صفحة جزء
[ ص: 388 ] 90 - باب

712 745 - حدثنا ابن أبي مريم ، أنا نافع بن عمر ، حدثني ابن أبي مليكة ، عن أسماء بنت أبي بكر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف ، فقام فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم قام فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم رفع ، ثم سجد فأطال السجود ، ثم رفع ، ثم سجد فأطال السجود ، ثم قام فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم رفع فأطال القيام ، ثم ركع فأطال الركوع ، ثم رفع فسجد فأطال السجود ، ثم رفع ، ثم سجد فأطال السجود ، ثم انصرف ، فقال : ( قد دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها ، ودنت مني النار حتى قلت : أي رب ، وأنا معهم ؟ فإذا امرأة - حسبت أنه قال : تخدشها هرة - ، قلت : ما شأن هذه ؟ قالوا : حبستها حتى ماتت جوعا لا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل ) .

قال نافع : حسبته من خشيش الأرض - أو خشاش .



قال الخطابي : خشيش ليس بشيء ، إنما هو خشاش - مفتوحة الخاء - وهو حشرات الأرض وهوامها ، فأما الخشاش - بكسر الخاء - فهو العود الذي يجعل في أنف البعير .

وفي ( الفائق ) : خشاش الأرض ، هوامها ، الواحدة : خشاشة ، سميت بذلك لاندساسها في التراب من خش في الشيء إذا دخل فيه ، يخش وخشه غيره فخشه ، ومنه الخشاش ؛ لأنه يخش في أنف البعير ، انتهى .

[ ص: 389 ] وفي هذا الحديث فوائد كثيرة :

منها : ما يتعلق بصفة صلاة الكسوف ، ويأتي الكلام عليه في موضعه ، إن شاء الله سبحانه وتعالى .

ومنها : أنه يدل على وجود الجنة والنار ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة .

ومنها : ما يدل على تحريم قتل الحيوان غير المؤذي ، لغير مأكلة .

ومنها : ما هو مقصوده بإيراد الحديث في هذا الباب : أن المصلي له النظر في صلاته إلى ما بين يديه ، وما كان قريبا ، ولا يقدح ذلك في صلاته .

ولكن المنظور إليه نوعان :

أحدهما : ما هو من الدنيا الملهية ، فهذا يكره النظر إليه في الصلاة ؛ فإنه يلهي .

وقد دل عليه حديث الإنبجانية ، وقد سبق .

والثاني : ما ينظر إليه مما يكشف من أمور الغيب ، فالنظر إليه غير قادح في الصلاة ؛ لأنه كالفكر فيه بالقلب ، ولو فكر في الجنة والنار بقلبه في صلاته كان حسنا .

وقد كان ذلك حال كثير من السلف ، ومنهم من كان يكشف لقلبه عن بعض ذلك حتى ينظر إليه بقلبه بنور إيمانه ، وهو من كمال مقام الإحسان .

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كشف ذلك له فرآه عيانا بعين رأسه ، هذا هو الظاهر ، ويحتمل أن يكون جلي ذلك لقلبه .

وقوله : ( أي رب ، وأنا معهم ) يشير إلى قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فخشي أن يكون إدناؤها منه عذابا أرسل على الأمة ، فاستفهم عن ذلك ، وقال : ( أتعذبهم وأنا معهم ؟ ) بحذف همزة الاستفهام .

وهذا القول ، الظاهر : أنه كان بقلبه دون لسانه ، وكذلك سؤاله عن المرأة ؛ فإن عالم الغيب في هذه الدار إنما تدركه الأرواح دون الأجساد - غالبا - ، وقد تدرك بالحواس الظاهرة لمن كشف الله له ذلك من أنبيائه [ ص: 390 ] ورسله ، ويحتمل أن يكون قوله : ( وأنا فيهم ) بلسانه ؛ لأن هذا من باب الدعاء ؛ فإنه إشارة منه إلى أنه موعود بأنه لا تعذب أمته وهو فيهم .

يدل على ذلك : ما روى عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الحديث بطوله ، وفيه : فجعل ينفخ في آخر سجوده في الركعة الثانية ، ويبكي ، ويقول : ( لم تعدني هذا وأنا فيهم ، لم تعدني هذا ونحن نستغفرك ) وذكر بقية الحديث .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي .

وأما سؤاله عن المرأة فلا يحتمل أن يكون بلسانه . والله أعلم .

وفي الجملة ؛ فإن كان البخاري ذكر هذا الباب للاستدلال بهذا الحديث على أن نظر المصلي إلى ما بين يديه غير قادح في صلاته ، فقد ذكرنا أن الحديث لا دليل فيه على النظر إلى الدنيا ومتعلقاتها ، وإن كان مقصوده الاستدلال به على استحباب الفكر للمصلي في الآخرة ومتعلقاتها ، وجعل نظر النبي صلى الله عليه وسلم فيه إلى الجنة بقلبه كان حسنا ؛ لأن المصلي مأمور بأن يعبد الله كأنه يراه ، فينبغي له أن يستغرق فكره في قربه من الله ، وفيما وعد الله أولياءه ، وتوعد به أعداءه ، وفي الفكر في معاني ما يتلوه من القرآن .

وقد كان السلف الصالح ينجلي الغيب لقلوبهم في الصلاة ، حتى كأنهم ينظرون إليها رأي عين ، فمن كان يغلب عليه الخوف والخشية ظهر لقلبه في الصلاة صفات الجلال من القهر والبطش والعقاب والانتقام ونحو ذلك ، فيشهد النار ومتعلقاتها وموقف القيامة ، كما كان سعيد بن عبد العزيز - صاحب الأوزاعي - يقول : ما دخلت في الصلاة قط إلا مثلت لي جهنم .

[ ص: 391 ] ومن كان يغلب عليه المحبة والرجاء ، فإنه مستغرق في مطالعة صفات الجلال والكمال والرأفة والرحمة والود واللطف ونحو ذلك ، فيشهد الجنة ومتعلقاتها ، وربما شهد يوم المزيد وتقريب المحبين فيه .

وقد روي عن أبي ريحانة - وهو من الصحابة - أنه صلى ليلة ، فما انصرف حتى أصبح ، وقال : ما زال قلبي يهوي في الجنة وما أعد الله فيها لأهلها حتى أصبحت .

وعن ابن ثوبان - وكان من عباد أهل الشام - أنه صلى ليلة ركعة الوتر ، فما انصرف إلى الصبح ، وقال : عرضت لي روضة من رياض الجنة ، فجعلت أنظر إليها حتى أصبحت .

يعني : ينظرها بعين قلبه .

التالي السابق


الخدمات العلمية