البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله ولا تحدث بيعة ولا كنيسة في دارنا ) أي لا يجوز إحداثهما في دار الإسلام لقوله عليه السلام { لا إخصاء في الإسلام ولا كنيسة } والمراد إحداثهما وفي البناية يقال كنيسة اليهود والنصارى لمتعبدهم وكذلك البيعة كان مطلقا في الأصل ثم غلب استعمال الكنيسة لمتعبد اليهود والبيعة لمتعبد النصارى وفي فتح القدير وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة بل الكنيسة لمتعبد الفريقين ولفظ الدير للنصارى خاصة والبيع بكسر الباء أطلق عموم دار الإسلام فشمل الأمصار والقرى وهو المختار كما في فتح القدير وقيده في الهداية بالأمصار دون القرى لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا يعارض بإظهار ما يخالفها وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا لأن فيها بعض الشعائر والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها لقوله عليه السلام { لا يجتمع دينان في جزيرة العرب } ا هـ .

وشمل كلامه المواضع كلها وفي البناية قبل أمصار المسلمين ثلاثة أحدها ما مصره المسلمون منها كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط فلا يجوز فيها إحداث بيعة ولا كنيسة ولا مجتمع [ ص: 122 ] لصلاتهم ولا صومعة بإجماع العلماء ولا يمكنون فيه من شرب الخمر واتخاذ الخنزير وضرب الناقوس وثانيها ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شيء فيها بالإجماع وثالثها ما فتح صلحا فإن صالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج جاز إحداثهم وإن صالحهم على أن الدار لنا ويؤدون الجزية فالحكم في الكنائس على ما يوقع عليه الصلح فإن صالحهم على شرط تمكين الإحداث لا نمنعهم والأولى أن لا يصالحهم عليه وإن وقع الصلح مطلقا لا يجوز الإحداث ولا يتعرض للقديمة ا هـ .

والحاصل أنهم يمنعون من الإحداث مطلقا إلا إذا وقع الصلح على الإحداث أو على أن الأرض لهم على هذا القول ولا استثناء في ظاهر الرواية وأشار إلى أنهم يمنعون من إحداث بيت النار بالأولى والصومعة كالكنيسة لأنها تبتنى للتخلي للعبادة بخلاف موضع الصلاة في البيت لأنه تبع للسكنى والصومعة بيت مبني برأس طويل ليتعبد فيها بالانقطاع عن الناس ( قوله ويعاد المنهدم ) مفيد لشيئين الأول عدم التعرض للقديمة لأنه قد جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بترك البيع والكنائس في دارنا والمراد بالقديمة ما كانت قبل فتح الإمام بلدهم ومصالحتهم على إقرارهم على بلدهم وأراضيهم ولا يشترط أن تكون في زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لا محالة كذا في البناية وفي المحيط لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون . الثاني جواز بناء ما انهدم من القديمة لأن الأبنية لا تبقى دائما ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة وأشار إلى أنه لا تجوز الزيادة على البناء الأول كما في الخانية وإلى أنهم لا يمكنون من نقلها لأنه إحداث في الحقيقة وفي فتح القدير .

واعلم أن البيع والكنائس القديمة في السواد لا تهدم على الراويات كلها وأما في الأمصار فاختلف كلام محمد فذكر في العشر والخراج تهدم القديمة وذكر في الإجارة أنها لا تهدم وعمل الناس عن هذا فإنا رأينا كثيرا منها تولت عليها أئمة وأزمان وهي باقية لم يأمر إمام بهدمها فكان متوارثا من عهد الصحابة رضي الله عنهم وعلى هذا لو مصرنا برية فيها دير أو كنيسة فوقع داخل السور ينبغي أن لا يهدم لأنه كان مستحقا للأمان قبل وضع السور فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك فإنها كانت فضاء فأدار العبيديون عليها السور ثم فيها الآن كنائس ويبعد من إمام تمكين الكفار من إحداثها جهارا في جوف المدن الإسلامية فالظاهر أنها كانت في الضواحي فأدير السور فأحاط بها وعلى هذا أيضا فالكنائس الموجودة الآن في دار الإسلام غير جزيرة العرب كلها ينبغي أن لا تهدم لأنها إن كانت في الأمصار قديمة فلا شك أن الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم أجمعين حين فتحوا المدينة علموا بها وبقوها وبعد ذلك ينظر فإن كانت البلدة فتحت عنوة حكمنا بأنهم بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتقرب وإن عرف أنها فتحت صلحا حكمنا بأنهم أقروها معابد فلا يمنعون من ذلك فيها بل من الإظهار وانظر إلى قول الكرخي إذا حضر لهم عيد يخرجون فيه صلبانهم وغير ذلك فليصنعوا في كنائسهم القديمة من ذلك ما أحبوا فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهر في المصر فليس لهم ذلك ولكن ليخرجوا خفية من كنائسهم ا هـ .

وصحح في التتارخانية رواية كتاب الإجازة من عدم هدم القديمة .


[ ص: 122 ] ( قوله على هذا القول ) أي الذي قدمه عن البناية وقوله ولا استثناء في ظاهر الرواية أنهم يمنعون من الإحداث وإن وقع الصلح عليه قال السرخسي في السير الكبير ولو طلب قوم من أهل الحرب الصلح على شرط أن المسلمين إن اتخذوا مصرا في أرضهم لم يمنعوهم من أن يحدثوا فيه بيعة أو كنيسة لا ينبغي ذلك لأنه أعطاه الدنية في الدين والاستخفاف بالمسلمين فلا يجوز المصير إليه إلا عند تحقق الضرورة فإن أعطاهم الإمام ذلك لا يفي به لأنه مخالف لحكم الشرع ا هـ .

( قوله ينبغي أن لا يهدم إلخ ) ظاهره أنه بحث له وقد ذكر في الذخيرة ما يفيده أو يصرح به حيث قال في التتارخانية ناقلا عنها وإن اتخذ المسلمون مصرا في أرض موات لا يملكها أحد فإن كان بقرب ذلك المصر قرى لأهل الذمة فعظم المصر حتى ملك القرى وجاوزها فقد صارت من جملة المصر يعني تلك القرى لإحاطة المصر بجوانبها فإن كان لهم في تلك القرى بيع وكنائس قديمة ترك على حاله وإن أرادوا أن يحدثوا في شيء من تلك القرى بيعة أو كنيسة أو بيت نار بعد ما صارت مصرا للمسلمين منعوا من ذلك ا هـ .

ومثله شرح السير الكبير للسرخسي ( قوله وبعد ذلك ينظر إلخ ) قال الرملي فلو لم يعلم واحد منهما ما يفعل والذي يظهر أنه ينظر لما كانوا عليه فيها قديما لأن الظاهر أن الأئمة المتقدمين علموا بذلك فأبقوهم عليه تأمل

التالي السابق


الخدمات العلمية