البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
قال رحمه الله : ( ولو تهايآ في سكنى دار ، أو دارين أو خدمة عبد ، أو عبدين ، أو غلة دار ، أو دارين صح ) يحتاج إلى تفسيرها - لغة وشرعا - وشرطها وصفتها ودليلها وحكمها أما دليلها فقوله : تعالى { هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } ومن السنة فما روي { أنه عليه الصلاة والسلام قسم في غزوة بدر كل بعير بين ثلاثة نفر وكانوا يتناوبون في الركوب } واجتمعت الأمة على جوازها ولأن التهايؤ قسمة المنافع فيصار إليها لتكميل المنفعة لتعذر الاجتماع على عين واحدة فكان التهايؤ هنا جمعا للمنافع في زمان واحد ، وتفسيرها لغة فهي مأخوذة من التهيؤ وهو أن يهيئ كل واحد منهما لصاحبه ما شرط له ، وفي الشارح هي مشتقة من الهيئة وهي الحالة الظاهرة للتهيؤ للشيء ، وإبدال الهمزة ألفا فيها والتهايؤ تفاعل منها وهو أن يتوافقوا على أمر فيتراضوا به وحقيقته أن كلا منهم يرضى بهيئة واحدة ويختارها .

وأما تفسيرها شرعا فهي مبادلة معنى وليست بإقرار من كل وجه لأنها لا تجري في المثليات كالمكيل والموزون ، وأما شرطها أن تكون العين يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها ، وصفتها أنها واجبة إذا طلبها بعض الشركاء ولم يطلب الشريك الآخر قسمة الأصل وقد يكون بالزمان وقد يكون بالمكان ، وتكلم العلماء فقالوا : إن جرت في الجنس الواحد والمنفعة متساوية أو تفاوتا تفاوتا يسيرا فهي إقرار ، وإن جرت في الجنس المختلف كالدار والعبيد يعتبر مبادلة من كل وجه حتى لا يجوز من غير رضاهم ، وفي الكافي ولا يبطل التهايؤ بموت أحدهما ولا بموتهما . ا هـ .

ولو طلب أحد الشريكين القسمة والآخر المهايأة يقسم القاضي لأنه أبلغ ولو وقع التهايؤ فيما يحتمل القسمة ، ثم طلب أحدهما القسمة يقسم ويبطل التهايؤ لأنه أبلغ أما إذا تهايآ في سكنى دار واحدة على أن يسكن أحدهما بعضها والآخر البعض ، أو أحدهما العلو والآخر السفل جازت لأن القسمة على هذا الوجه جائزة فكذا التهايؤ وهو إقرار لا مبادلة لأنها لا تجوز في الجنس الواحد الربا .

وقيل هو إقرار من وجه ، عارية من وجه ولا يخفى أن كلا القولين مشكل لأن كل واحد منهما يترك ما له من المنفعة فيما أخذه صاحبه بعوض وهو الانتفاع بنصيب صاحبه فكيف يتصور أن يكون إقرارا في الكل ، أو عارية في البعض والعارية غير لازمة والمهايأة لازمة فإن قيل : جمع المنافع الشائعة في السن في بيت واحد محال لعدم جواز انتقال العرض من محل إلى محل آخر فكيف يمكن للقاضي جمعها فالجواب أن المراد ليس للقاضي أن يجمعها حقيقة حتى يتوجه ما ذكر بل المراد أن القاضي يعتبرهما جميعا ضرورة ا هـ .

والأوجه أنه إقرار من كل وجه في التهايؤ في المكان ولهذا لا يشترط التأقيت ، وفي المهايأة في الزمان إقرار من كل وجه ولو أشغل أحدهما نصيبه جاز شرط في المهايأة ، أو لم يشترط لأنه يجوز المهايأة في الاشتغال حال الانفراد فيجوز تبعا للمهايأة في السكنى كذا في المحيط ولو تهايآ في دارين جاز ويجبر الآبي عنها ويعتبر إفرازا كالأعيان المتفاوتة فلو وضع أحدهما في داره شيئا ، أو ربط فيها دابة فعثر به إنسان ومات لا يضمن ولو بنى ، أو حفر بئرا ضمن لأن الأول من مرافق السكنى حتى يملكه المستعير فلا يكون متعديا في نصيب شريكه فلا يضمن ، وفي البناء والحفر يكون متعديا في مقدار نصيب شريكه فيضمن ولا يضمن مقدار نصيبه ولو تهايآ في دارين على أن يسكن كل واحد منهما دارا ، أو يؤجرها ، وإن زادت غلة أحدهما لا يشارك الآخر في الفضل والفرق أن في الدارين أمكن تصحيح قسمة المنفعة حقيقة ولو تهايآ في الزمان في الخدمة عبدا جاز لأنها متعينة فيه لتعذر التهايؤ في المكان ، والبيت الصغير كالعبد ولو اختلفا في التهايؤ من حيث الزمان والمكان في محل يحتملهما يأمرهم القاضي بالاتفاق فإن اختاروا من حيث الزمان يقرع في البداية تطييبا لمعمره ونفيا للتهمة عن نفسه ولو تهايآ في عبدين على الخدمة جاز .

أما عندهما فظاهر لأن قسمة الرقيق جائزة عندهما [ ص: 180 ] فكذا المنفعة ، وأما عند الإمام فروي عنه أنها لا تجوز إلا بالتراضي لأن قسمة الرقيق لا يجري فيها الجبر عنده فكذا المهايأة والأصح أن القاضي يهايئ بينهما جبرا بطلب أحدهما لأن المنافع من حيث الخدمة قلما تتفاوت بخلاف أعيان الرقيق لأنها تتفاوت تفاوتا فاحشا على ما بينا ولو تهايآ على أن نفقة كل عبد على من يخدمه جاز استحسانا لأن العادة جرت بالتسامح فيها بخلاف كسوة المماليك لأنها لا تسامح فيها عادة وقيد بقوله " خدمة عبد " لأنه لا يجوز التهايؤ في غلة عبد واحد كذا في المحيط وقيد بقوله " خدمة عبدين " لأنهما لو تهايآ في غلتهما لم يجز عند الإمام وعندهما يجوز إذا استوت الغلتان ، لهما أن تفاوت العبدين في الغلة يسير فيجوز عند الاستواء بخلاف العبد الواحد فإنها فاحشة فإن العبد المستأجر في الشهر الأول يستأجر في الشهر الثاني بمثل ما استؤجر في الأول بل بزيادة ، وفي السراجية تحل بين شريكين اقتسما على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة ويثمرها جاز . ا هـ .

وفي المنتقى جاريتان بين رجلين تهايآ على أن ترضع هذه ابن هذه سنتين وترضع هذه ابن هذه سنتين جاز قالوا ولا يشبه هذا لبن البقر والإبل وعلل فقال ألبان الإنسان لا قيمة لها ولا تقسم وألبان البهائم تقسم ولها قيمة .

وفي الخانية رجلان تواضعا في بقرة على أن تكون عند كل واحد منهما خمسة عشر يوما يحلب لبنها كان باطلا ولا يحل فضل اللبن لأحدهما وإن جعله صاحبه في حل لأن هذا هبة المشاع فيما يقسم إلا أن يكون صاحب الفضل استهلك الفضل فإذا جعله صاحبه في حل كان إبراء عن الضمان فيجوز أما حال قيام الفضل يكون هبة ، أو إبراء عن العين وهو باطل ، وفي الكافي غنم بين اثنين واتفقا على أن يأخذ كل واحد منهما طائفة يرعاها وينتفع بألبانها لم يجز والحيلة أن يبيع حصته من الآخر ، ثم يشتري كلها بعد مضي نوبته أو ينتفع باللبن بالوزن المعلوم . ا هـ .

وفي الكافي ولو تهايآ في مملوكين استخداما فمات أحدهما ، أو أبق انتقضت المهايأة بخلاف ما إذا استخدمه شهرا إلا ثلاثة أيام لو أبق فيه ثلاثة أيام فإنه ينتقض ولو أبق أحد الخادمين في خدمة من شرط له الخادم ، أو انهدم الحائط فلا ضمان عليه . ا هـ .

ولو ولدت منه صارت أم ولد وانقضت المهايأة كذا في المحيط ولو كان بينهما عبد وأمة فتهايآ فيهما صح ذلك كذا في الأصل والتهايؤ في الركوب في دابة واحدة لا يجوز عند الإمام وعندهما يجوز وظاهر عبارة المؤلف أنه يشترط لصحة التهايؤ اتحاد المنفعة ، وفي المحيط ما يخالفه قال في المحيط ولو تهايآ في دار ومملوك على أن يسكن هذا الدار سنة والآخر يخدمه العبد سنة جاز استحسانا ا هـ .

التالي السابق


الخدمات العلمية