البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله : ولو وجد ثوبا ربعه طاهر وصلى عاريا لم يجز ) لأن ربع الشيء يقوم مقام كله فيجعل كأن كله طاهر في موضع الضرورة فيفترض عليه الصلاة فيه ولا يخفى أن محله ما إذا لم يجد ما يزيل به النجاسة ولا ما يقللها ، فإن وجد في الصورتين وجب استعماله بخلاف ما إذا وجد ماء يكفي بعض أعضاء الوضوء فإنه يتيمم ولا يجب استعماله كما عرف في بابه وعلم حكم ما إذا كان الأكثر من الربع طاهرا بالأولى . ( قوله : وخير إن طهر أقل من ربعه ) يعني بين أن يصلي فيه وهو الأفضل لما فيه من الإتيان بالركوع والسجود وستر العورة وبين أن يصلي عريانا قاعدا يومئ بالركوع والسجود وهو يلي الأول في الفضل لما فيه من ستر العورة الغليظة وبين أن يصلي قائما عريانا بركوع وسجود وهو دونهما في الفضل وفي ملتقى البحار إن شاء صلى عريانا بالركوع والسجود أو مومئا بهما إما قاعدا وإما قائما فهذا نص على جواز الإيماء قائما ، وظاهر الهداية أنه لا يجوز وعلى الأول المخير فيه أربعة أشياء وينبغي أن يكون الرابع دون الثالث في الفضل وإن كان ستر العورة فيه أكثر للاختلاف في صحته وهذا كله عندهما وعند محمد ليس بمخير ولا تجوز صلاته إلا في الثوب ; لأن خطاب التطهير سقط عنه لعجزه ولم يسقط عنه خطاب الستر لقدرته عليه فصار كالطاهر في حقه

ولهما أن المأمور به هو الستر بالطاهر فإذا لم يقدر عليه سقط فيميل إلى [ ص: 289 ] أيهما شاء ولو قال المصنف وخير إن طهر الأقل أو كان كله نجسا لكان أفود إذ الحكم كذلك مذهبا وخلافا كما في النهاية وغيرها أو اقتصر على الثاني ليفهم منه الأول بالأولى لكان أولى وفي الأسرار قول محمد أحسن بخلاف ما لو لم يجد إلا جلد ميتة غير مدبوغ فإنه لا يجوز أن يستر به عورته ولم تجز صلاته فيه ; لأن نجاسة البول أو الدم أو نحوهما في الثوب كله تزول بالماء ونجاسة الجلد لا يزيلها الماء فكانت أغلظ .

وأشار المصنف إلى أنه لو كان معه ثوبان ربع أحدهما طاهر والآخر أقل من الربع فإنه يصلي في الذي ربعه طاهر ولا يجوز عكسه لما أن طهارة الربع كطهارة الكل ويستفاد منه أن نجاسة أحدهما لو كانت قدر الربع والآخر أقل وجب أن يصلي في أقلهما ولا يجوز عكسه ; لأن للربع حكم الكل ولما دون الربع حكم العدم ، وإلى أنه لو كان في كل واحد منهما قدر الربع أو كان في أحدهما أكثر لكن لا يبلغ ثلاثة أرباعه وفي الآخر قدر الربع فإنه يصلي في أيهما شاء لاستوائهما في الحكم ، وكذا لو كان معه ثوبان نجاسة كل واحد منهما أكثر من قدر الدرهم يتخير ما لم يبلغ أحدهما ربع الثوب لاستوائهما في المنع ، وفي المحيط ولو كان الدم في ناحية من الثوب والطاهر منه بقدر ما يمكنه أن يتزر به لم يجز إلا أن يصلي فيه ; لأنه يمكنه ستر العورة بثوب طاهر ولم يفصل بينهما إذا تحرك الطرف الآخر أو لم يتحرك . ا هـ .

وبهذا علم أن التفصيل المتقدم إنما هو عند الاختيار ، أما عند الضرورة فلا تفصيل ، ثم الأصل في جنس هذه المسائل أن من ابتلي ببليتين وهما متساويتان يأخذ بأيهما شاء وإن اختلفا فعليه أن يختار أهونهما ، ولهذا لو أن امرأة لو صلت قائمة ينكشف من عورتها ما يمنع جواز الصلاة ولو صلت قاعدة لا ينكشف منها شيء فإنها تصلي قاعدة لما أن ترك القيام أهون ولو كان الثوب يغطي جسدها وربع رأسها فتركت تغطية الرأس لا يجوز ولو كان يغطي أقل من الربع لا يضر والستر أفضل تقليلا للانكشاف ولو كان جريح لو سجد سال جرحه وإن لم يسجد لم يسل فإنه يصلي قاعدا مومئا ; لأن ترك السجود أهون من الصلاة مع الحدث ، ألا ترى أن ترك السجود جائز حالة الاختيار في التطوع على الدابة ومع الحدث لا يجوز بحال ، فإن قام وقرأ وركع ، ثم قعد وأومأ للسجود جاز لما قلنا والأول أفضل وكذا شيخ لا يقدر على القراءة قائما ويقدر عليها قاعدا يصلي قاعدا ; لأنه يجوز حالة الاختيار في النفل ولا يجوز ترك القراءة بحال ولو صلى في الفصلين قائما مع الحدث وترك القراءة لم يجز .

( قوله : ولو عدم ثوبا صلى قاعدا مومئا بركوع وسجود وهو أفضل من القيام بركوع وسجود ) لما عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبوا في السفينة فانكسرت بهم فخرجوا من البحر عراة فصلوا قعودا بإيماء أراد بالثوب ما يستر عامة عورته ولو حريرا أو حشيشا أو نباتا أو كلأ أو طينا يلطخ به عورته ويبقى عليه حتى يصلي لا الزجاج الذي يصف ما تحته والعدم المذكور يثبت بعدم الوجود في ملكه وبعدم الإباحة له حتى لو أبيح له ثوب تثبت القدرة به على الأصح فلو صلى عاريا لم يجز كالمتيمم إذا أبيح له الماء وعن محمد في العريان يعده صاحبه أنه يعطيه الثوب إذا صلى فإنه ينتظره ولا يصلي عريانا وإن خاف فوت الوقت ، كذا في السراج الوهاج وفي القنية عن أبي حنيفة ينتظره ما لم يخف فوت الوقت وأبو يوسف مع أبي حنيفة وينبغي ترجيحه قياسا على المتيمم إذا كان يرجو الماء في آخره وأطلق في الصلاة قاعدا فشمل ما إذا كان نهارا أو ليلا في بيت أو صحراء وهو الصحيح كما بينه في منية المصلي ومن المشايخ من خصه بالنهار

أما في الليل فيصلي قائما ; لأن ظلمة الليل تستر عورته قال في الذخيرة وهذا ليس بمرضي ; لأن الستر الذي يحصل في ظلمة الليل لا عبرة به ، ألا ترى أن حالة القدرة على الثوب إذا صلى عريانا في ظلمة الليل لا يجوز [ ص: 290 ] فصار وجوده وعدمه بمنزلة واحدة . ا هـ .

وتعقبه في شرح منية المصلي بأن الاستشهاد المذكور غير متجه للفرق بين حالة الاختيار وحالة الاضطرار وأطال إلى أن قال ويؤيده ما أخرجه عبد الرزاق سئل علي رضي الله عنه عن صلاة العريان قال إن كان حيث يراه الناس صلى جالسا وإن كان حيث لا يراه الناس صلى قائما وهو وإن كان سنده ضعيفا فلا يقصر عن إفادة الاستئناس ، وأما واقعة الصحابة المتقدمة فقد تطرق إليها احتمالات إما لأنهم اختاروا الأولى لما فيه من تقليل الانكشاف أو لأنهم كانوا مترائين أو لم يكن ليلا فسقط بها الاستدلال ولم يبين المصنف صفة القعود للاختلاف فيها ففي منية المصلي يقعد كما يقعد في الصلاة فعلى هذا يختلف في الرجل والمرأة فهو يفترش وهي تتورك وفي الذخيرة يقعد ويمد رجليه إلى القبلة ويضع يديه على عورته الغليظة والذي يظهر ترجيح الأول وأنه أولى لأنه يحصل به من المبالغة في الستر ما لا يحصل بالهيئة المذكورة مع خلو هذه الهيئة عن فعل ما ليس بأولى وهو مد رجليه إلى القبلة من غير ضرورة .

والحاصل أن القعود على هيئة متعينة ليس بمتعين بل يجوز كيفما كان ، وإنما كان القعود أفضل من القيام ; لأن ستر العورة أهم من أداء الأركان ; لأنه فرض مطلقا والأركان فرائض الصلاة لا غير ، وقد أتى ببدلها

وإنما كان القيام جائزا ; لأنه وإن ترك فرض الستر فقد كمل الأركان الثلاثة وبه حاجة إلى تكميلها ، كذا في البدائع ولقائل أن يقول ينبغي على هذا أن لا يجوز الإيماء قائما ; لأن تجويز ترك فرض الستر إنما كان لأجل تكميل الأركان الثلاثة والمومئ بهما قائما لم يحرزهما على وجه الكمال مع أن القيام إنما شرع لتحصيلهما على وجه الكمال على ما صرحوا به في صلاة المريض أنه لو قدر على القيام دون الركوع والسجود أومأ قاعدا وسقط عنه القيام وفي المبتغى بالمعجمة وإن كان عنده قطعة يستر بها أصغر العورات فلم يستر فسدت وإلا فلا وفي فتح القدير ولو وجد ما يستر بعض العورة يجب استعماله ويستر القبل والدبر . ا هـ .

فإن لم يجد ما يستر به إلا أحدهما قيل يستر الدبر ; لأنه أفحش في حالة الركوع والسجود وقيل يستر القبل ; لأنه يستقبل به القبلة ولأنه لا يستر بغيره والدبر يستر بالأليتين ا هـ .

كذا في السراج الوهاج وسيأتي في باب الإمامة أن العراة لا يصلون جماعة وفي الذخيرة وأستر ما يكون أن يتباعد بعضهم عن بعضهم إذا أمنوا العدو والسبع وإن صلوا جماعة صحت مع الكراهة ويقف الإمام وسطهم وإن تقدم جاز ويغضون أبصارهم سوى الإمام ، ثم المصنف رحمه الله لم يذكر أن على العاري الإعادة إذا وجد ثوبا ، وقد أفاد النووي رحمه الله في شرح المهذب أنه لا خلاف بين المسلمين أنه لا تجب عليه الإعادة إذا صلى عاريا للعجز عن السترة . ا هـ .

وينبغي أن تلزمه الإعادة عندنا إذا كان العجز لمنع من العباد كما إذا غصب ثوبه لما صرحوا به في كتاب التيمم أن المنع من الماء إذا كان من قبل العباد يلزمه الإعادة ، ثم اعلم أنه إذا كان عاريا لا ثوب له وهو يقدر على شراء ثوب هل يلزمه شراؤه كالماء إذا كان يباع بثمن المثل وله ثمنه فإنه لا يتيمم .


( قوله : فهذا نص على جواز الإيماء قائما ) وفي شرح الشيخ إسماعيل قال ونقل عن فتاوى الزاهدي أنه يصلي قائما يومئ بالركوع والسجود ومقتضى ما في المنبع أن عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله التخيير بين الإيماء قائما وقاعدا وتبعه ابن مالك وفي المفتاح أومأ القائم أو ركع أو سجد القاعد جاز . ا هـ .

قلت : وما في النهر من قوله وظاهر الرواية منعه فالظاهر أنه تحريف من الناسخ والأصل وظاهر الهداية كما عبر في البحر ويدل عليه قول النهر بعد كما مر عن الهداية تنبه .

والحاصل على هذا أنه مخير بين خمسة أشياء صلاته به قائما بركوع وسجود ثم عريانا قاعدا مومئا ثم عريانا قاعدا بركوع وسجود ثم عريانا قائما بركوع وسجود ثم عريانا قائما مومئا والأفضلية ينبغي أن تكون على هذا الترتيب . ( قوله : وينبغي أن يكون الرابع دون الثالث في الفضل ) مراده بالرابع الإيماء قائما وبالثالث ما ذكره بقوله وبين أن يصلي قائما عريانا بركوع وسجود وسماه رابعا ; لأنه المقصود من نقل عبارة ملتقى البحار زيادة على الثلاثة التي ذكرها أولا وليشير إلى ما فيها من الخلاف نعم عبارة الملتقى تفيد صورة أخرى غير ما ذكره أولا وهي صلاته [ ص: 289 ] عريانا قاعدا يركع ويسجد ولم أر من ذكر مرتبتها في الفضيلة وينبغي أن تكون فوق القيام عريانا بركوع وسجود كما قدمناه ; لأن الستر فيها أبلغ تأمل .

( قوله : وفي الأسرار قول محمد أحسن ) نظر فيه في فتح القدير فراجعه . ( قوله : بخلاف ما لو لم يجد إلا جلد ميتة إلخ ) يعني أن الخلاف في النجاسة العارضة لا الأصلية فلا يجوز الستر بذلك اتفاقا كما في النهر لكن في كون نجاسة جلد الميتة أصلية نظر بل هي عارضة بالموت تأمل . ( قوله : وبهذا علم أن التفصيل المتقدم إلخ ) قال في النهر : لأنه لا أثر لتحرك الطرف في الآخر هنا إذ الظاهر منه أن يبلغ ربعا تحتم لبسه سواء تحرك أو لا أو أقل منه خير إلا عند محمد رحمه الله على ما علمت نعم المناسب حمل الإطلاق على قوله . ( قوله : قياسا على المتيمم إذا كان يرجو الماء في آخره ) أقول : تقدم أنه لو وعد بالماء يجب عليه الانتظار وإن فات الوقت فينبغي قياس الثوب عليه إذ هو أقرب وذلك يقتضي ترجيح قول محمد رحمه الله ثم رأيت بعض الفضلاء قال الظاهر ما عن محمد ، فإن فيه قياس الموعود على الموعود تأمل [ ص: 290 ]

( قوله : وتعقبه في شرح المنية إلخ ) واختار تقييد ما قاله بعض المشايخ بما إذا كان بحضرة الناس ( قوله والذي يظهر إلخ ) ذكره ابن أمير حاج في شرح المنية وفيه نظر ظاهر إذ لا شك أن من جلس كهيئة المتشهد تبدو عورته الغليظة حالة الإيماء للركوع والسجود أكثر مما إذا جلس ومقعدته على الأرض مادا رجليه فإنه لا يحصل منه إلا انكشاف يسير حالة الإيماء وفي مد رجليه زيادة ستر على ما إذا جلس متربعا ولذا قال في شرح المنية الكبيران ما في الذخيرة أولى لزيادة الستر فيه وهو المذكور في شروح الهداية وغيرها قلت : وعليه مشى الزيلعي وكذا في السراج والدرر فتدبر . ( قوله : ولقائل أن يقول إلخ ) يوافقه ما مر عن ظاهر الهداية في المقولة التي قبل هذا أقول : وهذا البحث مأخوذ من شرح المنية للمحقق ابن أمير حاج .

( قوله : قيل يستر الدبر ; لأنه أفحش إلخ ) قال في النهر الظاهر أن الخلاف في الأولوية ومقتضى تعليل الأول أنه لو صلى قاعدا بالإيماء تعين ستر القبل . ( قوله : وينبغي أن تلزمه الإعادة عندنا إلخ ) وافقه عليه في النهر لكن قال الشيخ إسماعيل يمكن تأييد الإطلاق بأن طهارة الحدث لما كانت لا تسقط ولا بعذر كما سبق جرى فيها التفصيل لأهميتها بخلاف ستر العورة فإنه يسقط بالعذر كما ترى فليتأمل . ا هـ .

وفيه بحث لما مر من أن الأصح أن مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة وحينئذ فقد استويا في السقوط بالعذر فاضمحل الفرق .

( قوله : هل يلزمه شراؤه كالماء إلخ ) كذا في بعض النسخ وفي بعضها بدون هل فمقتضى النسخة الأولى أنه لم ير نصا في ذلك ويوافقها ما سبق له من التردد في باب التيمم على ما في بعض النسخ أيضا ولكن قدمنا هناك نقل مسألة عن السراج وأن فيها قولين وبه يعلم ما في قول النهر ولو قدر عليه بثمن مثله لم يذكروه وينبغي أن يلزمه قياسا على شراء الماء . ا هـ .

ونبهنا عليه فيما مر ثم رأيت في متن مواهب الرحمن جزم بأن الثوب كالماء

التالي السابق


الخدمات العلمية