صفحة جزء
14 - باب

غسل المحيض

309 315 - حدثنا مسلم : ثنا وهيب : ثنا منصور ، عن أمه ، عن عائشة - أن امرأة من الأنصار قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : كيف أغتسل من المحيض ؟ قال : ( خذي فرصة ممسكة وتوضئي ) ثلاثا . ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استحيا وأعرض بوجهه ، أو قال : ( توضئي بها ) . فأخذتها ، فجذبتها ، فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم .


بوب البخاري في هذين البابين على ثلاثة أشياء :

أحدها : دلك المرأة نفسها عند غسل المحيض .

والثاني : أخذها الفرصة الممسكة .

والثالث : صفة غسل المحيض .

[ ص: 468 ] وخرج في الباب حديث منصور بن صفية بنت شيبة ، عن أمه . [وليس] في حديثه سوى ذكر الفرصة الممسكة . ولكنه أشار إلى أن [الحكمين] الآخرين قد رويا في حديث صفية ، عن عائشة من وجه [آخر] ، لكن ليس هو على شرطه ، فخرج الحديث الأول بالإسناد الذي على شرطه ، ونبه بذلك على الباقي .

وهذا الذي لم يخرجه قد خرجه مسلم في ( صحيحه ) من حديث شعبة ، عن إبراهيم بن المهاجر ، قال : سمعت صفية تحدث عن عائشة أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض . قال : ( تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها ، فتطهر ، فتحسن الطهور ، ثم تصب على رأسها ، فتدلكه دلكا شديدا ، حتى تبلغ شئون رأسها . ثم تصب عليه الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة ، فتطهر بها ) قالت أسماء : وكيف أتطهر بها ؟ فقال : ( سبحان الله ، تطهري بها ! ) فقالت عائشة كأنها تخفي ذلك : تتبعين بها أثر الدم .

وسألته عن غسل الجنابة ، فقال : ( تأخذ ماء ، فتطهر به ، فتحسن الطهور أو تبلغ الطهور . ثم تصب على رأسها ، فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ، ثم تفيض عليه الماء ) . فقالت عائشة : نعم النساء نساء الأنصار ; لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين
.

وفي رواية له أيضا قال : ( سبحان الله ، تطهري بها ! ) واستتر .

وخرجه مسلم أيضا من طريق أبي الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر ، وفي حديثه قال : دخلت أسماء بنت شكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره ، [ ص: 469 ] ولم يذكر فيه غسل الجنابة .

وخرجه أبو داود من طريق أبي الأحوص ، ولفظه ( تأخذ ماءها وسدرتها ، فتوضأ ، وتغسل رأسها وتدلكه ) - وذكر الحديث ، وزاد فيه : ( الوضوء ) .

ورواه أبو داود الطيالسي ، عن قيس بن الربيع ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن صفية ، عن عائشة ، قالت : أتت فلانة بنت فلان الأنصارية ، فقالت : يا رسول الله ، كيف الغسل من الجنابة ؟ فقال : ( تبدأ إحداكن فتوضأ ، فتبدأ بشق رأسها الأيمن ، ثم الأيسر حتى تنقي شئون رأسها ) . ثم قال : ( أتدرون ما شئون الرأس ؟ ) قالت : البشرة . قال : ( صدقت ، ثم تفيض على بقية جسدها ) . قالت : يا رسول الله ، فكيف الغسل من المحيض ؟ قال : ( تأخذ إحداكن سدرتها وماءها ، فتطهر ، فتحسن الطهور ، ثم تبدأ بشق رأسها الأيمن ، ثم الأيسر حتى تنقي شئون رأسها ، ثم تفيض على سائر جسدها ، ثم تأخذ فرصة ممسكة ، فتطهر بها ) . قالت : يا رسول الله ، كيف أتطهر بها ؟ فقلت : سبحان الله ! تتبعي بها آثار الدم .

وإبراهيم بن المهاجر لم يخرج له البخاري .

و( الفرصة ) بكسر الفاء وسكون الراء وبالصاد المهملة ، وهي القطعة .

قال أبو عبيد : هي القطعة من الصوف أو القطن أو غيره ، مأخوذ من فرصت الشيء : أي قطعته .

و( المسك ) : هو الطيب المعروف .

هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور ، والمراد أن هذه القطعة يكون فيها [ ص: 470 ] شيء من مسك ، كما في الرواية الثانية : ( فرصة ممسكة ) .

وزعم ابن قتيبة والخطابي أن الرواية ( مسك ) بفتح الميم ، والمراد به الجلد الذي عليه صوف ، وأنه أمرها أن تدلك به مواضع الدم .

ولعل البخاري ذهب إلى مثل ذلك ، ولذلك بوب عليه : ( دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من المحيض ) ، ويعضد ذلك أنه في ( كتاب الزينة والترجل ) قال : ( باب ما يذكر في المسك ) ، ولم يذكر فيه إلا حديث ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) . ولذلك - والله أعلم - لم يخرج البخاري هذا الحديث في ( باب : الطيب للمرأة عند غسل الحيض ) .

والصحيح الذي عليه جمهور الأئمة العلماء بالحديث والفقه أن غسل المحيض يستحب فيه استعمال المسك ، بخلاف غسل الجنابة ، والنفاس كالحيض في ذلك . وقد نص على ذلك الشافعي وأحمد ، وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته من مثل ابن قتيبة والخطابي ومن حذا حذوهما ممن يفسر اللفظ بمحتملات اللغة البعيدة .

ومعلوم أن ذكر المسك في غسل الجنابة لم يرو في غير هذا الحديث ، فعلم أنهم فسروا المسك فيه بالطيب .

وزعم الخطابي أن قوله : ( خذي فرصة من مسك ) - يدل على أن الفرصة نفسها هي المسك . قال : وهذا إنما يصح إذا كانت من جلد ، أما لو كانت قطعة من صوف أو قطن لم تكن من مسك .

وهذا ليس بشيء ; فإن المراد خذي نبذة يسيرة من مسك ، سواء كانت [ ص: 471 ] منفردة أو في شيء ، كما في الرواية الثانية ( خذي فرصة ممسكة ) .

قال الإمام أحمد في رواية حنبل : يستحب للمرأة إذا هي خرجت من حيضها أن تمسك مع القطنة شيئا من المسك ; ليقطع عنها رائحة الدم وزفرته ، تتبع به مجاري الدم .

ونقل عنه أيضا قال : يستحب للمرأة إذا طهرت من الحيض أن تمس طيبا ، وتمسكه مع القطنة ; ليقطع عنها رائحة الدم وزفورته ; لأن دم الحيض دم له رائحة .

وقال جعفر بن محمد : سألت أحمد عن غسل الحائض ، فذهب إلى حديث إبراهيم بن المهاجر ، عن صفية بنت شيبة ، وقال : تدلك شئون رأسها .

وقال يعقوب بن بختان : سألت أحمد عن النفساء والحائض ، كم مرة يغتسلان ؟ قال : كما تغسل الميتة . قال : وسألته عن الحائض متى توضأ ؟ قال : إن شاءت توضأت إذا بدأت واغتسلت ، وإن شاءت اغتسلت ثم توضأت .

وظاهر هذا أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره ; فإنه لم يرد في السنة تقديمه كما في غسل الجنابة ، وإنما ورد في حديث أبي الأحوص ، عن إبراهيم بن المهاجر : ( توضأ ، وتغسل رأسها ، وتدلكه ) - بالواو ، وهي لا تقتضي ترتيبا .

فتحصل من هذا أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة من وجوه :

أحدها : أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره ، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيه على الغسل .

والثاني : أن غسل الحيض يستحب أن يكون بماء وسدر ، ويتأكد استعمال السدر فيه ، بخلاف غسل الجنابة ; لحديث إبراهيم بن المهاجر .

قال الميموني : قرأت على ابن حنبل : أيجزئ الحائض الغسل بالماء ؟ [ ص: 472 ] فأملى علي : إذا لم تجد إلا وحده اغتسلت به ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ماءك وسدرتك ) ، وهو أكثر من غسل الجنابة . قلت : فإن كانت قد اغتسلت بالماء ، ثم وجدته ؟ قال : أحب إلي أن تعود ; لما قال .

الثالث : أن غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة ، بخلاف غسل الجنابة . وهذا ظاهر كلام أحمد ، ولا فرق في غسل الجنابة بين المرأة والرجل ، نص عليه أحمد في رواية مهنا .

والرابع : أن غسل الحيض يستحب أن يستعمل فيه شيء من الطيب ، في خرقة أو قطنة أو نحوهما ، يتبع به مجاري الدم .

وقد علل أحمد ذلك بأنه يقطع زفورة الدم ، وهذا هو المأخذ الصحيح عند أصحاب الشافعي أيضا . وشذ الماوردي ، فحكى في ذلك وجهين :

أحدهما : أن المقصود بالطيب تطييب المحل ; ليكمل استمتاع الزوج بإثارة الشهوة ، وكمال اللذة .

والثاني : لكونه أسرع إلى علوق الولد .

قال : فإن فقدت المسك ، وقلنا بالأول - أتت بما يقوم مقامه في دفع الرائحة ، وإن قلنا بالثاني فما يسرع إلى العلوق كالقسط والأظفار ونحوهما .

قال : واختلف الأصحاب في وقت استعماله ; فمن قال بالأول قال : بعد الغسل ، ومن قال بالثاني فقبله .

قال صاحب ( شرح المهذب ) : وهذا الوجه الثاني ليس بشيء ، وما يفرع عليه أيضا ليس بشيء ، وهو خلاف ما عليه الجمهور ، والصواب أن المقصود به تطييب المحل ، وأنها تستعمله بعد الغسل .

[ ص: 473 ] ثم ذكر حديث عائشة أن أسماء بنت شكل سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض ، فقال : ( تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها ، فتطهر ، فتحسن الطهور . ثم تصب على رأسها ، فتدلكه ، ثم تصب عليها الماء ، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها ) . خرجه مسلم .

قال : وقد نصوا على استحبابه للزوجة وغيرها ، والبكر والثيب . والله أعلم .

قال : واستعمال الطيب سنة متأكدة ، يكره تركه بلا عذر . انتهى .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( خذي فرصة ممسكة فتطهري بها ) ، وفي رواية ( توضئي بها ) - يدل على أن المراد به التنظيف والتطييب والتطهير ، وكذلك سماه تطهيرا ، وتوضؤا ، والمراد الوضوء اللغوي الذي هو النظافة .

وقول عائشة : ( تتبعي بها مجاري الدم ) - إشارة إلى إدخاله الفرج .

واستحب بعض الشافعية استعمال الطيب في كل ما أصابه دم الحيض من [الجسد] أيضا ; لأن المقصود قطع رائحة الدم حيث كان .

ونص أحمد على أنه [لا يجب] غسل باطن الفرج من حيض ، ولا جنابة ، ولا استنجاء .

قال جعفر بن محمد : قلت لأحمد : إذا اغتسلت من المحيض تدخل يدها ؟ قال : لا ، إلا ما ظهر ، [ولم] ير عليها أن تدخل أصبعها ولا يدها في فرجها في غسل ولا وضوء .

ولأصحابنا وجه بوجوب ذلك في الغسل والاستنجاء ، ومنهم من قال : إن [ ص: 474 ] كانت [ثيبا] وخرج البول بحدة ولم يسترسل لم يجب سوى الاستنجاء في موضع خروج البول ، وإن استرسل فدخل منه شيء الفرج وجب غسله .

ومذهب الشافعي أن الثيب يجب [عليها] إيصال الماء إلى ما يظهر في حال قعودها لقضاء الحاجة ; لأنه صار حكم الظاهر ، نص على ذلك الشافعي ، وشبهه بما بين الأصابع . وعليه جمهور أصحابه ، وما وراء ذلك على ذلك فهو عندهم في حكم الباطن على الصحيح .

ولهم وجه آخر أنه يجب عليها إيصال الماء إلى داخل فرجها ، بناء على القول بنجاسته .

ووجه آخر أنه يجب في غسل الحيض والنفاس ; لإزالة النجاسة ، ولا يجب في الجنابة .

ومنهم من قال : لا يجب إيصاله إلى شيء من داخل الفرج بالكلية ، كما لا يجب إيصاله إلى داخل الفم عندهم .

والخامس : أن غسل الحيض تنقض فيه شعرها إذا كان مضفورا ، بخلاف غسل الجنابة عند أحمد ، وهو قول طاوس والحسن .

وسيأتي ذكر ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية