البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله وبإيفائها واستفتائها إلا في حد وقود ) أي يصح التوكيل بإيفاء جميع الحقوق واستيفائها إلا بالحدود والقصاص لأن كلا منها يباشره الموكل بنفسه فيملك التوكيل به بخلاف الحدود والقصاص فإنها تندرئ بالشبهات والإيفاء من أوفيت به إيفاء وأوفيته حقه ووفيته إياه بالتثقيل كذا في المصباح والمراد به هنا دفع عليه والاستيفاء والتوفي بمعنى واحد كما في المصباح والمراد به هنا القبض فكأنه يقول : صح التوكيل بدفع ما عليه ويقبض ماله أما الأول فمن مسائله قالوا : لو وكله بقضاء الدين فجاء الوكيل وزعم قضاءه وصدقه موكله فيه فلما طالبه وكيله برد ما قضاه لأجله قال الموكل : أخاف أن يحضر الدائن وينكر قضاء وكيلي ويأخذه مني ثانيا لا يلتفت إلى قول الموكل ويؤمر بالخروج عن حق وكيله فإذا حضر الدائن وأخذ من الموكل يرجع الموكل على الوكيل بما دفعه إليه وإن كان صدقه بالقضاء وفي كتاب الحوالة أمره بقضاء دينه فقال : قضيت وصدقه الآمر فيه ثم حلف الدائن على عدم وصوله إليه وأخذه من الآمر لا يرجع المأمور على الآمر لأن الآمر كذب في إقراره حيث قضى عليه بالدين لأن الإقرار إنما يبطل بالحكم على خلافه إذا كان الحكم بالبينة أما بغيرها فلا .

والصحيح أنه يعلل لعدم رجوع المأمور على الآمر بأن المأمور وكيل بشراء ما في ذمة الآمر بمثله ونقد الثمن من مال نفسه وإنما يرجع على الآمر إذا سلم له ما في ذمته كالمشتري إنما يؤمر بتسليم الثمن إلى الآمر إذا سلم للآمر ما اشترى أما إذا لم يسلم فلا وذكر القدوري أن رب الدين يرجع على المأمور والمأمور يرجع على المديون بما قضى قال : قضيت دينك بأمرك لفلان فأنكر كونه مديون فلان وأمره وقضاه أيضا والدائن غائب فبرهن المأمور على الدين والأمر والقضاء يحكم بالكل لأن الدائن وإن كان غائبا لكنه عنه خصم حاضر فإن المدعي على الغائب سبب لما يدعي على الحاضر لأنه ما لم يقض دينه لا يجب له عليه شيء وبينهما اتصال أيضا وهو الأمر وبعد السببية والاتصال ينتصب خصما ولو قال : لا تدفع الدين إلا بمحضر فلان ففعل بلا محضره ضمن كذا في البزازية ولو ادعى الوكيل أنه دفع بمحضره أو قال : لا تدفع إلا بشهود فادعى دفعه بشهود وأنكر الدائن القبض حلف الوكيل أنه دفع بشهود فإذا حلف لم يضمن كذا في كافي الحاكم .

ولو قال : ادفعه بشهود فدفع بغيرهم لم يضمن وأما الثاني أعني الوكيل بقبض الدين فيقبل قوله في قبضه وضياعه ودفعه إلى الموكل ويبرأ الغريم ولو كان ممن لا تقبل شهادته للوكيل بخلاف إقراره بقبض الطالب ولو وجب على الوكيل بالقبض مثله لمديون موكله وقعت المقاصة وكان الوكيل مديون الموكل ولا يملك الوكيل بقبضه الإبراء والهبة وأخذ الرهن وملك أخذ الكفيل بخلاف الوكيل بالبيع حيث ملك الكل وليس للوكيل بالقبض قبول الحوالة ويصح التوكيل بالقبض والقضاء بلا رضا الخصم ولا ينعزل بموت المطلوب وينعزل بموت الطالب فلو زعم الوكيل قبضه وتسليمه إلى الطالب حال حياته لم يصدق بلا حجة فإن [ ص: 147 ] احتال الطالب بالمال بعد التوكيل على إنسان ليس للوكيل أن يطالب المحيل والمحتال فلو توى المال على المحال عليه وعاد الدين على المحيل فالوكيل يملك الطلب ولو كان بالمال كفيل أو أخذ الطالب كفيلا بعد التوكيل ليس للوكيل أن يتقاضى الكفيل وللوكيل بالقبض قبض بعضه إلا إذا نص على أن لا يقبض إلا الكل معا ا هـ ما في البزازية .

والحاصل أن الوكيل بقبض الدين يخالف الوكيل بالبيع وقبض الثمن في مسائل فلو كفل الوكيل بقبض الثمن المشتري صحت ولو كفل الوكيل بالبيع لم تصح كما في الخانية وتقبل شهادة الوكيل بقبض الدين به على المديون كما في شهادات البزازية بخلاف الوكيل بالبيع ولو باع الوكيل وقبض الثمن ثم رد المبيع بعيب بعدما دفع الثمن للموكل فللمشتري مطالبة الوكيل بخلاف الوكيل بقبض الثمن لا مطالبة عليه كما في القنية ولا يصح إبراء الوكيل بالقبض ولا حطه ولا أخذه الرهن ولا تأجيله ولا قبول الحوالة بخلاف الوكيل بالبيع وقوله إلا في حد وقود استثناء منهما لكن في الإيفاء على إطلاقه وفي الاستيفاء مقيد بما إذا كان الموكل غائبا وأما إذا كان حاضرا وأمر باستيفائه فإنه يجوز كذا في شرح الطحاوي وعلله في غاية البيان باحتمال العفو المندوب إليه بخلاف حال حضرته لانعدام الشبهة وبخلاف حال غيبة الشهود حيث يستوفيان حال غيبتهم وإن كان رجوعهم محتملا لأن الظاهر عدمه احترازا عن الكذب والفسق ولم يذكر المؤلف التوكيل بإثباتهما لدخولهما تحت قوله وبالخصومة في الحقوق لأن التوكيل بإثباتهما هو التوكيل بالخصومة فيهما واختلف فيه فما ذكرناه من الجواز قول الإمام وخالف أبو يوسف نظرا إلى مجرد النيابة ورد عليه بأنه لا تأثير لها وإلا لم يجز حكم نائب القاضي فيهما وقول محمد مضطرب وعلى هذا الاختلاف التوكيل بالجواب من جانب عليه وفي غاية البيان ولكن لا يصح إقرار الوكيل على موكله بأن قال : قتل موكلي القتيل الذي يدعيه الولي لشبهة عدم الأمر بذلك .


( قوله فمن مسائله قالوا : لو وكله بقضاء الدين ) أي وكله بأن يدفع الوكيل من مال نفسه إلى دائن الموكل وكذا في المسألة الآتية عن كتاب الحوالة أما لو دفع إليه دراهم وقال له : اقض بها ديني الذي لزيد فادعى الوكيل الدفع إلى زيد الدائن وكذبه كل من الموكل والدائن فالقول للوكيل في براءة نفسه بيمينه والقول للدائن في إنكاره القبض بيمينه أيضا كما في فتاوى قارئ الهداية ( قوله لا يرجع المأمور على الآمر ) أي لا يرجع بما قضاه بمال نفسه .

( قوله ولو قال : لا تبع إلا بمحضر فلان إلخ ) قال في التتارخانية في أواخر الفصل الحادي عشر عازيا للمحيط : نوع آخر فيما إذا حصل التوكيل بشرط ما يجب اعتباره وما لا يجب الأصل في هذا النوع أن الموكل إذا شرط على الوكيل شرطا مفيدا من كل وجه بأن كان ينفعه من كل وجه فإنه يجب على الوكيل مراعاة شرطه أكده بالنفي أو لم يؤكده بيانه فيما إذا قال : بعه بخيار فباعه بغير خيار لا يجوز وإن شرط في العقد شرطا لا يفيد أصلا بأن كان لا ينفعه بوجه بل يضره لا يجب على الوكيل مراعاته أكده الموكل بالنفي أو لم يؤكده بيانه فيما إذا قال : بعه بألف نسيئة أو قال : لا تبعه إلا بألف نسيئة فباعه بألف نقدا يجوز على الآمر فإذا شرط شرطا يفيد من وجه ولا يفيد من وجه بأن كان ينفع من وجه ولا ينفع من وجه إن أكده بالنفي يجب مراعاته وإن لم يؤكده لا يجب مراعاته بيانه فيما إذا قال : بعه في سوق كذا فباعه في سوق آخر فإن لم يؤكده بالنفي بأن لم يقل إلا في سوق كذا فباعه في سوق آخر ينفذ على الآمر وإن أكده بالنفي لا ينفذ على الآمر ا هـ .

وتمام التفاريع فيها فراجعها ( قوله فلو زعم الوكيل قبضه وتسليمه إلى الطالب إلخ ) قال في الأشباه : كل أمين ادعى إيصال الأمانة إلى مستحقها قبل قوله كالمودع والوكيل والناظر إلا في الوكيل بقبض [ ص: 147 ] الدين إذا ادعى بعد موت الموكل أنه قبضه ودفعه له في حياته لم يقبل إلا ببينة بخلاف الوكيل بقبض العين والفرق في الولوالجية . ا هـ .

وأقول : تعقبه الشرنبلالي أخذا من كلام الولوالجية وغيرها من كتب المذهب بأن دعوى الوكيل الإيصال تقبل لبراءته بكل حال .

وأما سراية قوله على موكله ليبرأ غريمه فهو خاص بما إذا ادعى الوكيل حال حياة موكله وأما بعد موته فلا تثبت براءة الغريم إلا ببينة أو تصديق الورثة إلى آخر ما ذكره في الرسالة المسماة بمنة الجليل في قبول قول الوكيل كذا في حاشية أبي السعود قلت وللعلامة المقدسي أيضا رسالة في هذه المسألة ذكرها الشرنبلالي في مجموعة رسائله عقب الرسالة التي ألفها واستشهد على ما ادعاه فارجع إلى تلك الرسالتين فقد أشبعا الكلام فيهما جزاهما الله تعالى خيرا

التالي السابق


الخدمات العلمية