البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله هي آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور ليست من الفاتحة ولا من كل سورة ) بيان للأصح من الأقوال كما في المحيط وغيره ورد للقولين الآخرين : أحدهما : أنها ليست قرآنا ، وهو قول بعض مشايخنا لاختلاف العلماء والأخبار فيها فأورث شبهة ، ثانيهما : أنها من الفاتحة ومن كل سورة ونسب إلى الشافعي ، ووجه الأصح إجماعهم على كتابتها مع الأمر بتجريد المصحف ، وقد تواترت فيه ، وهو دليل تواتر كونها قرآنا وبه اندفعت الشبهة للاختلاف ، وإنما لم يحكم بكفر منكرها ; لأن إنكار القطعي [ ص: 331 ] لا يوجب الكفر إلا إذا لم يثبت فيه شبهة قوية ، فإن ثبتت فلا ، كما في البسملة فالموجب لتكفير من أنكر القرآن إنكار ما تواتر كونه قرآنا ، وأما البسملة فبما تواترت في المصحف ثبتت قرآنيتها وبتواتر كونها قرآنا في الأوائل لم يكفر جاحدها ، فالتواتر المعتبر في القرآن تواتره في محله والمعتبر في التكفير تواتر كونه قرآنا ، وبهذا اندفع ما قيل من الإشكال في التسمية ، وهو أنها إن كانت متواترة لزم تكفير منكرها ولم يتكافروا فيها ، وإن لم تكن متواترة فليست قرآنا ، وأشار بقوله ( آية ) إلى أنها في القرآن آية واحدة يفتح بها كل سورة وعند الشافعي آيات في السورة والخلاف في غير البسملة التي في سورة النمل أما هي فبعض آية اتفاقا ومما استدل به لمذهبنا حديث { قسمت الصلاة بيني وبين عبدي فإذا قال الحمد لله } إلى آخره فإنه لم يذكر البسملة فدل أنها ليست من الفاتحة وحديث عد سورة الملك ثلاثين آية وهي ثلاثون دونها والكلام في البسملة طويل بين الأئمة ، واستفيد من كلام المصنف أنه يحرم قراءتها على الجنب والحائض وقيده في المحيط وغيره بأن يقرأ على قصد القرآن ، ومقتضى كونها قرآنا أن تحرم على الجنب إلا إذا قصد الذكر أو التيمن ، وفي المجتبى الأصح أنها آية في حق حرمتها على الجنب لا في حق جواز الصلاة بها فإن فرض القراءة ثابت بيقين فلا يسقط بما فيه شبهة ، وكذا في المحيط .


( قوله وإنما لم يحكم إلخ ) عبارته في شرحه على المنار أوضح مما هنا ، ونصها : وقد اختلف في البسملة والحق أنها من القرآن لكن لم يكفر جاحدها مع إنكار القطعي للشبهة القوية بحيث يخرج بها كونها من القرآن من حيز الوضوح إلى حيز الإشكال فهي قرآن لتواترها في محلها ولا كفر لعدم تواتر كونها في الأوائل قرآنا .

والحاصل أن الموجب لتكفير جاحده إنكار ما تواتر في محله وما تواتر كونه قرآنا والمعتبر في إثبات القرآنية الأول فقط ، انتهت ، وقد ظهر أن قوله هنا بتواتر كونها قرآنا صوابه بعدم تواتر إلخ كما لا يخفى ، وقد رأيته ملحقا في بعض النسخ . هذا و اعلم أن في كلامه في البحر اضطرابا وذلك أنه ذكر أولا في وجه الأصح أن تواترها في المصحف دليل تواتر قرآنيتها ، وأن بذلك اندفعت الشبهة في قرآنيتها ومعلوم أن تواترها في أوائل السور ، وقد حكم بأن ذلك دليل تواتر قرآنيتها ، واللازم من ذلك تواتر كونها قرآنا في الأوائل ، ثم حكم بأن فيها شبهة فناقض صدر كلامه ، وكذلك قوله فالموجب لتكفير من أنكر القرآن إنكار ما تواتر كونه قرآنا مناقض لما قبله من إثبات تواتر كونها قرآنا ، وكذا قوله : وبتواتر كونها قرآنا إلخ مناقض لقوله : فالموجب إلخ وعلى نسخة وبعدم تواتر مناقض لقوله : وهو دليل تواتر كونها قرآنا كما لا يخفى والصواب في تقرير هذا المحل ما ذكره المحقق ابن الهمام في كتابه التحرير ، وهو أن القطعي إنما يكفر منكره إذا لم تثبت فيه شبهة قوية كإنكار ركن وهنا قد وجدت وذلك لأن من أنكرها كمالك ادعى عدم تواتر كونها قرآنا في الأوائل وأن كتابتها فيها لشهرة استنان الافتتاح بها في الشرع والآخر يقول إجماعهم على كتابتها مع أمرهم بتجريد المصاحف يوجب كونها قرآنا والاستنان لا يسوغ الإجماع لتحققه في الاستعاذة ، والأحق أنها من القرآن لتواترها في المصحف ، وهو دليل كونها قرآنا ولا نسلم توقف ثبوت القرآنية على تواتر الأخبار بكونها قرآنا بل الشرط فيما هو قرآن تواتره في محله فقط ، وإن لم يتواتر كونه في محله من القرآن ا هـ .

وقوله ولا نسلم رد لما [ ص: 331 ] تضمنه كلام المنكر من أن تواترها في محلها لا يستلزم قرآنيتها بل لا بد من تواتر الأخبار بكونها قرآنا .

والحاصل أن تواترها في محلها أثبت أصل قرآنيتها ، وأما كونها قرآنا متواترا فهو متوقف على تواتر الأخبار به ولذلك لم يكفر منكرها بخلاف غيرها لتواتر الأخبار بقرآنيته ، وقد ظهر لك من هذا التقرير الشافي أن ما ذكره في شرح المنار صحيح موافق لما قلناه ، وأما ما ذكره هنا فلا لما علمت وتصحيحه بإسقاط قوله " تواتر " من قوله وهو دليل تواتر كونها قرآنا وبإسقاط قوله وبه اندفعت الشبهة وبزيادة لفظة " عدم " في قوله وبتواتر كونها قرآنا كما مر والله سبحانه ولي التوفيق

التالي السابق


الخدمات العلمية