البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : فلو قذف محصنا أو محصنة بزنا حد بطلبه مفرقا ) أي بطلب المقذوف مفرقا على أعضاء القاذف لما تلوناه من الآية وبينا من الإجماع قيد بالمحصن ; لأن غيره لا يجب الحد بقذفه وفيه إشارة إلى اشتراط عجز القاذف عن إقامة البينة على الزنا ، فإنه إذا أقام بينة على صدق مقالته لم يبق المقذوف محصنا فأغنى ذكر الإحصان عن هذا الشرط وكذا لو صدقه المقذوف وفي الظهيرية رجل قذف رجلا بالزنا فرفعه المقذوف إلى القاضي فقال القاذف : عندي شهود عدول على ما قلت وأقامهم على ذلك ، فإنه لا يحد وهل يحد المقذوف إن شهدوا بحد متقادم ، فإنه لا يحد كما لو شهدوا عليه بالزنا قبل القذف إن كان متقادما لم يحد ، وإن كان غير متقادم حد فكذلك هنا ا هـ .

وقيد بقوله بزنا ; لأنه لو قذفه بغيره لا يكون قذفا شرعا لما قدمناه فلا حد بقوله وطئك فلان وطئا حراما أو جامعك حراما وأطلق في الزنا ولم يقيده بلفظ ليدخل فيه ما إذا قال زنيت أو يا زاني أو أنت أزنى الناس أو أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى مني كما في الظهيرية ويخالفه ما في الخانية لو قال : أنت أزنى مني لا حد عليه ولو قال لرجل : يا زانية بالتاء لا يحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد : يكون قاذفا ولو قال لامرأة يا زاني يجب الحد في قولهم ; لأنه ترخيم وهو حذف آخر الكلمة ولو قال لرجل زان لا حد عليه ولو قال لأهل قرية ليس فيكم زان إلا واحدا أو قال : كلكم زان إلا واحدا أو قال لرجلين : أحدكما زان فقيل هذا لأحدهما بعينه فقال نعم لا حد عليه .

ولو قال لرجل يا زاني فقال له غيره صدقت حد المبتدئ دون المصدق ولو قال له صدقت هو كما قلت فهو قاذف أيضا ولو أن جماعة قالوا رأينا فلانا يزني بفلانة ثم قالوا فيما دون الفرج متصلا لا حد على المقذوف ولا على الجماعة ولو قطعوا الكلام ثم قالوا فيما دون الفرج كان عليهم حد القذف ولو قال من قال كذا وكذا فهو ابن الزانية فقال رجل أنا قلت لا حد على المبتدئ ولو قال لغيره أنت تزني لا حد عليه ولو قال لامرأة ما رأيت زانية خيرا منك لا حد عليه ولو قال لامرأة زنى بك زوجك قبل أن يتزوجك كان قذفا ولو قال لغيره زنى فخذك أو ظهرك أو يدك لا حد عليه ولو قال : زنى فرجك كان قاذفا ولو قذف رجلا بغير لسان العربية كان عليه الحد ولو قال لغيره أخبرت أنك زان أو قال أشهدت على ذلك لا حد عليه ولو قال لغيره زنيت وفلان معك يكون قاذفا لهما ولو قال : عنيت وفلان معك شاهد لا يصدق ولو قال أشهد أنك زان فقال رجل آخر وأنا أشهد أيضا لا حد على الثاني إلا أن يقول وأنا أشهد عليه بمثل ما شهدت به عليه فحينئذ يكون قاذفا ولو قال لغيره اذهب إلى فلان وقل له يا زاني فلا حد على الآمر وهل يحد المأمور إن كان المأمور قال له يا زاني يحد ، وإن قال له : إن فلانا يقول لك يا زاني لم يحد ولو قال لآخر يا ابن الزانية وهذا معك قال ذلك بكلام واحد فهذا ليس بقذف للثاني ولو قال لرجل يا زاني وهذا معك كان قاذفا لهما .

ولو قال لآخر يا ابن الزانية وهذا ولم يقل معك فهو قاذف للثاني رجل قال لامرأة أجنبية زنيت ببعير أو بثور أو بحمار لا حد عليه ; لأنه نسبها إلى التمكين من البهائم ولو قال زنيت بناقة أو ببقرة أو بثوب أو بدرهم فعليه الحد ; لأن معنى كلامه زنيت بناقة بذلك لك أو بدرهم بذلك لك في الزنا ، فإن قيل بل معنى كلامه زنيت بدرهم استؤجرت عليه فينبغي أن لا يحد في قول أبي حنيفة وهذا ; لأن حرف الباء تصحب الأعواض ، والأبدال قيل له هذا محتمل وما ذكرناه محتمل فيتقابل المحتملان ويبقى [ ص: 34 ] ( قوله زنيت فكأنه لم يزد على هذا ولو قال لرجل زنيت ببعير أو بناقة أو ما أشبه ذلك لا حد عليه ; لأنه نسبه إلى إتيان البهيمة ، فإن قال بأمة أو دار أو ثوب فعليه الحد كذا في الخانية ، والظهيرية وبه تبين أن حد القذف لا يجب مع التصريح بالزنا في بعض المسائل لقرينة ويجب في بعض المسائل مع عدم التصريح مثل ما تقدم من قوله هو كما قال فحينئذ يحتاج إلى ضبط هذه المسألة وفي الخانية رجل قال لغيره يا لوطي لا حد عليه .

ولو نسبه إلى اللواطة صريحا لا حد عليه في قول أبي حنيفة وقال صاحباه يحد ا هـ .

واعلم أنه يشترط وجود الإحصان وقت الحد حتى لو زنى المقذوف قبل أنه يقام الحد على القاذف أو وطئ وطئا حراما على ما ذكرنا أو ارتد ، والعياذ بالله تعالى سقط الحد عن القاذف ولو أسلم بعد ذلك ; لأن إحصان المقذوف شرط فلا بد من وجوده عند إقامة الحد كذا في فتح القدير وقيد بطلبه ; لأنه حقه وينتفع به على الخصوص من حيث دفع العار عن نفسه ، وإن كان الغالب فيه حق الله تعالى على الأصح وأشار به إلى أن قذف الأخرس لا يوجب الحد ; لأن طلبه يكون بالإشارة ولعله لو كان ينطق لصدقه ولما كان الطلب ثم الحد لدفع العار استفيد منه أنه لا بد من تصور الزنا من المقذوف حتى لو قذف رتقاء أو مجبوبا لا يجب عليه الحد ; لأنهما لا يلحقهما العار بذلك لظهور كذبه بيقين ( قوله : ولا ينزع عنه غير الفرو ، والحشو ) إظهارا للتخفيف ; لأن سببه غير متيقن به لاحتمال صدق القاذف فلا يقام على الشدة .

وأما الفرو ، والحشو فيمنعان وصول الألم فينزعان بخلاف حد الزنا ، والشرب ، فإنه ينزع عنه ثيابه كلها إلا الإزار كما قدمناه ، والمراد بالحشو الثوب المحشو كالمضرب بالقطن ، ومقتضى كلامهم أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع وفي فتح القدير ، والظاهر أنه لو كان فوق قميص ينزع ; لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا منه ويمنع من إيصال الألم الذي يصلح زاجرا .


( قوله : ويخالفه ما في الخانية إلخ ) كذا يخالفه ما في الجوهرة إذا قال : أنت أزنى الناس ، فإنه لا يحد ; لأن معناه أنت أقدر الناس على الزنا . ا هـ .

والظاهر أن علة ما في الخانية هذه وعليه فيكون أنت أزنى من فلان الزاني أو من فلان مثل أزنى الناس وأزنى مني تأمل ثم رأيته في النهر قال وفي أنت أزنى الناس أو من فلان خلاف ففي المبسوط لا حد عليه إذ معناه أنت أقدر الناس على الزنا وجزم قاضي خان بوجوبه به وكذا في أنت أزنى مني فجزم في الظهيرية بوجوبه وفي الخانية بأنه لا يجب . ا هـ .

وأوضح المراد في التتارخانية حيث قال نقلا عن المحيط وفي كتاب الاختلاف روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال لغيره : أنت أزنى الناس أنت أزنى من الزناة أنت أزنى من فلان الزاني أنت أزنى فلان أو أنت أزنى مني فعليه الحد وقال أبو يوسف في الثلاث الأول الحد وفي الرابع والخامس لا يجب الحد . ا هـ .

( قوله : فينبغي أن لا يحد إلخ ) يفيد أنه لا يحد القاذف [ ص: 34 ] بنسبة المقذوف إلى فعل يوجب الحد وبه صرح ابن الكمال ( قوله : ولو قال لرجل زنيت ببعير إلخ ) قال في النهر ولو قال لها زنيت بحمار أو بعير أو ثور لم يحد ; لأن الزنا إدخال ذكره في قبل مشتهاة إلى آخره بخلاف ما لو قال زنيت بناقة أو أتان أو دراهم ; لأن معناه زنيت وأخذت البدل إذ لا تصلح المذكورات للإدخال في فرجها ولو قيل : هذا الرجل لا يحد ; لأنه ليس العرف في جانبه أخذ المال . ا هـ .

وهو مخالف لما ذكره المؤلف ، فإن هذا التعليل يفيد أنه لو قال له زنيت بدار أو ثوب أن لا يحد كما لو قال له بدراهم إلا أن تكون الإشارة بقوله ولو قيل هذا الرجل إلى قوله بحمار أو بعير أو ثور تأمل ثم رأيت في كافي الحاكم ، وإن قال لرجل زنيت ببعير أو بناقة أو ما أشبه ذلك أو بأمة لم يحد إلا في الأمة خاصة . ا هـ .

( قوله : حتى لو قذف رتقاء أو مجبوبا لا يجب عليه الحد ) زاد في النهر في قذف من لا يجب بقذفه الحد الخصي والمملوك للقاذف كما سيأتي والخنثى الذي بلغ مشكلا نص عليه في السراجية ووجهه أن نكاحه موقوف وهو لا يفيد الحل . ا هـ .

وفيه نظر ففي التتارخانية وكذلك إذا قذف الرتقاء لا حد عليه وكانت بمنزلة المجبوب بخلاف ما لو قذف خصيا أو عنينا ; لأن الزنا منهما غير منتف وكذا إذا قذف امرأة عذراء ; لأن الزنا متصور . ا هـ .

فكان الصواب ترك الخصي وكذا المملوك لما في حاشية مسكين عن الحموي أن الذي سيأتي ما إذا قذف أم مملوكه ، وأما المملوك فقذفه لا يوجب الحد مطلقا سواء كان مملوكه أو ملوك غيره كما سيأتي في التعزير واعترض الحموي أيضا تعليله بمسألة الخنثى بأنه لا دخل للنكاح البات المفيد للحل في إيجاب حد القذف حتى يترتب على عدمه عدم وجوب الحد ، وإنما ذاك في حد الزنا بالرجم . ا هـ .

قلت بل لا دخل للنكاح أصلا قال في الدر المختار ينقص عن إحصان الرجم بشين النكاح والدخول قلت والظاهر وجوب الحد بقذفه لعدم تحقق الزنا منه لاحتمال زيادة كل من السلعتين إلا أنه قد يقال يمكن تحققه منه بأن يأتي غيره ويأتيه غيره وعبارة السراجية مطلقة وهي على ما في التتارخانية قذف خنثى بلغ مشكلا ولم يتبين حاله لم يحد فتأمل ثم ظهر لي أن مراد النهر حمل المسألة على ما إذا تزوج الخنثى المذكور ودخل فقذفه آخر ، فإنه لا يحد بقذفه ; لأنه وطئ في غير ملكه لكون نكاحه موقوفا لا يفيد الحل فلا يرد عليه ما مر أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية