البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( مسائل شتى )

قد كانت عادة المصنفين أنهم يذكرون آخر الكتاب ما لم يذكر في الأبواب السابقة من المسائل استدراكا للفائت ويترجمون لتلك المسائل بمسائل شتى أو بمسائل منثورة فعمل المصنف هنا أيضا كذلك جريا على عادتهم ، وفي بعض النسخ مسائل شتى أي متفرقة وهو جمع شتيت وهو التفرق فإن قلت جاءني القوم شتى يكون نصبا على الحال أي متفرقين قال رحمه الله ( إيماء الأخرس وكتابته كالبيان بخلاف معتقل اللسان في وصيته ونكاح وطلاق وبيع وشراء وقود ) وقال الشافعي لا فرق بين معتقل اللسان والأخرس ، ولنا أن الإشارة إنما تقوم مقام العبارة إذا صارت معهودة وذلك في الأخرس دون معتقل اللسان حتى لو امتد ذلك وصارت إشارته معهودة صار بمنزلة الأخرس ، وقدر مدة الامتداد في المحيط بشهر وفي جامع الفصولين بستة أشهر وقدر التمرتاشي الامتداد بسنة وذكر الحاكم أبو محمد رواية عن أبي حنيفة فقال إذا دامت العقلة إلى وقت الموت يجوز إقراره بالإشارة ويجوز الإشهاد عليه ; لأنه عجز عن النطق بمعنى لا يرجى زواله فكان كالأخرس قال وعليه الفتوى وأطلق في الأخرس فشمل الأصلي والعارض والمراد الأصلي أما الوصية ; لأن التقصير جاء من قبله حيث أخر الوصية إلى هذا الوقت بخلاف الأخرس ; لأنه لا تفريط من جهته ولأن العارض على شرف الزوال دون الأصل فلا يقاس أحدهما على الآخر ، وإذا كان إيماء الأخرس وكتابته كالبيان وهو النطق باللسان تلزمه الأحكام بالإشارة والكتابة حتى يجوز نكاحه وطلاقه وعتقه وبيعه وشراؤه إلى غير ذلك من الأحكام ; لأن الإشارة تكون بيانا من القادر على النطق فالعاجز أولى ولأنه صلى الله عليه وسلم بين الشهر بالإشارة حيث قال { الشهر هكذا وأشار بأصابعه } قالوا والكتاب ممن يأتي بمنزلة الخطاب ممن ذكر أقول : فيه شيء وهو أن هذا يدل على بعض المدعي ولا يدل على بعضه الآخر بل يدل على خلافه فإن كتابة الأخرس حجة فيما سوى الحدود وليس بحجة في الحدود ، وهذا الدليل المذكور لا يدل على عدم كونها في الحدود إذ لا فرق فيه بين الحدود وما سواها بل يدل على كونها حجة في الحدود أيضا إذا كانت مستبينة مرسومة وهو بمنزلة النطق في الغائب والحاضر على ما قالوا ، فإنه إذا كان بمنزلة النطق في حق الحاضر أيضا لم يكن حجة ضرورة فينبغي أن يكون حجة في الحدود أيضا كما كان النطق حجة فيها فليتأمل في المخلص .

والدليل على أن الدلالة كالبيان هو أنه صلى الله عليه وسلم بلغ الرسالة بالكتاب كالخطاب فإذا كان خطابا في حق القادر ففي حق الأخرس أولى ; لأن عجزه ظاهر وألزم عادة ; لأن الغائب يقدر على الحضور بل يقدر ظاهرا والأخرس لا يقدر على نطق والظاهر بقاؤه على الدوام ، ثم الكتاب على ثلاثة مراتب مستبين ومرسوم وهو أن يكون معنونا أي مصدر بالعنوان وهو أن يكتب في صدره من فلان بن فلان على ما جرت به العادة في سير الكتب فيكون هذا كالنطق فيلزم حجة ومستبين غير مرسوم كالكتابة على الجدران وأوراق الأشجار أو على الكاغد لا على وجه الرسم فإن هذا يكون لغوا ; لأنه لا عرف في إظهار الأمر بهذا الطريق فلا يكون حجة إلا بانضمام شيء آخر إليه كالبينة والإشهاد عليه والإملاء على الغير حتى يكتبه ; لأن الكتابة قد تكون تجربة وقد تكون للتحقيق وبهذه الإشارة تتبين الجهة وقيل الإملاء من غير إشهاد لا يكون حجة والأول أظهر وغير مستبين كالكتابة على الهواء أو الماء وهو بمنزلة كلام غير مسموع ولا يثبت به شيء من الأحكام وإن نوى ، وقول المؤلف وقود وعلل في الهداية بأن القصاص فيه معنى العوضية ; لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر وليس فيها معنى العوضية فلا تثبت مع الشبهة لعدم الحاجة .

أقول : فيه بحث أما الأول فلأن ما ذكر ها هنا من جواز ثبوت القصاص مع الشبهة مخالف لما صرح به فيما مر في عدة مواضع منها كتاب الكفالة فإنه قال فيه ولا تجوز الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص عند أبي حنيفة ; لأن مبنى الكل على الدرء فلا يجب فيها الاستيثاق ومنها كتاب الشهادات فإنه قال فيه ولا تقبل في الحدود والقصاص شهادة النساء ; لأن شبهة البدلية لقيامها مقام شهادة الرجال فلا تقبل فيما يندرئ بالشبهات ثم قال في باب الشهادة الشهادة على الشهادة جائزة في [ ص: 545 ] كل حق لا يسقط بالشبهة ولا تقبل فيما يندرئ بالشبهات كالحدود والقصاص ومنها كتاب الوكالة حيث قال فيه وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق ، وكذا بإيفائها واستيفائها إلا في الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها مع غيبة الموكل عن المجلس ; لأنها تدرأ بالشبهات ، وكذا في كتاب الدعوى ومنها كتاب الجنايات فإنه صرح فيه في مواضع كثيرة منه بعدم ثبوت القصاص بالشبهة بل جعلها أصلا مؤثرا في سقوط القصاص وفرع عليه كثيرا من مسائل سقوط القصاص بتحقق نوع من الشبهة في كل واحدة منها لا يخفى على الناظر في تمام ذلك الكتاب ، وأما ثانيا فلأن قيد الخالصة في قوله أما الحدود الخالصة لله تعالى فشرعت زواجر مستدرك فإن حد القذف غير خالص لله تعالى بل فيه حق الله تعالى وحق العبد مقدم .

كما صرحوا به على أنه زاجر لا يثبت بالشبهة ولا تكون إشارة الأخرس حجة فيه أيضا كما صرحوا به لا يثبت بالشبهة فيما مر آنفا فلا يتم التفريق بالنظر إليه وقول المؤلف الإشارة والكتابة كالبيان دلت هذه المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة لأنه جمع بينهما فقال أشار وكتب قال صاحب العناية ولنا في دعوى الجميع بينهما نظر ; لأنه قال في الجامع الصغير وإذا كان الأخرس يكتب أو يومئ وكلمة أولا حد الشيئين لا للجمع على أنا نقول قال في الأصل وإن كان الأخرس لا يكتب وكانت له إشارة تعرف في نكاحه وطلاقه وشرائه وبيعه فهو جائز ويعلم من إشارة رواية الأصل أن الإشارة من الأخرس لا تعتبر مع القدرة على الكتابة ; لأنه تبين حكم إشارة الأخرس بشرط أن لا يكتب فافهم إلى هنا قال رحمه الله ( لا في حد ) يعني إشارته لا تكون كالبيان في الحدود لأنها تندرئ بالشبهة لكونها حق الله تعالى فلا حاجة إلى إثباتها ولعله كان مصدقا للقاذف إن قذف هو فلا يتيقن بطلبه الحد وإن كان هو القاذف فقذفه ليس بصريح والحد لا يجب إلا بالقذف بصريح الزنا ، وفي القصاص اعتبر طلبه ; لأنه حق العبد وهذا لأن الحد لا يثبت ببيان فيه شبهة .

ألا ترى أن الشهود لو شهدوا بالوطء الحرام أو أقر هو بالوطء الحرام لا يجب عليه الحد ولو شهدوا بالقتل المطلق أو أقر بمطلق القتل يجب عليه القصاص وإن لم يقر بالتعمد وهذا لأن القصاص فيه معنى المعاوضة ; لأنه شرع جابرا فجاز أن يثبت مع الشبهة كسائر المعاوضات التي هي حق العبد ، أما الحدود الخالصة حق الله تعالى جعلت زاجرة ليس فيها معنى البدلية أصلا فلا يثبت مع الشبهة لعدم الحاجة وذكر في كتاب الإقرار أن الكتاب من الغائب ليس بحجة في قصاص يجب عليه ويحتمل عليه أن يكون الجواب في الأخرس كذلك فيكون في الغائب والأخرس روايتان ويحتمل أن يكون مفارقا لذلك ; لأن الغائب يمكنه الوصول في الجملة فيعتبر بالنطق ولا كذلك الأخرس لتعذر وجود النطق في حقه للآفة التي به فدلت المسألة على أن الإشارة معتبرة وإن كان قادرا على الكتابة ، بخلاف ما ذكر بعض أصحابنا من أن الإشارة لا تعتبر مع القدرة على الكتابة قالوا : لأن الإشارة حجة ضرورية ولا ضرورة مع القدرة على الكتابة قلنا كل واحد منهما حجة ضرورية ففي الكتابة زيادة بيان لم توجد في الإشارة ; لأن قصد البيان في الكتابة معلومة حسا وعيانا ، وفي الإشارة زيادة أثر لم توجد في الكتابة ; لأن الأصل في البيان هو الكلام ; لأنه وضع له والإشارة أقرب إليه لأن العلم الحاصل بها حاصل بما هو مفصل بالتكلم وهو إشارته بيده أو برأسه صارت أقرب إلى النطق من آثار الأقلام فاستويا ولا يقدم على الآخر بل يخير ولهذا ذكره بكلمة أو التي للتخيير وقالوا فيمن صمت يوما أو يومين الحكم كالمعتقل اللسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية