صفحة جزء
[ ص: 267 ] 78 - باب

المرأة تكون وحدها صفا

694 727 - حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا سفيان ، عن إسحاق ، عن أنس بن مالك ، قال : صليت أنا ويتيم في بيتنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمي خلفنا : أم سليم .


دل هذا الحديث على أن المرأة إذا صلت مع الرجال ، ولم تجد امرأة تقف معها قامت وحدها صفا خلف الرجال .

وهذا لا اختلاف فيه بين العلماء ؛ فإنها منهية أن تصف مع الرجال ، وقد كانت صفوف النساء خلف الرجال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ولهذا قال ابن مسعود : أخروهن من حيث أخرهن الله .

خرجه وكيع وغيره .

ولا يعلم في هذا خلاف بين العلماء ، إلا أنه روي عن أبي الدرداء ، أن الجارية التي لم تحض تقف مع الرجال في الصف .

فأما إن وجدت امرأة تقف معها ، ثم وقفت وحدها ، فهل تصح صلاتها حينئذ ؟ فيه لأصحابنا وجهان .

أحدهما : لا تصح ، وهو ظاهر كلام أبي بكر الأثرم ، وقول القاضي أبي يعلى في ( تعليقه ) وصاحب ( المحرر ) ، إلحاقا للمرأة بالرجل ، مع القدرة على المصافة .

والثاني : تصح ، وهو قول صاحب ( الكافي ) أبي محمد المقدسي ، وهو ظاهر تبويب البخاري ؛ لأن المرأة تكون وحدها صفا ، ولا تحتاج إلى من يصافها ، وكذا قال الإمام أحمد في رواية حرب : المرأة وحدها صف .

[ ص: 268 ] وقد استدل طائفة من العلماء بصلاة المرأة وحدها على صحة صلاة الرجل النفل ، وهذا جمع بين ما فرقت السنة بينه ؛ فإن السنة دلت على صحة صلاة المرأة وحدها خلف الصفوف ، ونهت الرجل عن ذلك ، فأمرته بالإعادة ، على ما يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .

وأقرب من هذا قول من قال : إن صلاة الرجل خلف الصفوف وحده إذا تعذر عليه من يصافه تصح إلحاقا لها بصلاة المرأة وحدها إذا لم تجد من يصافها ، كما قاله بعض المتأخرين من أصحابنا ، ولكن المذهب خلافه .

واستدل - أيضا - بحديث أنس هذا على أن الإمام إذا كان خلفه رجلان أو صبيان قاما خلفه ، وهذا قول جمهور العلماء .

وكان ابن مسعود يرى أن الاثنين يقومان مع الإمام عن يمينه وشماله .

خرجه مسلم بإسناده عنه .

وخرجه أبو داود والنسائي ، عنه ، مرفوعا .

وقال ابن عبد البر : لا يصح رفعه .

فمن العلماء من قال : نسخ ذلك ؛ لأن ابن مسعود قرنه بالتطبيق في حديث واحد ، والتطبيق منسوخ ، فكذلك القيام .

ومنهم من تأوله على أنه فعله لضيق المكان ، روي ذلك عن ابن سيرين ، وفيه نظر .

ومنهم من تأوله على أن ابن مسعود فعل ذلك بعلقمة والأسود حيث فاتتهم الجمعة ، وقصد إخفاء الجماعة للظهر يوم الجمعة ، وعلى ذلك حمله الإمام أحمد في رواية إسحاق بن هانئ ، وفعله - أيضا - مع صاحبين له في مسجد من المساجد .

[ ص: 269 ] ومنهم من تأوله على أن علقمة كان غلاما ، فلم ير ابن مسعود للأسود أن يصافه في الفريضة ، وعلى ذلك حمله الإمام أحمد في رواية أخرى عنه ، نقلها عنه ابنه عبد الله والميموني وغيرهما .

وحمل أحمد حديث أنس هذا في مصافته لليتيم على أن الصلاة كانت نفلا ، والرجل يجوز له أن يصافف الصبي في النفل خاصة .

وقد خرج هذا الحديث أبو داود من حديث ثابت ، عن أنس ، وفيه : فصلى بنا ركعتين تطوعا .

وقد سبق الكلام عليه مستوفى في ( باب : الصلاة على الحصير ) .

وقال الإمام أحمد - مرة أخرى - : قلبي لا يجسر على حديث إسحاق ، عن أنس ؛ لأن حديث موسى خلافه ، ليس فيه ذكر اليتيم .

قال أبو حفص البرمكي من أصحابنا : حديث إسحاق الذي فيه ذكر اليتيم .

وحديث موسى خرجه مسلم من طريق شعبة ، عن عبد الله بن المختار ، سمع موسى بن أنس يحدث ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه - أو خالته - ، قال : فأقامني عن يمينه ، وأقام المرأة خلفنا .

وخرج مسلم - أيضا - من طريق سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا ، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي ، فقال : ( قوموا فلأصلي بكم ) في غير وقت صلاة ، فصلى بنا ، فقال رجل لثابت : أين جعل أنسا منه ؟ قال : جعله عن يمينه .

وخرجه أبو داود من طريق حماد بن سلمة ، عن ثابت ، وقال فيه : فأقامني عن يمينه وأم حرام خلفنا .

[ ص: 270 ] وفي رواية له : قال ثابت : لا أعلمه إلا قال : أقامني عن يمينه .

وقد رجح الدارقطني وغيره وقف الحديث على أنس ، وأنه هو الذي أقام ثابتا عن يمينه .

وفي الجملة ؛ فللعلماء في هذه الأحاديث ، عن أنس مسلكان :

أحدهما : تعارضهما ، وترجيح رواية موسى بن أنس عنه ؛ لموافقته لحديث ابن عباس وغيره .

والثاني : أنهما قضيتان متغايرتان ، وهو مسلك ابن حبان وغيره .

وأجاز أحمد مصافة الرجل للصبي في النفل دون الفرض ، كما قال ذلك في إمامته بالرجال في إحدى الروايتين عنه .

ومن أصحابنا من قال : يصح مصافته في الفرض والنفل .

ومنهم من قال : لا يصح فيهما ، وحمل كلام أحمد على أن النفل يصح فيه صلاة الفذ خلف الصفوف ، وهذا بعيد .

واستدل بعض من يرى صحة صلاة الفذ بمصافة أنس لليتيم ، ذكره الترمذي في ( جامعه ) ، ثم رده بأنه لو كان الصبي لا صلاة له لأقام أنسا عن يمينه .

ويحتمل - أيضا - أن يكون أنس حينئذ كان صبيا لم يبلغ الحلم ، أو أن الذي صلى معه كان بالغا ، وسمي يتيما تعريفا له بما كان عليه ، كما يقال : أبو الأسود يتيم عروة .

وأكثر العلماء على أن الرجل يصح أن يصاف الصبي ، وهو قول الثوري .

وقال الأوزاعي : إن كان الصبيان ممن نبت صف الرجل والصبيان خلف الإمام ، وإن كان ممن لا نبت قام الرجل عن يمين إمامه .

وقال حرب : سألت إسحاق عن رجل صلى وحضره رجل وغلام ابن ست [ ص: 271 ] سنين ، كيف يقيمهما ؟ قال : يقيمهما خلفه ، قلت : يقيمهما جميعا عن يمينه ؟ فلم يرخص فيه ، وذكر حديث أنس : ( صليت أنا ويتيم لنا خلف النبي صلى الله عليه وسلم ) .

وقد تقدم عن الحسن أن من صلى معه رجل وامرأة قام الرجل خلفه والمرأة خلفهما .

وهو مخالف لرواية موسى بن أنس وثابت ، عن أنس .

وجمهور أهل العلم على أن الرجل يقوم عن يمين الإمام ، والمرأة خلفه ، فعلى قول الحسن إذا كان مع الرجل صبي ، فلا إشكال عنده في مصافة الرجل .

واستدل - أيضا - بحديث أنس هذا على أن الصبي يقوم في صف الرجال من غير كراهة ، وقد رويت كراهته عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب ، وكانا يخرجان الصبيان من صفوف الرجال ، وهو قول الثوري وأحمد .

وأجاب أحمد عن حديث أنس هذا في إقامة اليتيم مع أنس ، بأنه كان في التطوع .

ويجاب عنه - أيضا - بأن الكراهة إنما هي حيث كان هناك رجال يملأون الصف ، فيمنع الصبي ، ويخرج منه ليقوم مقامه رجل ، فهو أولى بالصف منه ، فأما في حديث أنس ، فإنما هو ويتيم واحد في بيت ، فلم يكن مقام اليتيم مانعا للرجال من الصلاة في الصف مكانه .

وعلى تقدير أن يكون أنس صبيا إذ ذاك لم يبلغ الحلم ، فقد كانا جميعا صبيين . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية