صفحة جزء
258 [ ص: 280 ] 9 - باب

هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها

إذا لم يكن على يده قذر غير الجنابة ؟

وأدخل ابن عمر والبراء بن عازب يده في الطهور ، ولم يغسلها ، ثم توضأ .

ولم ير ابن عمر وابن عباس بأسا بما ينتضح من غسل الجنابة .


أشار البخاري هاهنا إلى مسألتين :

إحداهما : أن الجنب إذا أدخل يده في الماء قبل غسلها ، وليس على يده نجاسة - فإنه لا ينجس الماء ; فإن المؤمن لا ينجس.

وقد ذكر عن ابن عمر والبراء بن عازب أنهما أدخلا أيديهما في الطهور من غير غسل ، ثم توضآ . وهذا في الوضوء .

وقد سبق ذكره في الكلام على حديث عثمان بن عفان في صفة الوضوء ، وعلى الكلام على حديث ( إذا استيقظ أحدكم من النوم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ) .

وروى وكيع ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن أبيه ، قال : رأيت البراء بن عازب بال ، فأدخل يده في مطهرة المسجد ، يعني : قبل أن يغسلها .

[ ص: 281 ] وعن سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن الشعبي ، قال : كان الرجال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلون أيديهم في الإناء وهم جنب ، والنساء وهن حيض ، لا يرون بذلك بأسا .

ورخص فيه ابن المسيب وغيره .

واختلف كلام أحمد في ذلك ; فقال مرة في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء إذا كانا نظيفتين : لا بأس به . ونقل عنه ابنه عبد الله في الجنب يدخل يده في الإناء ، ولم يمسها أذى ، ولم ينم - قال : إن لم ينم فأرجو أن لا يكون به بأس ، وإن نام غسلها .

يشير إلى أنه إن كان قائما من النوم فإنه لا يرخص له في ترك غسلها ، فجعل القائم من النوم أشد من الجنب .

ونقل عنه كراهة ذلك :

نقل عنه صالح وابن منصور في الجنب والحائض يغمس يده في الإناء ، قال : كنت لا أرى به بأسا ، ثم حدثت عن شعبة ، عن محارب بن دثار ، عن ابن عمر ، فكأني تهيبته .

ونقل عنه صالح أيضا في جنب أدخل يده في ماء ، ينظر حره من [ ص: 282 ] برده : إن كان أصبعا رجوت أن لا يكون به بأس ، وإن كان اليد أجمع فكأنه كرهه .

ونقل عنه صالح أيضا في جنب يدخل الحمام ، ليس معه أحد ، ولا ماء يصب به على يده - ترى له أن يأخذ بفمه ؟ قال : لا ، يده وفمه واحد .

وروى بقية ، عن الزبيدي ، عن علي بن أبي طلحة ، في الجنب يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها - قال : يهريق أعلاه .

وخرج أبو عبيد بإسناده ، عن النخعي ، قال : إذا غمس الجنب يده في إناء صغير [فأهرقه] ، وإن كان كبيرا فلا بأس به .

وهذا قد يرجع إلى القول بنجاسة بدن الجنب ، وهو قول شاذ ترده السنة الصحيحة . وقد روي عن أحمد في جنب اغتسل في ماء يسير [...] .

ولم ينقل عنه في المحدث يتوضأ في ماء يسير ، وإن كان أصحابنا قد سووا بينهما .

وروى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان يكره فضل الحائض والجنب .

[ ص: 283 ] وروى أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أنه كان لا يرى بسؤر المرأة بأسا ، إلا أن تكون حائضا أو جنبا .

وروي عن معاذة ، عن عائشة ، أنها كانت تكره سؤر الحائض ، وأن يتوضأ به .

وروي عن أحمد كراهة سؤر الحائض إذا [...] بالماء .

وفي ( مسند بقي بن مخلد ) من رواية سويد بن عبد العزيز الدمشقي ، عن نوح بن ذكوان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، قالت : وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماء ، وأدخلت يدي فيه ، فلم يتوضأ منه .

وهذا منكر ، لا يصح . وسويد ونوح ضعيفان .

فأما إن أدخل الجنب يده في الماء بعد أن نوى الغسل ، فاغترف منه ، وكان الماء قليلا - فإن نوى الاغتراف من الماء لم يضره ، وإن نوى غسل يده من الجنابة في الماء صار الماء مستعملا .

وإن أطلق النية ففيه قولان لأصحابنا وغيرهم من الفقهاء ، أشهرهما عندهم أنه يصير مستعملا ، وهو قول الشافعية .

والصحيح أنه لا يصير بذلك مستعملا .

وعليه يدل حديث عائشة وميمونة ، واغتسال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه من إناء واحد ; فإنه لو كان يصير الماء مستعملا بغمس اليد في الماء بدون نية الاغتراف لوجب بيانه للأمة بيانا عاما ; فإن هذا مما تدعو الضرورة إليه ; فإن [ ص: 284 ] عامة الناس لا يستحضرون نية الاغتراف ، وأكثرهم لا يعلمون حكم ذلك ، بل قد روي عن النبي وأصحابه ما يدل على خلاف ذلك ، وأن الماء لا يجنب باغتراف الجنب منه .

وروى سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من جفنة ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ، فقالت : يا رسول الله ، إني كنت جنبا ! قال : ( إن الماء لا يجنب ) .

خرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح ، وابن خزيمة في ( صحيحه ) ، والحاكم وصححه .

وأعله الإمام أحمد بأنه روي عن عكرمة مرسلا .

وقد صح عن ابن عباس أنه سئل عن الجنب يغتسل من ماء الحمام ، فقال : الماء لا يجنب .

وصح عنه أنه قال : الماء لا يجنب .

وكذلك صح عن عائشة من رواية شعبة ، عن يزيد الرشك ، عن معاذة ، قالت : سألت عائشة عن الغسل من الجنابة ؟ فقالت : إن الماء لا ينجسه شيء ; كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد .

وخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) ، ولفظه : إن عائشة قالت : الماء طهور ، لا يجنب الماء شيء ; لقد كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الإناء الواحد . قالت : أبدؤه ، فأفرغ على يديه من قبل أن يغمسهما في الإناء .

وروى المقدام بن شريح ، عن أبيه ، أنه سأل عائشة عن غسل الجنابة ؟ [ ص: 285 ] فقالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد . قال شريح : كيف يكون ؟ قالت عائشة : إنه ليس على الماء جنابة ، مرتين أو ثلاثة .

خرجه [...] وبقي بن مخلد في ( مسنده ) .

وخرجه إسحاق بن راهويه في ( مسنده ) ، وعنده : فقالت : إن الماء لا ينجس .

وقد رفع بعضهم آخر الحديث ، وهو قوله : ( الماء لا ينجس ) ، فجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم . خرجه الطبراني والقاضي إسماعيل وابن عدي وغيرهم - مرفوعا .

والصحيح أنه موقوف على عائشة .

المسألة الثانية :

ما ينتضح من بدن الجنب في الماء الذي يغتسل منه .

وقد ذكر البخاري عن ابن عمر وابن عباس أنهما لم يريا به بأسا .

وروى وكيع في ( كتابه ) ، عن سفيان ، عن العلاء بن المسيب ، عن رجل ، عن ابن عباس - أنه لم يكن يرى به بأسا .

وكذلك رخص فيه أكثر السلف ، منهم ابن سيرين والحسن والنخعي وأبو جعفر .

[ ص: 286 ] قال النخعي : أو تجد من ذلك بدا ؟

وعن الحسن نحوه .

ورخص فيه أيضا مالك وأحمد وإسحاق ، وغيرهم .

وقد سبق بسط ذلك في ذكر الماء المستعمل ، وأنه ليس بنجس .

ويدل على ذلك أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض أزواجه من الإناء الواحد لا يسلم من إصابة رشاش الماء المتقاطر منهما [للماء] ، ولو كان ذلك نجسا لوجب بيانه والأمر بالتحرز منه ; فإن هذا مما تعم به البلوى ، ولا يكاد يسلم الناس منه .

وكلام أحمد يدل على أن ما ينضح من الماء عند الغسل والوضوء على البدن أو الثوب في الماء لا بأس به .

فإن توضأ في طشت ، ثم صبه ، فأصاب ثوبه منه - فإنه يستحب له غسله والتنزه عنه ; فإن هذا لا يشق التحرز عنه ، وهو ماء [قذر] ، قد أخرج الذنوب والخطايا ، واختلف في نجاسته .

التالي السابق


الخدمات العلمية