صفحة جزء
[ ص: 373 ] 29 - باب

غسل ما يصيب من فرج المرأة

288 292 - حدثنا أبو معمر : نا عبد الوارث ، عن الحسين المعلم : قال يحيى : وأخبرني أبو سلمة أن عطاء بن يسار أخبره ، أن زيد بن خالد الجهني أخبره ، أنه سأل عثمان بن عفان ، فقال : أرأيت إذا جامع الرجل امرأته ، فلم يمن ؟ فقال عثمان : يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ويغسل ذكره . وقال عثمان : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبي بن كعب - فأمروه بذلك .

وأخبرني أبو سلمة أن عروة بن الزبير أخبره أن أبا أيوب أخبره أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

289 293 - حدثنا مسدد : نا يحيى ، عن هشام بن عروة ، قال : أخبرني أبي ، قال : أخبرني أبو أيوب ، قال : أخبرني أبي بن كعب ، أنه قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جامع الرجل [المرأة] ، فلم ينزل ! قال : ( يغسل ما مس المرأة منه ، ثم يتوضأ ويصلي ) .

قال أبو عبد الله : الغسل أحوط ، وذلك الأخير ; إنما بينا لاختلافهم .


الذي وقع في الرواية الأولى عن أبي سلمة ، عن عروة ، أن أبا أيوب أخبره ، أنه سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم - هم ، نبه عليه الدارقطني وغيره .

[ ص: 374 ] تدل عليه الرواية الثانية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه : أخبرني أبو أيوب ، قال : أخبرني أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد روى عبد الرحمن بن سعاد ، عن أبي أيوب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( الماء من الماء ) .

خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه ، وليس فيه تصريح أبي أيوب بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد خرج البخاري فيما تقدم في ذكر نواقض الوضوء حديث ذكوان أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( إذا أعجلت ، أو أقحطت - فلا غسل عليك ) .

وخرج أيضا حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه هنا من طريق شيبان ، عن يحيى ، إلى قوله في آخر الحديث : ( وأبي بن كعب ، فأمروه بذلك ) ، ولم يذكر ما بعده ، ولعله تركه لما وقع فيه من الوهم الذي ذكرناه .

وعند البخاري في كلتا الروايتين أن عليا والزبير وطلحة وأبي بن كعب أفتوا بذلك ، ولم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد وقع في رواية غيره أنهم رفعوه أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد قال علي بن المديني في هذا الحديث : إنه شاذ .

وقال ابن عبد البر : هو منكر ; لم يتابع عليه يحيى بن أبي كثير .

وقد صح عن أكثر من ذكر عنه من الصحابة أنه لا غسل بدون الإنزال - [ ص: 375 ] خلاف ذلك .

قال علي بن المديني : قد روي عن علي وعثمان وأبي بن كعب بأسانيد جياد أنهم أفتوا بخلاف ما في هذا الحديث .

وقال الدارقطني : رواه زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن خالد - أنه سأل خمسة أو أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمروه بذلك ، ولم يرفعه .

يشير إلى أن زيد بن أسلم يخالف أبا سلمة في رفعه ، ولم يرفع منه شيئا .

وقد كان قوم من الأنصار قديما يقولون : ( إن الماء من الماء ) ، ثم استقر الأمر على أنه إذا التقى الختانان وجب الغسل ، ورجع أكثر من كان يخالف في ذلك عنه .

وأما المهاجرون فقد صح عنهم أنهم قالوا : ( إذا التقى الختانان وجب الغسل ) ، منهم عمر ، وعثمان ، وعلي . فدل على أن عثمان وعليا علموا أن ( الماء من الماء ) نسخ ، وإلا فكيف يروي عثمان أو غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم يرجع عن القول به ؟

وفي ( صحيح مسلم ) عن أبي موسى ، قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء ، فقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل . قال : قال أبو موسى : فأنا أشفيكم من ذلك . وذكر قيامه إلى عائشة وما روته له عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق ذكره .

وروى وكيع ، عن القاسم بن الفضل ، عن أبي جعفر محمد بن علي ، قال : قال المهاجرون : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل ، وقال الأنصار : الماء من الماء .

[ ص: 376 ] وروى ابن أبي شيبة ، عن حفص بن غياث ، عن حجاج ، عن أبي جعفر ، قال : أجمع المهاجرون أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي - أن ما أوجب الحدين : الجلد والرجم ، أوجب الغسل .

وروى إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( كتاب الطهور ) عن ابن نمير ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان أبو بكر وعمر يأمران بالغسل ، يعني : من الإكسال .

وروى مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، قال : إن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون : إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل .

وروى عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان عمر وعثمان وعائشة والمهاجرون الأولون يقولون : إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل .

وروى وكيع ، عن محمد بن قيس الأسدي ، عن علي بن ربيعة ، عن علي ، قال : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل .

وروى ابن أبي شيبة والأثرم بإسنادهما ، عن عاصم ، عن زر ، عن علي ، قال : إذا التقى الختانان وجب الغسل . وقد روي عن علي من وجوه متعددة .

فهؤلاء الخلفاء الراشدون - رضي الله عنهم - قد أجمعوا على ذلك ، مع أن بعضهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ، فلولا أنهم علموا أن ما خالف ذلك منسوخ لما خالفوا ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم . ووافقهم على ذلك أكابر الصحابة ، منهم : [ ص: 377 ] ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو ذر ، وأبو هريرة ، ومعاذ بن جبل فقيه الأنصار ، وأبو هريرة ، وعائشة أم المؤمنين وهي أعلم الناس بهذا ، وإليها مرجع الناس كلهم .

وقد صح عنها أنها أفتت بذلك ، وأمرت به ، وأن الصحابة الذين سمعوا منها رجعوا إلى قولها في ذلك ; فإنها لا تقول مثل هذا إلا عن علم عندها فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما وقد علمت اختلاف الصحابة في ذلك .

وجمع عمر الناس كلهم على قولها ، فلو كان قولها رأيا مجردا عن رواية لما استجازت رد روايات غيرها من الصحابة برأيها .

وقد روي عنها من وجوه كثيرة ، وبعضها صحيح كما تقدم - أنها روته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا .

فما بقي بعد ذلك سوى العناد والتعنت ، ونعوذ بالله من مخالفة ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون ، وجمع عليه عمر كلمة المسلمين ، وأفتت به عائشة أم المؤمنين أفقه نساء هذه الأمة ، وهي أعلم بمستند هذه المسألة من الخلق أجمعين .

فروى مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة أم المؤمنين ، فقال لها : لقد شق علي اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به ! قالت : ما هو ؟ ما كنت سائلا عنه أمك فسلني عنه ! قال لها : الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ولا ينزل ؟ فقالت : إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل . فقال أبو موسى : لا أسأل عن هذا أحدا بعدك .

[ ص: 378 ] ورواه حماد بن زيد وعبد الوهاب الثقفي وغيرهما ، عن يحيى بن سعيد - بنحوه . وسمى عبد الوهاب في روايته من قال : لا يجب الغسل بذلك : أبي بن كعب وأبا أيوب وزيد بن ثابت ، وسمى ممن يأمر بالغسل عمر وعثمان .

وروى ابن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن عبد الله بن أبي حيية ، عن عبيد بن رفاعة بن رافع ، عن أبيه رفاعة ، قال : كنت عند عمر ، فقيل له : إن زيد بن ثابت يفتي برأيه في الذي يجامع ولا ينزل . فدعاه ، فقال : أي عدو نفسه ! قد بلغت أن تفتي الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيك ! قال : ما فعلت ، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : أي عمومتك ؟ قال : أبي بن كعب ، وأبو أيوب ، ورفاعة بن رافع . قال : فالتفت عمر إلي ، فقلت : كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فسألتم عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كنا نفعله على عهده .

قال : فجمع الناس ، وأصفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء ، إلا رجلين : علي بن أبي طالب ، ومعاذ بن جبل ، قالا : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، إن أعلم الناس بهذا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى حفصة ، فقالت : لا علم لي . فأرسل إلى عائشة ، فقالت : إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل . قال : فتحطم عمر - يعني : تغيظ - ثم قال : لا يبلغني أن أحدا فعله ولم يغتسل إلا أنهكته عقوبة
.

[ ص: 379 ] خرجه الإمام أحمد وبقي بن مخلد في ( مسنديهما ) ، ومسلم في ( كتاب التفصيل ) وهو ( كتاب الناسخ والمنسوخ ) له .

ثم خرجه من طريق عبد الله بن صالح ، عن الليث : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن معمر بن أبي حيية ، عن عبيد بن رفاعة ، أن زيد بن ثابت كان يقول - فذكره بنحوه ، ولم يقل : ( عن أبيه ) .

ومعمر بن أبي حيية ، ويقال : ابن أبي حبيبة - وثقه ابن معين وغيره . وعبيد بن رفاعة ذكره ابن حبان في ( ثقاته ) .

وهذه الرواية يستفاد منها أمور :

منها أن كثيرا من الأنصار كان يقلد بعضهم بعضا في هذه المسألة ، ولم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم إلا قليل منهم .

ومنها أنه لم يظهر في ذلك المجلس شيء من روايات الأنصار الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ظهر التمسك بفعل كانوا يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر : هل علم به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلم يكن لهم جواب ، وهذا مما يدل على أن تلك الروايات التصريحية حصل الوهم في نقلها من بعض الرواة .

ومنها أن المهاجرين الذين روي أنهم كانوا يخالفون في ذلك ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه كعثمان رجعوا عما سمعوه منه ، وكذلك الأنصار أيضا ورأسهم أبي بن كعب رجع ، وأخبر أن ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كان رخصة في أول الأمر ، ثم نسخ وزال . وهذا يدل على أنه تبين لهم نسخ ما كانوا سمعوه بيانا شافيا ، بحيث لم يبق فيه لبس ولا شك .

وقد ذكر الشافعي أنه اتفق هو ومن ناظره في هذه المسألة على أن هذا [ ص: 380 ] أقوى مما يستدل به عليها .

ويدل على رجوع أبي وغيره من الأنصار ما روى الزهري ، عن سهل بن سعد ، عن أبي بن كعب ، قال : إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ، ثم نهي عنها .

خرجه الترمذي ، وقال : حسن صحيح . وخرجه ابن ماجه مختصرا .

وخرجه الإمام أحمد ولفظه : إن الفتيا التي كانوا يقولون : الماء من الماء - رخصة كان النبي صلى الله عليه وسلم رخص بها في أول الإسلام ، ثم أمرنا بالغسل بعد .

وخرجه ابن خزيمة في ( صحيحه ) من طريق معمر ، عن الزهري ، قال : أخبرني سهل بن سعد ، قال : إنما كان قول الأنصار : الماء من الماء - رخصة في أول الإسلام ، ثم أمرنا بالغسل .

ولم يذكر في إسناده ( أبيا ) ، وصرح فيه بسماع الزهري .

وقيل : إنه وهم في ذلك ; فإن الزهري لم يسمعه من سهل ; فقد خرجه أبو داود وابن خزيمة أيضا من طريق عمرو بن الحارث ، عن الزهري ، قال : حدثني بعض من أرضى ، عن سهل ، عن أبي - فذكره .

ورجح هذه الرواية الإمام أحمد والدارقطني ، وغيرهما .

[ ص: 381 ] ورجح آخرون سماع الزهري له من سهل ، منهم ابن حبان .

ووقع في بعض نسخ ( سنن أبي داود ) ما يدل عليه ; فإنه لم يذكر أحد من أصحاب الزهري بين الزهري وسهل رجلا [غير] عمرو بن الحارث ، فلا يقضى له على سائر أصحاب الزهري .

وقد خرجه ابن شاهين من طريق ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، قال : حدثني سهل بن سعد ، عن أبي بن كعب - فذكره ، به .

وبتقدير أن يكون ذلك محفوظا فقد أخبر الزهري أن هذا الذي حدثه يرضاه ، وتوثيق الزهري كاف في قبول خبره .

[ ص: 382 ] وقد قيل : إنه أبو حازم الزاهد ، وهو ثقة جليل ، فقد خرج أبو داود وابن خزيمة من رواية أبي غسان محمد بن مطرف ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : حدثني أبي بن كعب - فذكره .

قال البيهقي : هذا إسناد صحيح موصول .

وقد ذكر ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، أن بعضهم ذكر أنه لا يعرف له أصلا . وفي ذلك نظر .

وقد روي عن أبي بن كعب من وجوه أخر :

روى شعبة ، عن سيف بن وهب ، عن أبي حرب بن أبي الأسود ، عن عميرة بن يثربي ، عن أبي بن كعب قال : إذا التقى ملتقاهما فقد وجب الغسل . خرجه ابن أبي شيبة والبخاري في ( تاريخه ) .

وروى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عبد الله بن كعب مولى عثمان ، أن محمود بن لبيد سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ، ثم يكسل ولا ينزل ، فقال زيد : يغتسل . فقال له محمود بن لبيد : إن أبي بن كعب كان لا يرى الغسل ! فقال له زيد : إن أبيا نزع عن ذلك قبل أن يموت .

وقال الشافعي : أنا إبراهيم بن محمد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه ، عن أبي بن كعب ، أنه كان يقول : ليس على من لم ينزل غسل ، ثم نزع عن ذلك أبي قبل أن يموت .

وقد روي عن عائشة ما يدل على النسخ من رواية الحسين بن عمران : حدثني الزهري ، قال : سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل ، قال : نول [ ص: 383 ] الناس أن يأخذوا بالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ولا يغتسل ، وذلك قبل فتح مكة . ثم اغتسل بعد ذلك ، وأمر الناس بالغسل .

خرجه ابن حبان في ( صحيحه ) والدارقطني .

والحسين بن عمران ذكره ابن حبان في ( ثقاته ) ، وقال الدارقطني : لا بأس به ، وقال البخاري : لا يتابع على حديثه .

وقال العقيلي بعد تخريجه لهذا الحديث : الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل لالتقاء الختانين ، ولا يحفظ هذا اللفظ إلا في هذا الحديث .

والقول بأن ( الماء من الماء ) - نسخ بالأمر بالغسل من التقاء الختانين هو المشهور عند العلماء من الفقهاء والمحدثين ، وقد قرره الشافعي وأحمد ومسلم بن الحجاج والترمذي وأبو حاتم الرازي وغيرهم من الأئمة .

وقد روي معنى ذلك عن سعيد بن المسيب وغيره من السلف .

وقد قيل : إن ( الماء من الماء ) - إنما كان في الاحتلام . وقد روي عن ابن عباس هذا التأويل . خرجه الترمذي من وجه فيه مقال .

[ ص: 384 ] وروي أيضا عن عكرمة ، وذهب إليه طائفة .

وهذا التأويل إن احتمل في قوله : ( الماء من الماء ) ، فلا يحتمل في قوله : ( إذا أعجلت - أو أقحطت - فلا غسل عليك ) ، وفي قوله : ( يغسل ما مس المرأة منه ، ويتوضأ ، ويصلي ) .

وقال طائفة من العلماء : لما اختلفت الأحاديث في هذا وجب الأخذ بأحاديث الغسل من التقاء الختانين ; لما فيها من الزيادة التي لم يثبت لها معارض ، ولم تبرأ الذمة بدون الاغتسال ; لأنه قد تحقق أن التقاء الختانين موجب لطهارة . ووقع التردد : هل يكفي الوضوء ؟ أو لا يكفي دون غسل البدن كله ؟ فوجب الأخذ بالغسل ; لأنه لا يتيقن براءة الذمة بدونه .

وهذا معنى قول البخاري : الغسل أحوط .

ولذلك قال أحمد في رواية ابن القاسم : الأمر عندي في الجماع أن آخذ بالاحتياط فيه ، ولا أقول : الماء من الماء .

وسلك بعضهم مسلكا آخر ، وهو أن المجامع وإن لم ينزل يسمى جنبا ومجامعا وواطئا ، ويترتب جميع أحكام الوطء عليه ، والغسل من جملة الأحكام .

وهذا معنى قول من قال من السلف : أنوجب المهر والحد ، ولا نوجب الغسل ؟

وهذا القول هو الذي استقر عليه عمل المسلمين .

وقد خالف فيه شرذمة من المتقدمين ، منهم أبو سلمة وعروة وهشام بن عروة والأعمش وابن عيينة ، وحكي عن الزهري وداود .

وقال ابن عبد البر : اختلف أصحاب داود في هذه المسألة . وقال ابن المنذر : لا أعلم اليوم بين أهل العلم في ذلك اختلافا .

[ ص: 385 ] وذهب إليه طائفة من أهل الحديث ، منهم بقي بن مخلد الأندلسي . وقد نسبه بعضهم إلى البخاري ، وليس في كلامه ما يصرح به . وحكاه الشافعي عن بعض أهل الحديث من أهل ناحيتهم وغيرهم ، وذكر مناظرته لهم .

وقد كان بعض الناس في زمن الإمام أحمد ينسب ذلك إليه ، فكان أحمد ينكر ذلك ، ويقول : ما أحفظ أني قلت به قط . وقيل له : بلغنا أنك تقوله ، فقال : الله المستعان . وقال أيضا : من يكذب علي في هذا أكثر من ذاك .

وأحمد من أبعد الناس عن هذه المقالة ، فظاهر كلامه يدل على أن الخلاف فيها غير سائغ ; فإنه نص على أنه لو فعل ذلك مرة أنه يعيد الصلاة التي صلاها بغير غسل من التقاء الختانين ، ونص على أنه لا يصلى خلف من يقول : ( الماء من الماء ) ، مع قوله : إنه يصلى خلف من يحتجم ولا يتوضأ ، ومن يمس ذكره ولا يتوضأ متأولا ; فدل على أن القول بأن ( الماء من الماء ) لا مساغ للخلاف فيه .

وكذلك ذكر ابن أبي موسى وغيره من الأصحاب .

وحمل أبو بكر عبد العزيز كلام أحمد على أنه لم يكن متأولا ، وهذا لا يصح ; لأن القول بأن ( الماء من الماء ) - لا يكون بغير تأويل . والله أعلم .

وقد سبق عن عمر أنه قال : لا أوتى بأحد فعله إلا أنهكته عقوبة .

وقد روي عنه من وجه آخر ، رواه ابن أبي شيبة عن ابن إدريس ، عن الشيباني ، عن بكير بن الأخنس ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر : لا أوتى برجل فعله - يعني : جامع ولم يغتسل ; يعني : وهو لم ينزل - إلا أنهكته عقوبة .

وخرجه إبراهيم بن مسلم الخوارزمي في ( كتاب الطهور ) عن أسباط بن محمد ، عن الشيباني - به .

[ ص: 386 ] وفي رواية أن سعيد بن المسيب قال : سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول : لا أجد أحدا جامع امرأته ولم يغتسل ، أنزل أو لم ينزل - إلا عاقبته .

وقد قال عمر هذا بمحضر من المهاجرين والأنصار ، ولم يخالف فيه أحد .

والظاهر أن جميع من كان يخالف فيه من الأنصار رجع عنه ، ورأسهم أبي بن كعب وزيد بن ثابت ، ومن المهاجرين عثمان بن عفان .

وفي رجوع أبي بن كعب وعثمان بن عفان مع سماعهما من النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك - دليل على أنه ظهر لهما أن ما سمعاه زال حكمه ، واستقر العمل على غيره .

وعامة من روي عنه ( إن الماء من الماء ) - روي عنه خلاف ذلك ، والغسل من التقاء الختانين ، منهم : عثمان ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، ورافع بن خديج .

وهذا يدل على رجوعهم عما قالوه في ذلك ; فإن القول بنسخ ( الماء من الماء ) مشهور بين العلماء ، ولم يقل أحد منهم بالعكس .

وقد روت عائشة وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الغسل بالتقاء الختانين .

وقد روي ذلك أيضا من رواية عبد الله بن عمرو ورافع بن خديج ومعاذ بن جبل وابن عمر وأبي أمامة وغيرهم ، إلا أن في أسانيدها ضعفا . وفي حديث رافع التصريح بنسخ الرخصة أيضا .

اعلم أن هذا الضعف إنما هو في الطرق التي وصلت إلينا منها هذه الأخبار ، فأما المجمع الذي جمع عمر فيه المهاجرين والأنصار ، ورجع فيه أعيان من كان سمع من النبي صلى الله عليه وسلم الرخصة - فإنهم لم يرجعوا إلا لأمر ظهر لهم [ ص: 387 ] في ذلك الجمع وبعده ، وعلموه وتيقنوه ، وإن كانت تفاصيله لم تنقل إلينا . واستقر من حينئذ العمل على الغسل من التقاء الختانين ، ولم يصح عن أحد من الصحابة بعد ذلك إظهار الفتيا بخلافه . فوجب اتباع سبيل المؤمنين ، والأخذ بما جمع عليه الأمة أمير المؤمنين ، والرجوع إلى من رجعت إليه الصحابة في العلم بهذه المسألة ، وهي أم المؤمنين.

والمخالف يشغب بذكر الأحاديث التي رجع عنها رواتها ، ويقول : هي صحيحة الأسانيد ، وربما يقول : هي أصح إسنادا من الأحاديث المخالفة لها .

ومن هنا كره طوائف من العلماء ذكر مثل هذه الأحاديث والتحديث بها ; لأنها تورث الشبهة في نفوس كثير من الناس .

وخرج الإسماعيلي في ( صحيحه ) من حديث زيد بن أخزم ، قال : سمعت يحيى - يعني : القطان - وسئل عن حديث هشام بن عروة حديث أبي أيوب : ( الماء من الماء ) ، فقال : نهاني عنه عبد الرحمن ، يعني : ابن مهدي .

ولهذا المعنى - والله أعلم - لم يخرج مالك في ( الموطأ ) شيئا من هذه الأحاديث ، وهي أسانيد حجازية على شرطه .

والمقصود بهذا أن هذه المسائل التي اجتمعت كلمة المسلمين عليها من زمن الصحابة ، وقل المخالف فيها وندر ، ولم يجسر على إظهارها لإنكار المسلمين عليه - [كلها] يجب على المؤمن الأخذ بما اتفق المسلمون على العمل به ظاهرا ; فإن هذه الأمة لا يظهر أهل باطلها على أهل حقها ، كما أنها لا تجتمع على ضلالة ، كما روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

خرجه أبو داود وغيره .

[ ص: 388 ] فهذه المسائل قد كفي المسلم أمرها ، ولم يبق فيها إلا اتباع ما جمع عليه الخلفاء الراشدون أولي العلم والعدل والكمال ، دون الاشتغال فيها بالبحث والجدال وكثرة القيل والقال ; فإن هذا كله لم يكن يخفى عمن سلف ، ولا يظن ذلك بهم سوى أهل الجهل والضلال . والله المسئول العصمة والتوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية