البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله ومن بنى سقاية أو خانا أو رباطا أو مقبرة لم يزل ملكه عنه حتى يحكم به حاكم ) يعني عند أبي حنيفة لأنه لم ينقطع عنه حق العبد ألا ترى أن له أن ينتفع به ويسكن في الخان وينزل في الرباط ويشرب من السقاية ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء بخلاف المسجد لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم وعند أبي يوسف يزول ملكه بالقول كما هو أصله إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم .

وفي فتاوى قاضي خان ونأخذ في ذلك بقول أبي يوسف وعند محمد إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في المقبرة زال الملك لأن التسليم عنده شرط والشرط تسليم نوعه وذلك بما ذكرناه ويكتفى بالواحد لتعذر فعل الجنس كله وعلى هذا البئر والحوض ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه لأنه نائب عن الموقوف عليه وفعل النائب كفعل المنوب عنه وأما في المسجد فقدمنا الخلاف فيما إذا سلمه إلى المتولي والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل لأنه لا متولي له عرفا .

وقد قيل إنه بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي لأنه لو نصب المتولي يصح وإن كان على خلاف العادة ولو جعل دارا له بمكة سكنى لحاج بيت الله الحرام والمعتمرين أو جعل داره في غير مكة سكنى للمساكين أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه فهو جائز ولا رجوع فيها لما بينا إلا أن في الغلة تحل للفقراء دون الأغنياء وفيما سواه من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الفقير والغني والفارق هو العرف بين الفصلين فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة للفقراء وفي غيرها التسوية بينهم وبين الأغنياء ولأن الحاجة تشمل الغني والفقير في النزول والشرب والغني لا يحتاج إلى صرف هذه الغلة لغناه .

كذا في الهداية وبما قررناه علم أن اقتصار المصنف على حكم الحاكم ليس بجيد لأن الإضافة إلى ما بعد الموت كالحكم وهي وصية فلا تلزم إلا بعد الموت وله الرجوع عنها في حياته كما في فتح القدير وظاهر قول المصنف أن له الرجوع في المقبرة قبل الحكم وبعد الدفن بها على قول الإمام وفي فتح القدير ثم روى الحسن عنه أنه إذا رجع بعد الدفن لا يرجع في المحل الذي دفن فيه ويرجع فيما سواه ثم إذا رجع في المقبرة بعد الدفن لا ينبشها لأن النبش حرام ولكن يسوي ويزرع وهذا على غير رواية الحسن والفتوى في ذلك كله خلاف قول أبي حنيفة للتعامل المتوارث هذا وتفارق المقبرة غيرها بأنه لو كان في المقبرة أشجار وقت الوقف كان للورثة أن يقطعوها لأن موضعها لم يدخل في الوقف لأنه مشغول بها كما لو جعل داره مقبرة لا يدخل موضع البناء في الوقف بخلاف غير المقبرة فإن الأشجار والبناء إذا كانت في عقار وقفه دخلت في الوقف تبعا ولو نبتت فيها بعد الوقف إن علم غارسها كانت للغارس وإن لم يعلم فالرأي فيها إلى القاضي إن رأى بيعها وصرف ثمنها على عمارة المقبرة فله ذلك ويكون في الحكم كأنه وقف ولو كانت قبل الوقف لكن الأرض موات ليس لها مالك فاتخذها أهل القرية مقبرة فالأشجار على ما كانت عليه قبل جعلها مقبرة ولو بنى رجل بيتا في المقبرة لحفظ اللبن ونحوه إن كان في الأرض سعة جاز وإن لم يرض بذلك أهل المقبرة لكن إذا احتيج إلى ذلك المكان بدفع البناء ليقبر فيه ومن حفر لنفسه قبرا فلغيره أن يقبر فيه وإن كان في الأرض سعة إلا أن الأولى أن لا يوحشه إن كان فيه سعة .

كمن بسط سجادة [ ص: 275 ] في المسجد أو نزل في الرباط فجاء آخر لا ينبغي أن يوحش الأول إن كان في المكان سعة وذكر الناطفي أنه يضمن قيمة الحفر ليجمع بين الحقين ولا يجوز لأهل القرية الانتفاع بالمقبرة الدائرة فلو كان فيها حشيش يحش ويرسل إلى الدواب ولا ترسل الدواب فيها . ا هـ .

وفي الخانية امرأة جعلت قطعة أرض مقبرة وأخرجتها من يدها ودفن فيه ابنها وهذه الأرض غير صالحة للقبر لغلبة الماء عليها قال الفقيه أبو جعفر إن كانت الأرض بحال يرغب الناس عن دفن الموتى فيها لفسادها لم تصر مقبرة وكان للمرأة أن تبيعها وإذا باعت كان للمشتري أن يرفع الميت عنها أو يأمر برفع الميت عنها ولو جعل أرضه مقبرة أو خانا للغلة أو مسكنا سقط الخراج عنه إن كانت خراجية وقيل لا تسقط والصحيح هو الأول .

ولو بنى رباطا على أن يكون في يده ما دام حيا قال أبو القاسم يقر في يده ما لم يستوجب الإخراج عن يده . قوم عمروا أرض موات على شط جيحون وكان السلطان يأخذ العشر منهم لأن على قول محمد ماء الجيحون ليس ماء الخراج وبقرب ذلك رباط فقام متولي الرباط إلى السلطان فأطلق السلطان له ذلك العشر هل يكون للمتولي أن يصرف ذلك العشر إلى مؤذن يؤذن في هذا الرباط يستعين بهذا على طعامه وكسوته هل يجوز له ذلك وهل يكون للمؤذن أن يأخذ ذلك العشر الذي أباح السلطان للرباط قال الفقيه أبو جعفر لو كان المؤذن محتاجا يطيب له ولا ينبغي له أن يصرف ذلك العشر إلى عمارة الرباط وإنما يصرف إلى الفقراء لا غير ولو صرف إلى المحتاجين ثم إنهم أنفقوا في عمارة الرباط جاز ويكون ذلك حسنا .

رباط على بابه قنطرة على نهر عظيم خربت القنطرة ولا يمكن الوصول إلى الرباط إلا بمجاوزة النهر وبدون القنطرة لا يمكن المجاوزة هل تجوز عمارة القنطرة بغلة الرباط قال الفقيه أبو جعفر إن كان الواقف على مصالح الرباط لا بأس به وإلا فلا لأن الرباط للعامة والقنطرة كذلك . متولي الرباط إذا صرف فضل غلة الرباط في حاجة نفسه قرضا لا ينبغي له أن يفعل ولو فعل ثم أنفق من مال نفسه في الرباط رجوت له أن يبرأ وإن أقرض ليكون أحرز من الإمساك عنده قال رجوت أن يكون واسعا له ذلك .

رباط استغنى عنه المارة وبقربه رباط آخر قال الفقيه أبو جعفر تصرف غلة الرباط الأول إلى الرباط الثاني وإن لم يكن بقربه رباط يعود الوقف إلى ورثة من بنى الرباط رجل أوصى بثلث ماله للرباط فإلى من يصرف قال الفقيه أبو جعفر إن كان هناك دلالة أنه أراد به المقيمين يصرف إليهم وإلا يصرف إلى عمارة الرباط . ا هـ .

وفي المصباح السقاية بالكسر الموضع يتخذ لسقي الناس والرباط اسم من رابط مرابطة من باب قاتل إذا لازم ثغر العدو والرباط الذي يبنى للفقراء مولد ويجمع في القياس على ربط بضمتين ورباطات وفي المجتبى اتخذ مشرعة أو مكتبا لا يتم حتى يشرع فيها إنسان أو يقرأ فيها إنسان وقال أبو يوسف الإشهاد في ذلك كله يكفي ولا بأس أن يشرب من الحوض والبئر ويسقي دابته ويتوضأ منه وفي التوضؤ من السقاية إذا اتخذها للشرب اختلاف المشايخ ولو اتخذها للتوضؤ لا يجوز الشرب منه بالإجماع وفي الاستقاء من السقاية وإسقاء الدواب اختلاف والأصح أنه لا يجوز إلا الاستقاء للشرب إذا كان قليلا لأنه في معنى الشرب والأصح عدم جواز أخذ الجمد إلى بيته لأن الجمد لتبريد ماء السقاية لا للأخذ مقبرة للمشركين أراد أن يتخذها مقبرة للمسلمين لا بأس به إن كانت قد اندرست آثارهم فإن بقي شيء من عظامهم تنبش وتقبر ثم تجعل مقبرة للمسلمين فإن موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين فنبشه واتخذه مسجدا استغني عن مسجد لا يجوز اتخاذه مقبرة ولو وقف أرضا على المقبرة أو على صوفي خانه بشرائطه لا يصح . ا هـ .

وفي الظهيرية وإذا اشترى الرجل موضعا وجعله طريقا للمسلمين وأشهد عليه صح ويشترط لإتمامه مرور واحد [ ص: 276 ] من المسلمين على قول من يشترط التسليم في الأوقاف وفي النوادر عن أبي حنيفة أنه أجاز وقف المقابر والطرق قال هلال وكذلك القنطرة يتخذها الرجل للمسلمين ويتطرقون فيها لا يكون بناؤها ميراثا للورثة وقد صار وقفا ودلت المسألة على جواز وقف البناء وفي القنية صغير كان يأخذ من السقاية ماء لإصلاح الدواة أو قصعة للشرب ثم بلغ فندم لا يكفيه الندم بل يرد الضمان إلى القيم ولا يجزيه صب مثله في السقاية أخذ من السقاية ماء مرة بعد أخرى حتى بلغ جرة مثلا وكان القيم قد صب في تلك السقاية خمسين جرة فصب هو جرة قضاء للحق بعد إذن القيم صار ضامنا للكل دار موقوفة للماء والجمد ليس للقيم أن يشتري من غلتها خابية ليسقي الماء وقف أرضا على أن يدفن فيها أقرباؤه فإذا انقطعوا فأخره للفقراء ودفن فيها من أقربائه حال حياته صح الوقف .

ولو وقف مقبرة أو خانا بعد موته فلوارثه أن يدفن فيها أو ينزل فيه . ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية