صفحة جزء
قلت : فإن وهبها هذا الغاصب لرجل وهو لا يعلم بالغصب ، أو علم به فاغتل هذه الأشياء الموهوبة له ، أو أخذ كراءها ثم استحقها رجل ؟ فقال : الكراء للذي استحقها إن كان الموهوب له علم بالغصب ، كانت الغلة التي اغتل مردودة إلى الذي استحقها ، وإن كان لم يعلم بالواهب له أنه غصب هذه الأشياء نظر ، فإن كان الغاصب الذي غصب هذه الأشياء مليا ، كان غرم ما اغتل هذا الموهوبة له هذه الأشياء على الغاصب إذا كان مليا ، وإذا لم يكن للواهب مال ، كان على الموهوب له أن يرد جميع الغلة . بمنزلة ما لو أن رجلا اغتصب ثوبا أو طعاما فوهبها لرجل ، فأكله أو لبس الثوب فأبلاه ، أو كانت دابة فباعها وأكل ثمنها ، ثم استحقت هذه الأشياء . فإن كان عند الواهب مال أغرم وأسلم للموهوب له هبته إذا لم يعلم بأن الواهب كان غاصبا ، وهذا إذا فاتت في يد الموهوب ، وإن لم يكن للواهب مال أغرم الموهوب له ، وهذا مثل الأول .

قال ابن القاسم : ألا ترى [ ص: 198 ] أن الغاصب نفسه ، لو اغتل هذا العبد أو أخذ كراء الدار ، كان لازما له أن يرد جميع الغلة والكراء إلى مستحق الدار . فلما وهب هذه الأشياء فأخذها هذا الموهوب له بغير ثمن ، فكأنه هو الغاصب نفسه في غلتها وكرائها إذا لم يكن للواهب مال .

ألا ترى لو أن الغاصب مات فتركها ميراثا ، فاستغلها ولده ، كانت هذه الأشياء وغلتها للمستحق ؟ فكذلك الموهوبة له هذه الأشياء ، لا يكون أحسن حالا من الوارث فيها إذا لم يكن للغاصب الواهب مال . أولا ترى لو أن رجلا ابتاع قمحا أو ثيابا أو ماشية ، فأكل القمح ولبس الثياب فأبلاها وذبح الماشية فأكلها ، ثم استحقها رجل أن يغرم المشتري ثمن ذلك كله ، ولا يوضع عنه لاشترائه في سوق المسلمين ، وإنما يوضع عنه ما كان من الحيوان مما هلك في يديه أو دارا احترقت أو انهدمت ; لأنه كان ضامنا لثمنها ومصيبتها منه ، وإن كانت هذه الحنطة والثياب لم يأكلها ولم يبلها حتى أتت عليها جائحة من السماء فذهبت بها ، وله على ذلك البينة ، فلا شيء عليه . فكما كان من اشترى في سوق المسلمين طعاما أو ثيابا أو ماشية فأكلها أو لبسها لم يضع الشراء عنه الضمان ، فكذلك الموهوب له حين وهب له ما ليس هو لمن وهبه له ، إنما اغتصبه واستغله الموهوب له ، لم يكن له ضمان لثمن أخرجه فيه ، كان عليه أن يؤدي ما استغل إذا لم يكن للغاصب الواهب مال ; لأنه أخذ هذه الأشياء بغير ثمن . ومما يبين لك ذلك ، أن الغلة للذي استحق هذه الأشياء ، إن كان وهبها هذا الغاصب .

ولو أن عبدا نزل بلدا من البلدان ، فادعى أنه حر ، فاستعانه رجل فبنى له دارا أو بيتا ، أو وهب له مال فأتى سيده فاستحقه ، أنه يأخذ قيمة عمل غلامه في تلك الدار والبيت إذا كان الشيء له بال ، إلا أن يكون الشيء الذي لا بال له ، مثل سقي الدابة وما أشبهه ، ويأخذ جميع ماله الذي وهب له ، إن كان أكله الموهوب له أو باعه فأخذ ثمنه فعليه غرمه ، إلا أن تكون هذه الأشياء تلفت من يد الموهوب له من غير فعله قد علم ذلك فلا غرم عليه .

قلت : ولم لا يكون الضمان على الموهوب له هذه الأشياء إذا تلفت عنده ، وقد جعلت أنت الغلة للمستحق ; لأنك قلت : الموهوب له في الغلة بمنزلة الغاصب إذا لم يكن للواهب مال ; لأن الغاصب لو اغتل هذه الأشياء أخذ الغلة المستحق منه لهذه الأشياء ، فجعلت الموهوبة له بمنزلة الغاصب في الغلة إذا لم يكن للواهب مال ، فلم لا يكون الموهوبة له هذه الأشياء ، بمنزلة الغاصب إذا لم يكن للغاصب مال في التلف ; لأنك تقول في الغاصب لو تلفت هذه الأشياء عنده بموت أو تلفت من غير فعله كان عليه الضمان ؟ فلم لا يكون ذلك على الموهوب له هذه الأشياء إذا لم يكن للغاصب مال ؟

قال : لأن الموهوبة له هذه الأشياء لم يتعد والغاصب قد تعدى حين غصبها ، إلا أن يكون الموهوبة له هذه الأشياء قد علم بالغصب ، فقبلها وهو يعلم بالغصب فتلفت عنده ، أنه يضمن ; لأنه مثل الغاصب أيضا . [ ص: 199 ]

قلت : أرأيت ما اشتريت من الدور والأرضين والحيوان والثياب وجميع ما يكرى ، وله الغلة أو نخل فأثمرت عندي ، فاستحق جميع ذلك مني رجل أقام البينة ، أن البائع غصبه ، ما قول مالك فيه ؟

قال : قال مالك : الغلة للمشتري بالضمان .

قلت : وجعل مالك ثمر النخلة بمنزلة غلة الدور والعبيد ، جعل ذلك للمشتري ؟ قال : نعم .

قلت : فإن وهب الغاصب هذه الأشياء هبة فاغتلها هذا الموهوبة له ، أتكون غلتها للمستحق ؟ قال : نعم ، ولا تطيب الغلة له ; لأنه لم يؤد في ذلك ثمنا .

قلت : أتحفظه عن مالك ؟

قال : لا أقوم على حفظ قول مالك في الهبة الساعة ، ولا أشك أن الغلة للمستحق إذا كانت في يدي هذا بهبة من الغاصب بحال ما وصفت لك ، ويعطى هذا الموهوبة له هذه الأشياء قيمة عمله فيها وعلاجه .

قلت : ما فرق ما بين الهبة وبين البيع ؟

قال : لأن في البيع تصير له الغلة إلى الضمان ، والهبة ليس فيها ضمان .

قلت : وما معنى الضمان ؟

قال : معنى الضمان ، أن الذي اشترى هذه الأشياء ، وإن اشتراها من غاصب إذا لم يعلم أنه غاصب ، أن هذه الأشياء إذا تلفت في يدي المشتري بشيء من أمر الله ، كانت مصيبتها من المشتري وتلف الثمن الذي أعطى فيها ، والموهوب له ليس بهذه المنزلة إن تلفت هذه الأشياء من يديه لم يتلف له فيها شيء من الثمن ، فإنما جعلت الغلة للمشتري بالثمن الذي أدى في ذلك . وكانت الغلة له بالضمان بما أدى منها . والموهوب له لا تطيب له الغلة ; لأنه لم يؤد في ذلك شيئا إذا لم يكن للغاصب مال .

التالي السابق


الخدمات العلمية