كما في شرح اللباب ( قوله : وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو ) أي فيندرئ به الحد قال في العناية ولهذا وافقهما في السكر الذي يحرم عنده القدح المسكر أن المعتبر فيه هو اختلاط الكلام ; لأن اعتبار النهاية فيما يندرئ بالشبهات والحل والحرمة يوجد بالاختلاط وهذا معنى قوله والمعتبر في القدح السكر في حق الحرمة ما قالاه بالإجماع أخذا بالاحتياط ; لأنه لما اعتقد حرمة القدح الذي يلزم الهذيان واختلاط الكلام عنده يمتنع عنه فلما امتنع وهو الأدنى في حد السكر كان ممتنعا عن الأعلى فيه وهو ما قاله أبو حنيفة رحمه الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية