صفحة جزء
[ ص: 207 ] 61 - باب

تخفيف الإمام في القيام وإتمام الركوع والسجود

670 702 - حدثنا أحمد بن يونس ، ثنا زهير ، ثنا إسماعيل ، سمعت قيسا قال : أخبرني أبو مسعود ، أن رجلا قال : والله يا رسول الله ، إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعظة أشد غضبا منه يومئذ ، ثم قال : ( إن منكم منفرين ، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز ؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ) .


في هذا الحديث : أن الإمام مأمور بالتخفيف خشية الإطالة على من خلفه ؛ فإنه لا يخلو بعضهم من عذر كالضعيف والكبير وذي الحاجة .

وهذا يدل على أن الأمر بالتخفيف إنما يتوجه إلى إمام يصلي في مسجد يغشاه الناس .

قال حنبل بن إسحاق : قال أبو عبد الله - يعني : أحمد - : إذا كان المسجد على قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلي ، فإن كان مسجدا يعتزل أهله ويرضون بذلك فلا بأس ، وأرجو إن شاء الله .

وقالت طائفة : على الإمام أن يخفف بكل حال .

ورجحه ابن عبد البر ، قال : لأنه وإن علم قوة من خلفه ، فإنه لا يدري ما يحدث بهم من آفات بني آدم ، وذكر أن تطويل الإمام غير جائز ، وأنه يلزمه التخفيف .

وقال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 208 ] في صلاته ، قال : ( وكان قيامه وركوعه وسجوده وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء ) : ما تفسير ذلك ؟ فقال : أحب إلي أن يخفف ، ولا يشق على من خلفه ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التخفيف أحاديث .

قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا : قد يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل ذلك في نفسه إذا كان مصليا ، وقد أمر أئمته بالتخفيف ، فيتوجه الحديثان على معنيين .

كذا قال ، وفيه نظر ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف ويوجز ويتم الصلاة ، فلم يكن يفعل خلاف ما أمر به الأئمة .

وليس في حديث أبي مسعود الذي خرجه هاهنا ما يدل على ما بوب عليه من تخفيف القيام وإتمام الركوع والسجود ، وقد خرج فيما بعد حديث أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوجز ويتم .

وقد رويت أحاديث في التخفيف مع إتمام الركوع والسجود ، وهي مطابقة لترجمة هذا الباب ، لكن ليست على شرط هذا ( الكتاب ) .

فخرج الإمام أحمد من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ، قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم أصل خلف إمام كان أوجز منه صلاة في تمام الركوع والسجود .

ومن حديث عدي بن حاتم ، قال : من أمنا فليتم الركوع والسجود ؛ فإن فينا الضعيف والكبير والمريض والعابر السبيل وذا الحاجة ، هكذا كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 209 ] وخرجه الطبراني ، ولفظه : أن عدي بن حاتم خرج إلى مجلسهم ، فأقيمت الصلاة فتقدم إمامهم ، فأطال الصلاة والجلوس ، فلما انصرف قال : من أمنا منكم فليتم الركوع والسجود ؛ فإن خلفه الصغير والكبير والمريض وابن السبيل وذا الحاجة ، فلما حضرت الصلاة تقدم عدي فأتم الركوع والسجود ، وتجوز في الصلاة ، فلما انصرف قال : هكذا كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم .

وخرج الطبراني وغيره من حديث نافع بن خالد الخزاعي ، حدثني أبي - وكان من أصحاب الشجرة - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى والناس ينظرون صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود .

فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس فإنه يخفف عنهم ، وإذا صلى لنفسه يطول .

وفي ( مسند الإمام أحمد ) عن أبي واقد الليثي ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم أخف الناس صلاة بالناس ، وأطول الناس صلاة لنفسه .

فالصلاة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بالناس هي التخفيف الذي أمر به غيره ، وإنما أنكر على من طول تطويلا زائدا على ذلك ، فإن معاذ بن جبل كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة صلاة العشاء ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤخرها كثيرا ، كما سبق ذكره في ( المواقيت ) ، ثم ينطلق إلى قومه في بني سلمة فيصلي بهم ، وقد استفتح حينئذ بسورة البقرة ، فهذا هو الذي أنكره على معاذ .

ويشهد لهذا : حديث ابن عمر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بالتخفيف ، وإن كان ليؤمنا بالصافات .

خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة في ( صحيحه ) .

[ ص: 210 ] والمراد : أن التخفيف المأمور به هو ما كان يفعله ، ومن كان يفهم أنه كان يفعل خلاف ما أمر به - كما أشعر به تبويب النسائي - فقد وهم .

وفي ( صحيح مسلم ) عن سماك ، قال : سألت جابر بن سمرة عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء ، قال : وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر ب : ق والقرآن المجيد ونحوها من السور .

وخرجه الحاكم ، ولفظه : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي نحوا من صلاتكم ، ولكنه كان يخفف الصلاة ، كان يقرأ في الفجر بالواقعة ونحوها من السور .

فصرح بأن تخفيفه هو قراءته بهذه السورة .

وروى عبد الجبار بن العباس ، عن عمار الدهني ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيمي ، قال : كان أبي ترك الصلاة معنا ، قال : إنكم تخففون .

قلت : فأين قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن فيكم الكبير والضعيف وذا الحاجة ؟ ) فقال : قد سمعت عبد الله بن مسعود يقول ذلك ، ثم صلى ثلاثة أضعاف ما تصلون
.

خرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) والطبراني .

وروى مالك بن مغول ، عن الحكم ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، أنه كان يتخلف عن الصلاة ، فقيل له ، فقال : إنكم تخففون ، فقيل : أليس قد كان يؤمر بذلك ؟ قال : إن الذي كان عليهم خفيفا عليكم ثقيل .

واعلم ؛ أن التخفيف أمر نسبي ، فقد تكون الصلاة خفيفة بالنسبة إلى ما هو أخف منها ، فالتخفيف المأمور به الأئمة هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله إذا أم ، فالنقص منه ليس بتخفيف مشروع ، والزيادة عليه إن كان مما فعله الخلفاء الراشدون كتطويل القراءة في صلاة الصبح ، على ما كان يفعله - أحيانا - أبو بكر [ ص: 211 ] وعمر فليس بمكروه ، نص عليه الإمام أحمد وغيره ، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى .

وقال الشافعي في ( الأم ) : أحب أن يبدأ الراكع فيقول : سبحان ربي العظيم - ثلاثا - ، ويقول كل ما حكيت عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله - يعني : حديث علي - قال : وكل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ركوع أو سجود أحببت أن لا يقصر عنه ، إماما كان أو منفردا ، وهو تخفيف لا تثقيل . انتهى كلامه .

فقد كان حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من تخفيف الصلاة من الأئمة تخفيفا ، وقد حكي ذلك عن أهل الكوفة ، وحدث من يطيل الصلاة على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إطالة زائدة ، وكان ذلك في أهل الشام وأهل المدينة - أيضا - ، وكان السلف ينكرون على الطائفتين ، وقد ذكرنا إنكار يزيد التيمي - وكان من أعيان التابعين - على من خفف الصلاة من أئمة الكوفة ، وكان ابن عمر وغيره ينكرون على من أطال الصلاة إطالة زائدة على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .

ففي ( مسند الإمام أحمد ) عن عطية ، عن ابن عمر ، قال : سجدة من سجود هؤلاء مثل ثلاث سجدات من سجود النبي صلى الله عليه وسلم .

وعن حيان البارقي ، قال : قيل لابن عمر : إن إماما يطيل الصلاة .

فقال : ركعتين من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخف - أو مثل ركعة - من صلاة هذا
.

[ ص: 212 ] وروى ابن أبي عاصم في ( كتاب السنة ) من رواية سالم بن حذلم ، قال : رآني ابن عمر أصلي ، فلما انصرفت قال لي : ممن أنت ؟ قلت : من أهل الشام ، قال : إنكم أهل الشام تصلون الصلاة وتكثرون من الدعاء ، وإني لم أصل خلف أحد أخف صلاة في تمام من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي ( المسند ) عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، قال : رأيت أبا هريرة صلى صلاة تجوز فيها ، فقلت له : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ؟ قال : نعم ، وأوجز .

وفي رواية : ( أو أوجز ) .

وفي رواية - أيضا - : قال : وكان قيامه قدر ما ينزل المؤذن من المنارة ويصل إلى الصف .

وفي بعض الروايات لهذا الحديث : أن أبا هريرة كان يؤم الناس بالمدينة فيخفف .

وفي ( المسند ) - أيضا - : عن أنس بن مالك ، قال : لقد كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة لو صلاها أحدكم اليوم لعبتموها عليه ، فقال له رجل : ألا تذكر ذلك لأميرنا - والأمير يومئذ عمر بن عبد العزيز - ؟ فقال : قد فعلت .

وفي رواية في غير ( المسند ) بعد قوله : ( لعبتموها عليه ) : ( يعني : في التخفيف ) .

[ ص: 213 ] وروي عن عمر بن الخطاب ، قال : -أيها الناس- ، لا تبغضوا الله إلى عباده ، فقال قائل منهم : وكيف ذلك ؟ قال : يكون الرجل إماما للناس ، يصلي بهم ، فلا يزال يطول عليهم حتى يبغض إليهم ما هم فيه .

خرجه ابن عبد البر .

التالي السابق


الخدمات العلمية