صفحة جزء
[ ص: 315 ] 16 - باب

من توضأ في الجنابة ، ثم غسل سائر جسده

ولم يعد غسل مواضع الوضوء منه مرة أخرى

خرج فيه :

270 274 - حديث ميمونة : قالت : وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوءا للجنابة ، فكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثا . ثم غسل فرجه ، ثم ضرب يده بالأرض - أو الحائط - مرتين أو ثلاثا . ثم تمضمض واستنشق ، وغسل وجهه وذراعيه . ثم أفاض على رأسه الماء ، ثم غسل جسده ، ثم تنحى فغسل رجليه . قالت : فأتيته بخرقة ، فلم يردها ، فجعل ينفض الماء بيده .


خرجه من طريق الفضل بن موسى ، عن الأعمش - بإسناده المتقدم .

ووجه دلالة الحديث على ما بوب عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه وذراعيه ، ثم أفاض على رأسه الماء ، ثم غسل جسده . ولم يعد غسل وجهه وذراعيه ، وإنما غسل رجليه أخيرا ; لأنه لم يكن غسلهما أولا .

وقد خرج مسلم هذا الحديث من رواية عيسى بن يونس عن الأعمش ، وفي حديثه : ( ثم توضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ على رأسه ثلاث حفنات ملء كفه ، ثم غسل سائر جسده ) .

وقوله : ( غسل سائر جسده ) - يدل على أنه لم يعد غسل ما كان غسله منه قبل ذلك ; لأن ( سائر ) إنما تستعمل بمعنى ( الباقي ) لا بمعنى ( الكل ) ، على الأصح الأشهر عند أهل اللغة .

[ ص: 316 ] وكذلك خرج مسلم حديث عائشة من حديث أبي معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - فذكرت الحديث ، وفي آخره : ( ثم أفاض على سائر جسده ) .

وهو أيضا : دليل على أنه لم يعد غسل ما مضى غسله منه .

والعجب من البخاري - رحمه الله - كيف ذكر في تبويبه ( من توضأ للجنابة ، ثم غسل سائر جسده ) ، ولم يسق الحديث بهذا اللفظ ، وإنما تتم الدلالة به .

ومقصوده بهذا الباب أن الجنب إذا توضأ فإنه يجب عليه غسل بقية بدنه ، ولا يلزمه إعادة غسل ما غسله من أعضاء الوضوء .

والجنب له حالتان :

إحداهما : أنه لا يلزمه سوى الغسل ، وهو من أجنب من غير أن يوجد منه حدث أصغر - على قول من يقول : إن الجنابة المجردة لا توجب سوى الغسل ، كما هو قول الشافعي وابن حامد من أصحابنا - فهذا لا يلزمه أكثر من الغسل .

فإن بدأ بأعضاء الوضوء ، فغسلها - لم يلزمه سوى غسل بقية بدنه ، بغير تردد .

وينوي بوضوئه الغسل ، لا رفع الحدث الأصغر . صرح به الشافعية ، وهو ظاهر .

[ ص: 317 ] الحالة الثانية : أن يجتمع عليه حدث أصغر وجنابة ; إما بأن يحدث ، ثم يجنب . أو على قول من يقول : إن الجنابة بمجردها تنقض الوضوء ، وتوجب الغسل ، كما هو ظاهر مذهب أحمد وغيره .

فهذه المسألة قد سبقت الإشارة إليها والاختلاف فيها .

وأكثر العلماء على تداخل الوضوء والغسل في الجملة .

قال الحسن : إذا اغتمس في النهر ، وهو جنب - أجزأه عن الجنابة والحدث .

فعلى هذا ، إذا غسل أعضاء الوضوء مرة لم يحتج إلى إعادة غسلها .

قال أحمد : العمل عندي في غسل الجنابة أن يبدأ الرجل بمواضع الوضوء ، ثم يغسل بعد ذلك سائر جسده .

ولكن على هذا التقدير ينوي بوضوئه رفع الحدثين عن أعضاء الوضوء . فإن نوى رفع الحدث الأصغر وحده احتاج إلى إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل .

ثم إن المشهور عن أحمد عند أصحابه كالخرقي ومن تابعه - أن الغسل والوضوء لا يتداخلان إلا بأن ينويهما كالحج والعمرة في القران ، وهو وجه للشافعية .

وعلى هذا ، فينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر . صرح به ابن أبي موسى من أصحابنا .

ويلزم من ذلك وجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء في الغسل مرة أخرى .

فإن نوى بالوضوء رفع الحدثين معا لم يلزمه إعادة غسلهما مرة أخرى .

[ ص: 318 ] والمنصوص عن الشافعي أنهما يتداخلان بدون نية ، نص على ذلك في ( الأم ) ، وحكاه أبو حفص البرمكي رواية عن أحمد ، كما لو كانا من جنس واحد عند أكثر العلماء .

فعلى هذا ، يجزئ الوضوء بنية رفع الحدث الأكبر خاصة .

وإن نوى بالوضوء رفع الحدث الأصغر كان أفضل ، قاله بعض الشافعية . ولكن ينبغي أن يقولوا بوجوب إعادة غسل أعضاء الوضوء مرة أخرى في الغسل .

وعلى هذا التقدير ، فإن رفع الحدث الأصغر لا يندرج فيه الأكبر ، بخلاف عكسه .

وعن أحمد رواية أنه لا يرتفع الحدث الأصغر بدون الإتيان بالوضوء ، وحكي مثله عن مالك وأبي ثور وداود ، وهو وجه للشافعية ; لأن سببهما مختلف ، فلم يتداخلا كحد الزنا وحد السرقة .

وعلى هذا ، فيجب غسل أعضاء الوضوء مرتين [...] : مرة للوضوء ، ومرة في الغسل . وينوي بالوضوء رفع الحدث الأصغر ، وبالغسل رفع الحدث الأكبر .

وقالت طائفة : إن غسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية ارتفع عنهما الحدثان ، وإذا نوى رفعهما فلا يجب عليه إلا غسل باقي بدنه للجنابة . وإن لم يغسل أعضاء الوضوء مرتبة متوالية لم يرتفع عنها سوى حدث الجنابة ، وعليه أن يأتي بالوضوء على وجهه ; ليرفع الحدث الأصغر .

[ ص: 319 ] وحكي هذا عن إسحاق بن راهويه ، وهو قول أبي بكر بن جعفر ، ومن اتبعه من أصحابنا . واعتبروا أيضا أن يمسح رأسه .

وقد سبق نص أحمد على أنه لا يحتاج إلى مسح رأسه ، بل يكفيه صب الماء عليه . وهو يدل على أن خصائص الوضوء عنده كلها غير معتبرة في وضوء غسل الجنابة .

وهو أيضا وجه لأصحاب الشافعي ، لكنهم لا يعتبرون الموالاة ولا نية الحدث الأصغر ، على الصحيح عندهم . وعندنا هما معتبران على الصحيح .

وزعم أبو بكر الخلال أن هذا القول هو مذهب أحمد ، ووهم من حكى عنه خلافه ; فإن حنبلا نقل عن أحمد في جنب اغتسل وعليه خاتم ضيق ، لم يحركه ، فصلى ، ثم ذكر - قال : يغسل موضعه ، ويعيد الصلاة .

قال الخلال : هذا وهم من حنبل لا شك فيه ; لأن أحمد عنده أن من لم يحرك خاتمه الضيق في الوضوء وصلى ، أنه يعيد الوضوء والصلاة .

قال أبو بكر ابن جعفر في كتاب ( الشافي ) : هذا يدل على أنه لا بد في غسل الجنابة من الوضوء .

قلت : إنما قال أحمد : ( يعيد الوضوء والصلاة ) - في المحدث حدثا أصغر . فأما الجنب فإن المنصوص عن أحمد أنه إذا انغمس في ماء وتمضمض ، واستنشق - أنه يجزئه ، بخلاف من يريد الوضوء ; فإنه يلزمه الترتيب والمسح .

ولكن الخلال تأول كلامه على أن الجنب يجزئه انغماسه في الماء من [ ص: 320 ] غسل الجنابة ، وأما عن الوضوء فلا يجزئه حتى يرتب ، كالمحدث الحدث الأصغر بانفراده .

ونقول : إن قول أحمد : ( إذا انغمس وأراد الوضوء لا يجزئه ) – عام فيمن أراد الوضوء وهو جنب أو محدث .

والذي عليه عامة الأصحاب ، كالخرقي وابن أبي موسى والقاضي أبي يعلى وأصحابه - خلاف [ذلك] ، وأن أحمد إنما أراد المحدث حدثا أصغر .

ورواية حنبل هذه صريحة في هذا المعنى ، وقول الخلال : ( إنها وهم بغير شك ) - غير مقبول ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية