البحر الرائق شرح كنز الدقائق

ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

صفحة جزء
( قوله وسن للجمعة والعيدين والإحرام وعرفة ) أي وسن الغسل لأجل هذه الأشياء أما الجمعة فلما روى الترمذي وأبو داود والنسائي وأحمد في مسنده والبيهقي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه وابن عبد البر في الاستذكار عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال { قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل } قال الترمذي حديث حسن صحيح أي فبالسنة أخذ ونعمت هذه الخصلة وقيل فبالرخصة أخذ ونعمت الخصلة هذه والأول أولى فإنه قال : وإذا اغتسل فالغسل أفضل فتبين أن الوضوء سنة لا رخصة كذا في الطلبة والضمير في فبها يعود إلى غير المذكور ، وهو جائز إذا كان مشهورا ، وهذا مذهب جمهور العلماء وفقهاء الأمصار ، وهو المعروف من مذهب مالك وأصحابه وما وقع في الهداية من أنه واجب عند مالك فقال بعض الشارحين : إنه غير صحيح ، فإنه لم يقل أحد بالوجوب إلا أهل الظاهر وتمسكوا بما رواه البخاري ومسلم من حديث عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من جاء منكم الجمعة فليغتسل } والأمر للوجوب .

وروى البخاري ومسلم من حديث الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم }

وقد أجاب الجمهور عنه بثلاثة أجوبة أحدها أن الوجوب قد كان ونسخ ودفع بأن الناسخ ، وإن صححه الترمذي لا يقوى قوة حديث الوجوب وليس فيه تاريخ أيضا فعند التعارض يقدم الموجب ثانيها أنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كما يفيده ما أخرجه أبو داود عن عكرمة أن ناسا من أهل العراق جاءوا فقالوا يا ابن عباس : أترى الغسل يوم الجمعة واجبا فقال : لا ولكنه طهور وخير لمن اغتسل ومن لم يغتسل فلا شيء عليه بواجب وسأخبركم كيف بدأ الغسل { كان الناس مجهودين يلبسون الصوف ويعملون على ظهورهم ، وكان مسجدهم ضيقا مقارب السقف إنما هو عريش فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار وعرق الناس في ذلك الصوف حتى ثارت منه رياح حتى أذى بعضهم بعضا فلما وجد عليه السلام تلك الرياح قال يا أيها الناس إذا كان هذا اليوم فاغتسلوا وليمس أحدكم أمثل ما يجد من دهنه وطيبه } قال ابن عباس ثم جاء الله بالخير ولبسوا غير الصوف وكفوا العمل ووسع مسجدهم وذهب بعض الذي كان يؤذي بعضهم بعضا من العرق وثالثها أن المراد بالأمر النسب وبالوجوب الثبوت شرعا على وجه الندب كأنه قال : واجب في الأخلاق الكريمة وحسن السنة بقرينة متصلة ومنفصلة أما المتصلة ، فهي أنه قرنه بما لا يجب اتفاقا كما رواه مسلم من حديث الخدري أنه عليه السلام قال { غسل الجمعة على كل محتلم ، والسواك والطيب ما يقدر عليه } ومعلوم أن الطيب والسواك ليسا بواجبين ، فكذلك الغسل

وأما قول أبي هريرة كغسل الجنابة ، فإنما أراد التشبيه في الهيئة والكيفية لا في كونه فرضا يدل عليه ما رواه الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا } ، وهذا نص في الاكتفاء بالوضوء ، وأما القرينة المنفصلة فهي قوله { ومن اغتسل فالغسل أفضل } ، وأما كون الغسل سنة للعيدين وعرفة فيما رواه ابن ماجه في سننه عن الفاكه بن سعد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل يوم الفطر ويوم النحر ويوم عرفة } ورواه الطبراني في معجمه والبزار في مسنده [ ص: 67 ] وزاد فيه يوم الجمعة ورواه أحمد في مسنده أيضا وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل يوم العيدين } ، وأما كونه سنة للإحرام فبما أخرجه الترمذي في الحج وحسنه عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه زيد بن ثابت أنه { رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل } وذهب بعض مشايخنا إلى أن هذه الأغسال الأربعة مستحبة أخذا من قول محمد في الأصل إن غسل الجمعة حسن قال في فتح القدير : وهو النظر ; لأنا إن قلنا بأن الوجوب انتسخ لا يبقى حكم آخر بخصوصه إلا بدليل والدليل المذكور يفيد الاستحباب ، وكذا إن قلنا بأنه من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته

وإن حملنا الأمر على الندب فدليل الندب يفيد الاستحباب إذ لا سنة دون مواظبته صلى الله عليه وسلم وليس ذلك لازم الندب ثم يقاس عليه باقي الأغسال ، وإنما يتعدى إلى الفرع حكم الأصل ، وهو الاستحباب ، وأما ما رواه ابن ماجه في العيدين وعرفة من حديثي الفاكه وابن عباس المتقدم ذكرهما فضعيفان قاله النووي وغيره ، وأما ما رواه الترمذي في الإهلال فواقعة حال لا تستلزم المواظبة فاللازم الاستحباب إلا أن يقال إهلاله اسم جنس فيعم لفظا كل إهلال صدر منه فثبتت سنية هذا الغسل ا هـ .

لكن قال تلميذه ابن أمير حاج والذي يظهر استنان غسل الجمعة لما عن عائشة رضي الله عنها { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع من الجنابة ويوم الجمعة وغسل الميت ومن الحجامة } رواه أبو داود وصححه ابن خزيمة والحاكم وقال على شرط الشيخين وقال البيهقي : رواته كلهم ثقات مع ما تقدم ، فإن هذا الحديث ظاهره يفيد المواظبة وما تقدم يفيد جواز الترك من غير لوم ، وبهذا القدر تثبت السنة ثم اختلفوا فعند أبي يوسف الغسل في الجمعة والعيدين سنة للصلاة لا لليوم ; لأنها أفضل من الوقت ، وعند الحسن لليوم إظهارا لفضيلته هكذا في كثير من الكتب ، وفي بعض الكتب كما نقله في المعراج ذكر محمد مكان الحسن وقالوا الصحيح قول أبي يوسف وتظهر ثمرة الاختلاف فيمن لا جمعة عليه هل يسن له الغسل أو لا وفيمن اغتسل ثم أحدث وتوضأ وصلى به الجمعة لا يكون له فضل غسل الجمعة عند أبي يوسف خلافا للحسن وفيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب فعند أبي يوسف لا وعند الحسن نعم كذا ذكر الشارحون والمنقول في فتاوى قاضي خان في باب صلاة الجمعة أنه لو اغتسل بعد الصلاة لا يعتبر بالإجماع ، وهو الأولى فيما يظهر لي ; لأن سبب مشروعية هذا الغسل لأجل إزالة الأوساخ في بدن الإنسان اللازم منها حصول الأذى عند الاجتماع ، وهذا المعنى لا يحصل بالغسل بعد الصلاة والحسن رحمه الله

وإن كان يقول هو لليوم لا للصلاة لكن بشرط أن يتقدم على الصلاة ولا يضر تخلل الحدث بين الغسل والصلاة عنده وعند أبي يوسف يضر وفي الكافي للمصنف وخلاصة الفتاوى تظهر فائدة الخلاف فيما لو اغتسل قبل الصبح وصلى به الجمعة نال فضل الغسل عند أبي يوسف وعند الحسن لا وتعقب الزيلعي الحسن بأنه مشكل جدا ; لأنه لا يشترط وجود الاغتسال بما سن الاغتسال لأجله ، وإنما يشترط أن يكون متطهرا بطهارة الاغتسال ألا ترى أن أبا يوسف لا يشترط الاغتسال في الصلاة ، وإنما يشترط أن يصليها بطهارة الاغتسال ، فكذا ينبغي أن يكون هنا متطهرا بطهارته في ساعة من اليوم عند الحسن لا أن ينشئ الغسل فيه ا هـ .

وأقره عليه في فتح القدير ، وقد يقال إن ما استشهد به بقوله ألا ترى إلى آخره لا يصلح للاستشهاد ; لأن ما سن الاغتسال لأجله عند الحسن ، وهو اليوم يمكن إنشاء الغسل فيه فلو قيل باشتراطه أمكن بخلاف ما سن الاغتسال لأجله عند أبي يوسف ، وهو الصلاة لا يمكن إنشاء الغسل فيها فافترقا لكن المنقول في فتاوى قاضي خان من باب صلاة الجمعة أنه إن اغتسل [ ص: 68 ] قبل الصبح وصلى بذلك الغسل كانت صلاة بغسل عند الحسن وفي معراج الدراية لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة استن بالسنة لحصول المقصود ، وهو قطع الرائحة ا هـ . ولم ينقل خلافا

وينبغي أن لا تحصل السنة عند أبي يوسف لاشتراطه أن لا يتخلل بين الغسل والصلاة حدث والغالب في مثل هذا القدر من الزمان حصول حدث بينهما ، ولا تحصل السنة أيضا عند الحسن على ما في الكافي وغيره أما على ما في الكافي فظاهر

وأما على ما في غيره ; فلأنه يشترط أن يكون متطهرا بطهارة الاغتسال في اليوم لا قبله ، ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو عرفة وجامع ثم اغتسل ينوب عن الكل كذا في معراج الدراية ثم في البدائع يجوز أن يكون غسل عرفة على هذا الاختلاف أيضا يعني أن يكون للوقوف أو لليوم كما في الجمعة قال ابن أمير حاج والظاهر أنه للوقوف ، وما أظن أحدا ذهب إلى استنانه ليوم عرفة من غير حضور عرفات وفي المنبع شرح المجمع ، فإن قلت هل يتأتى هذا الاختلاف في غسل العيد أيضا قلت يحتمل ذلك ولكني ما ظفرت به ا هـ .

قلت والظاهر أنه للصلاة أيضا ، ويشهد له ما صح في موطإ مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو ا هـ .

وعبارة المجمع أولى من عبارة المصنف حيث قال : وفي عرفة ليبين أنه لا ينال السنة إلا إذا اغتسل في نفس الجبل بخلاف عبارة المصنف ، فإنها صادقة بما إذا اغتسل خارجه لأجله ثم دخله . .


[ ص: 66 - 67 ] ( قوله : وتعقب الزيلعي الحسن بأنه مشكل جدا إلخ ) قال في النهر ما في الكافي مسطور في الخلاصة وعزاه في النهاية إلى مبسوط شيخ الإسلام وإذ قد ثبت أن الرواية عن الحسن كذلك فالأولى صرف النظر في إبداء وجهها ولا مانع أن يقال إنما اشترط إيقاع الغسل فيه إظهارا لشرفه ومزيد اختصاصه عن غيره كعرفة على ما يأتي ، وإنما لم يشترط للثاني إيقاعه في الصلاة للمنافاة نعم في الخانية أنه يقال أيضا عند الحسن فيجوز أن عنه روايتين ا هـ .

ولا يخفى ما في صدر كلامه لإيهامه أن كلام الزيلعي في ثبوت الرواية ، وليس كذلك بل إشكاله في كلام الحسن بعد ثبوته [ ص: 68 ] ( قوله : قال ابن أمير حاج ) أي في الحلية على المنية قال العلامة المقدسي في شرحه على نظم الكنز أقول : ولا يستبعد أن يقول أحد بسنيته لليوم لفضيلته حتى لو حلف بطلاق امرأته في أفضل أيام العام تطلق يوم عرفة ذكره ابن ملك في شرح المشارق وقد وقع السؤال عن ذلك في هذه الأيام ودار بين الأقوام وكتب بعضهم بأفضلية يوم الجمعة والعقل بخلافه . ا هـ .

( قوله : قلت والظاهر أنه للصلاة أيضا ) قال في النهر أقول : في الدرر لمنلا خسرو ما لفظه ويسن لصلاة جمعة ولعيد قال المصنف في شرحه أعاد اللام لئلا يفهم كونه سنة لصلاة العيد ، وهذا صريح في أنه لليوم فقط ، وذلك ; لأن السرور فيه عام فيندب فيه التنظيف لكل قادر عليه صلى أم لا ا هـ .

أقول : نقل القهستاني عن التحفة أن غسل العيدين فيه خلاف أبي يوسف والحسن .

التالي السابق


الخدمات العلمية