البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( فصل في صلح الورثة )

( ولو أخرجت الورثة أحدهم عن عرض أو عقار بمال أو عن ذهب بفضة أو على العكس صح قل أو كثر ) حملا على المبادلة لا إبراء إذ هو عن الأعيان باطل كذا أطلق الشارحون هنا والذي تعطيه عبارات الكتب المشهورة التفصيل فإن كان الإبراء عنها على وجه [ ص: 261 ] الإنشاء فإما أن يكون عن العين أو عن الدعوى بها فإن كان عن العين فهو باطل من جهة أن له الدعوى بها على المخاطب وغيره صحيح من جهة الإبراء عن وصف الضمان ولهذا قال في الذخيرة قالوا إن عبدا في يد رجل لو قال له رجل برئت منه كان بريئا منه ولو قال أبرأتك منه كان له أن يدعيه وإنما أبرأه من ضمانه ا هـ .

وإن كان عن الدعوى فإن كان بطريق الخصوص كما إذا أبرأه عن دعوى هذه العين فإنه لا تسمع دعواه بالنسبة إلى المخاطب وتسمع بالنسبة إلى غيره ولهذا قال الولوالجي في فتاويه قبيل كتاب الإقرار رجل ادعى على رجل دارا أو عبدا ثم قال المدعي للمدعى عليه أبرأتك عن هذه الدار أو عن خصومتي في هذه الدار أو في دعواي في هذه الدار فهذا كله باطل حتى لو ادعى ذلك تسمع ولو أقام البينة تقبل بخلاف ما إذا قال برئت لا تقبل بينته بعده وكذلك إذا قال أنا بريء من هذا العبد أو خرجت فليس له أن يدعي بعده لأن أبرأتك عن خصومتي في هذه الدار خاطب الواحد فله أن يخاصم غيره بخلاف قوله برئت لأنه أضاف البراءة إلى نفسه مطلقا فيكون هو بريئا . ا هـ .

وإن كان بطريق التعميم فله الدعوى على المخاطب وغيره ولهذا قال في القنية افترق الزوجان وأبرأ كل واحد منهما صاحبه عن جميع الدعاوى وللزوج أعيان قائمة لا تبرأ المرأة منها وله الدعوى لأن الإبراء إنما ينصرف إلى الديون لا الأعيان ا هـ .

وإن كان الإبراء على وجه الإخبار كقوله هو بريء مما لي قبله فهو صحيح متناول للدين والعين فلا تسمع الدعوى وكذا إذا قال لا ملك لي في هذه العين ذكره في المبسوط والمحيط فعلم أن قوله لا أستحق قبله حقا مطلقا ولا استحقاقا [ ص: 262 ] ولا دعوى يمنع الدعوى بحق من الحقوق قبل الإقرار عينا كان أو دينا قال في المبسوط ويدخل في قوله لا حق لي قبل فلان كل عين أو دين وكل كفالة أو جناية أو إجارة أو حد فإن ادعى الطالب بعد ذلك حقا لم تقبل بينته عليه حتى يشهدوا أنه بعد البراءة لأن بهذا اللفظ استفاد على العموم ا هـ .

ولا يشترط في صلح أحد الورثة المتقدم أن تكون أعيان التركة معلومة لكن إن وقع الصلح عن أحد النقدين بالآخر يعتبر التقابض في المجلس غير أن الذي في يده بقية التركة إن كان جاحدا يكتفى بذلك القبض لأنه قبض ضمان فينوب عن قبض الصلح وإن كان مقرا غير مانع يشترط تجديد القبض ولو صالحوه عن النقدين وغيرهما بأحد النقدين لا يصح الصلح ما لم يعلم أن ما أعطوه أكثر من نصيبه من ذلك الجنس إن كانوا متصادقين وإن أنكروا وراثته جاز مطلقا بشرط التقابض فيما يقابل النقد منه وإن لم يعلم قدر نصيبه من ذلك الجنس فالصحيح أن الشك إن كان في وجود ذلك في التركة جاز الصلح وإن علم وجود ذلك في التركة لكن لا يدري أن بدل الصلح من حصتها أقل أو أكثر أو مثله فسد كذا في فتاوى قاضي خان .

ولو كان بدل الصلح عرضا جاز مطلقا ولو كان نقدين جاز مطلقا بشرط التقابض في المجلس ولو كان في التركة دين على الناس فأخرجوه ليكون الدين لهم بطل وإن شرطوا أن يبرأ الغرماء منه صح ولو كان على الميت دين يحيط بطل الصلح والقسمة إلا أن يضمن الوارث الدين بشرط أن لا يرجع في التركة أو يضمن أجنبي بشرط براءة الميت أو يؤدوا دينه من مال آخر وإن لم يكن مستغرقا صح الصلح والقسمة ويرفعون منها قدر الدين حتى لا يحتاجون إلى نقض القسمة والأولى أن لا يفعلوا ذلك حتى يقضوا الدين فإذا أخرجوا واحدا فحصته تقسم بين البقية على السواء إن كان ما أعطوه من مالهم غير الميراث وإن كان مما ورثوه فعلى قدر ميراثهم وقيده الخصاف بأن يكون عن إنكار أما إذا كان عن إقرار فهو بينهم على السواء مطلقا وصلح أحدهم عن بعض الأعيان صحيح وصلح أحدهم عن دعوى أجنبي حقا في التركة مع غيبة البقية جائز ويكون متبرعا في حصة شركائه كالأجنبي وإن كان صالح على أن يكون حق المدعي له دون غيره فهو جائز فإن أثبته سلم له وإلا بطل الصلح في حصة الشركاء ويرجع على المدعي بحصة ذلك من البدل والموصى له بمنزلة الوارث فيما قدمناه وإذا صالحوا أحدهم ثم ظهر للميت دين أو عين لم يعلموها هل يكون داخلا في الصلح فيه قولان مذكوران في فتاوى قاضي خان قدم أنه لا يكون داخلا ويكون ذلك الدين والعين بين جميع الورثة وقد ذكر في أول الفتاوى أنه يقدم ما هو الأشهر فكان هو المعتمد وعلى قول من يقول بالدخول فإن كان الظاهر دينا فله الصلح كأنه وجد في الابتداء وإن كان عينا لا ولو ادعت الزوجة ميراثها صح الصلح على أقل من نصيبها أو مهرها ولا يطيب لهم إن علموا ذلك فإن أقامت بينة بطل الصلح


[ ص: 261 ] ( قوله ولهذا قال في الذخيرة إلخ ) وفي الخانية الإبراء عن العين المغصوبة إبراء عن ضمانها وتصير أمانة في يد الغاصب وقال زفر لا يصح الإبراء وبرئ من ضمان قيمتها ا هـ .

وفي الخلاصة أقام البينة على إبرائه عن المغصوب لا يكون إبراء عن قيمة المغصوب وإنما هو إبراء عن ضمان الرد لا عن ضمان القيمة لأن حال قيامه الرد واجب عليه لا قيمته فكان إبراء عما ليس بواجب ا هـ .

يعني : ليس بواجب الآن حال قيام العين حتى إذا منعها بعد الطلب أو استهلكها بعد الإبراء ضمن وفي الأشباه قولهم الإبراء عن الأعيان باطل معناه لا تكون ملكا له بالإبراء وإلا فالإبراء عنها لسقوط الضمان صحيح أو يحمل على الأمانة . ا هـ . ( قوله حتى لو ادعى ذلك تسمع ) أي لو ادعاها على غير المخاطب بقرينة التعليل الآتي .

والحاصل أنه إذا كانت البراءة على طريق الخصوص أي عن دعوى عين مخصوصة فإن أضاف البراءة عن العين إلى المخاطب لا تسمع دعواه بها عليه وتسمع على غيره وإن أضافها إلى نفسه لا تسمع الدعوى على أحد .

( قوله وإن كان بطريق التعميم ) عطف على قوله فإن كان بطريق الخصوص يعني إنشاء الإبراء عن دعوى الأعيان إن كانت بطريق التعميم لا تصح مثل أن يقول أبرأتك عن كل دعوى فهذا شامل للعين وغيرها فله الدعوى على المخاطب وغيره بالعين بخلاف ما إذا أبرأه عن دعوى عين مخصوصة فلا يدعي بها على المخاطب ولا يخفى عليك أنه حيث صح إبراء المخاطب عن دعوى العين المخصوصة ينبغي أن يصح أيضا إبراؤه عنها في صيغة التعميم إذ لا فرق يظهر بل قد يدعي الأولوية في التعميم كيف وهو مخالف لقولهم الإبراء عن دعوى الأعيان صحيح بخلاف الإبراء عن الأعيان نفسها وفي القنية لو أبرأه بعد الصلح عن جميع دعاويه وخصوماته صح وإن لم يحكم بصحة الصلح . ا هـ .

ونحوه في حاوي الحصيري وأما ما نقله المؤلف عن القنية مستشهدا به على مدعاه فيمكن تأويله لأن عبارة القنية في المداينات هكذا افترق الزوجان وأبرأ كل واحد منهما صاحبه عن جميع الدعاوى وكان للزوج بذر في أرضها وأعيان قائمة فالحصاد والأعيان القائمة لا تدخل في الإبراء عن جميع الدعاوى ا هـ .

وتأويله أن هذا مبني على أحد قولين والمرجح خلافه أو على أن الزوجة مقرة بالحصاد والأعيان بأنها للزوج فلهذا قال لا تدخل في الإبراء يعني أنها لا تصير ملكا للزوجة وتؤمر بدفعها للزوج يؤيد ذلك ما في البزازية والخلاصة أبرأ المستأجر الآجر عن كل الدعاوى ثم أدرك الزرع فجاء المستأجر بعد ما رفع الآجر الغلة وادعى الغلة قيل تسمع والأشبه أنه لا تسمع ولو رفع الآجر الغلة أولا ثم أبرأه المستأجر عن الدعاوى لا تسمع دعواه وهذا إذا جحد الآجر أن يكون الزرع للمستأجر وإن مقرا أنه للمستأجر يؤمر بالدفع إليه ا هـ .

فإن كانت الزوجة منكرة فهو مبني على خلاف الأشبه وإن كانت مقرة فلا إشكال ويؤيد أنها مقرة بذلك قوله وكان للزوج بذر وأعيان إلخ فإنه يدل على أنها مسلمة لذلك وإلا كان مقتضى التعبير أن يقال وادعى الزوج بذرا وأعيانا إلخ فتدبر ذلك .

( قوله فعلم أن قوله لا أستحق قبله حقا مطلقا إلخ ) يشير إلى أن هذا من الإبراء على وجه الإخبار المتناول للدين والعين لكن يرد عليه ما نقله الإمام الأسروشني في آخر كتاب أحكام الصغار عن المنتقى حيث قال رجل أوصى إلى رجل ومات فدفع الوصي إلى الوارث ميراثه وكل شيء كان له في يديه من تركة أبيه وأشهد الابن على نفسه أنه قبض منه جميع تركة والده فلم يبق من تركة والده قليل ولا كثير إلا وقد استوفاه ثم ادعى بعد ذلك دارا في يد هذا الوصي وقال هذه من تركة والدي تركها ميراثا ولم أقبضها قال فهو على حجته وأقبل بينته وأقضي بها له . ا هـ .

ومثله في فصل الدعوى من أدب الأوصياء معزيا إلى المنتقى والخانية والعتابية وقد استشكل هذا الفرع العلامة الطرسوسي بأن قوله ولم يبق لي شيء نكرة في سياق [ ص: 262 ] النفي فتعم فيكون بالدعوى متناقضا وأجاب عنه ابن وهبان بأن اعترافه بأنه لم يبق له حق يمكن حمله على ما قبضه يعني لم يبق لي حق مما قبضته ا هـ .

وهو بعيد كما لا يخفى وأجاب عنه ابن الشحنة بجواب آخر بأنه إنما تسمع دعواه استحسانا لا قياسا لقوة الشبهة لعدم معرفته بما يستحقه من جهة والده لجهله بمعرفة ما لو لوالده على جهة التفصيل فاستحسنوا سماع دعواه هنا بخلاف ما إذا كان مثل هذا الإشهاد مجردا عن سابقة الجهل المذكور ا هـ .

فهذه المسألة خارجة عن قولهم لا تسمع الدعوى بعد الإبراء العام ولذ استثناها المؤلف في الأشباه والنظائر من هذه القاعدة لكن ينبغي على ما قاله ابن الشحنة أنه لو اعترف باطلاعه على مفردات تركة والده وأصولها وإحاطتهن بها علما كما يكتب الآن في وثيقة الإقرار أن لا تسمع دعواه هذا .

وأما ما قاله العلامة الشرنبلالي بأن هذا إقرار لغير معين لا إبراء لمعين فلا يمنع صحة الدعوى حيث لم يخاطب معينا والإقرار لمجهول باطل وبأن الإبراء عن الأعيان باطل فصح دعواه الدار ونحوها ا هـ . ملخصا .

ففيه نظر أما أولا فلأن قوله إنه إقرار لغير معين فإنما يرد على ما في الأشباه أما على ما نقلناه عن أحكام الصغار وأدب الأوصياء فلا لأن المخاطب فيه الوصي فهو معين وأما ثانيا فلأن الإبراء عن الأعيان باطل إذا لم يكن في ضمن الإبراء العام أو الإقرار العام على ما ذكره المؤلف هنا وما في مسألتنا إن لم يكن إبراء عاما يكن إقرارا عاما فيمنع الدعوى للتناقض فيتعين الجواب بما قاله ابن وهبان أو بما قاله ابن الشحنة والله أعلم لكن ذكر في جامع الفصولين أبرأه عن جميع الدعاوى فادعى عليه مالا بالإرث فلو مات مورثه قبل إبرائه لا تسمع دعواه وإن لم يعلم هو بموت مورثه عند إبرائه . ا هـ .

ومثله في الخلاصة والبزازية وكذا في الفواكه البدرية لابن الغرس حيث قال لو أبرأه مطلق أو أقر أنه لا يستحق عليه شيئا ثم ظهر بعد ذلك أن المقر له كان قبل الإبراء أو الإقرار مشغول الذمة بشيء من متروكات أبي المقر ولم يعلم المقر بذلك ولا بموت أبيه إلا بعد الإقرار والإبراء لا يكون له المطالبة بذلك ويعمل الإقرار والإبراء عمله ولا يعذر المقر ا هـ .

فهذا كما ترى مخالف لما تقدم إلا أن يحمل على أن هذا هو القياس والاستحسان ما مر أو على أن في المسألة قولين أو على أن ما مر في إبراء بعض الورثة للوصي أو لباقي الورثة وهذا في إبراء بعض الورثة لأجنبي ( قوله حتى يشهدوا أنه بعد البراءة ) هذا دليل على أن قوله لا حق لي يسمى إبراء عاما

التالي السابق


الخدمات العلمية