صفحة جزء
314 [ ص: 491 ] 19 - باب

إقبال المحيض وإدباره

وكن نساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف ، فيه الصفرة ، فتقول : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ، تريد بذلك الطهر من الحيضة .

وبلغ ابنة زيد بن ثابت أن نساء يدعون بالمصابيح من جوف الليل ، ينظرن إلى الطهر ، فقالت : ما كان النساء يصنعن هذا ! وعابت عليهن .


هذان الأثران خرجهما مالك في ( الموطإ ) ، فروى عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه مولاة عائشة - أنها قالت : كان النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف ، فيه الصفرة من دم الحيضة ، يسألنها عن الصلاة ، فتقول : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء ، تريد بذلك الطهر من الحيضة .

وروى أيضا عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمته ، عن ابنة زيد بن ثابت - أنه بلغها أن نساء كن يدعون بالمصابيح من جوف الليل ، ينظرن إلى الطهر ، فكانت تعيب ذلك عليهن ، وتقول : ما كان النساء يصنعن هذا !

وإنما كان نساء الصدر الأول يصنعن هذا لشدة اهتمامهن بالصلاة ، وأمور الدين رضي الله عنهن .

قال ابن عبد البر : إنما أنكرت بنت زيد بن ثابت على النساء افتقاد أحوالهن في غير وقت الصلاة وما قاربها ; لأن جوف الليل ليس بوقت صلاة ، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة ، فإن كن قد طهرن تأهبن للغسل ; لما عليهن من الصلاة . انتهى .

[ ص: 492 ] وفيما قاله نظر ; فإن جوف الليل وقت لصلاة العشاء ، فإذا طهرت فيه الحائض لزمها صلاة العشاء وصلاة المغرب أيضا عند كثير من العلماء .

وإنما أنكرت بنت زيد - والله أعلم - النظر في لون الدم ، وأن مدة العادة تحكم بأن جميع ما يرى فيها دم حيض وإن اختلفت ألوانه .

وهذا المعنى أقرب إلى إدخال البخاري له في هذا الباب ، وإلى إدخال مالك له في ( الموطإ ) في ( باب طهر الحيض ) ، وسياقهما له بعد قول عائشة الذي صدر به البخاري هذا الباب .

و( الدرجة ) قد رويت بضم الدال المشددة وسكون الراء ، فتكون تأنيث ( درج ) . ورويت بكسر الدال وفتح الراء ، فتكون جمع ( درج ) كما تجمع ( خرج وترس ) على ( خرجة وترسة ) .

و( الدرج ) المراد به هنا خرق تلف وفيها قطن ، وهو الكرسف ، فتدخله المرأة الحائض في فرجها ; لتنظر ما يخرج على القطن ; فإذا خرج عليه دم أحمر أو أسود علمت المرأة أن دم حيضها باق ، وإن خرج عليه صفرة فقد أفتت عائشة - رضى الله عنها - بأنه حيض أيضا ، وأن الحائض لا ينقطع حيضها حتى ترى القصة البيضاء .

و( القصة ) بفتح القاف أصلها القطعة من الجص الأبيض ، وأرادت عائشة بذلك أن القطنة تخرج بيضاء ، ليس فيها شيء من الصفرة ولا الكدرة ، فيكون ذلك علامة نقائها وطهرها .

وقالت طائفة : بل القصة البيضاء عبارة عن ماء أبيض يخرج عقب الدم من النساء في آخر الحيض ، فلا تطهرن بدونه . وقيل : إنه يشبه الخيط الأبيض ، وهذا قول مالك وغيره .

[ ص: 493 ] وروى الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن ميسرة ، عن عبد الرحمن بن ذؤيب ، عن عائشة ، قالت : الطهر أن ترى المرأة بعد الدم ماء أبيض قطعا . خرجه حرب الكرماني .

وحكى الخطابي عن ابن وهب أنه قال في تفسير القصة البيضاء : رأيت القطن الأبيض ، كأنه هو .

وعن ابن أبي سلمة قال : إذا كان ذلك نظرت المرأة إلى مثل ريقها في اللون ، فتطهر بذلك فيما بلغنا .

وعن مالك قال : سألت النساء عن القصة البيضاء ، فإذا ذاك أمر معروف عند النساء ، يرينه عند الطهر .

وهذا المحكي عن مالك يوافق القول الثاني الذي ذكرناه ، وأن القصة البيضاء عبارة عن شيء أبيض يخرج في آخر دم الحيض .

وقال ابن عبد البر : اختلف أصحاب مالك عنه في علامة الطهر ; ففي ( المدونة ) : قال مالك : إذا كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتى تراها ، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف ، وذلك أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة . وبه قال عيسى بن دينار ، قال : القصة البيضاء أبلغ في براءة الرحم من الجفوف .

وفي ( المجموعة ) : قال مالك : إذا رأت الجفوف وهي ممن ترى القصة البيضاء فلا تصلي حتى تراها ، إلا أن يطول ذلك بها . وقال ابن حبيب : تطهر بالجفوف ، وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء .

قال ابن حبيب : والجفوف أبرأ للرحم من القصة البيضاء .

[ ص: 494 ] قال : فمن كان طهرها القصة البيضاء ، ورأت الجفوف - فقد طهرت .

قال : ولا تطهر التي طهرها الجفوف برؤيتها القصة البيضاء حتى ترى الجفوف .

قال : وذلك أن أول الحيض دم ، ثم صفرة ، ثم ترية ، ثم كدرة . ثم يكون ريقا كالفضة ، ثم ينقطع . فإذا انقطع قبل هذه المنازل فقد برئت الرحم من الحيض . قال : والجفوف أبرأ وأوعب ، وليس بعد الجفوف انتظار . انتهى ما ذكره ابن عبد البر رحمه الله .

وفي ( تهذيب المدونة ) : تغتسل إن رأت القصة البيضاء ، فإن كانت ممن لا تراها فحين ترى الجفوف .

قال ابن القاسم : والجفوف أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة .

قال أبو عبيد : الترية الشيء الخفي اليسير ، وهو أقل من الصفرة والكدرة ، ولا تكون الترية إلا بعد اغتسال . فأما ما كان في أيام الحيض فهو حيض وليس بترية . انتهى .

واختلف قول الإمام أحمد في تفسير القصة البيضاء ; فنقل الأكثرون عنه أنه شيء أبيض يتبع الحيضة ، ليس بصفرة ولا كدرة ، فهو علامة الطهر ، وحكاه أحمد عن الشافعي . ونقل حنبل عن أحمد أن القصة البيضاء هو الطهر وانقطاع الدم ، وكذلك فسر سفيان الثوري القصة البيضاء بالطهر من الحيض .

[ ص: 495 ] وأرسلت امرأة إلى عمرة بنت عبد الرحمن بدرج فيه كرسفة قطن ، فيها كالصفرة ، تسألها : هل ترى إذا لم تر المرأة من الحيضة إلا هذا أن قد طهرت ؟ فقالت : لا ، حتى ترى البياض خالصا .

وروى الأثرم بإسناده عن ابن الزبير أنه قال على المنبر : يا معشر النساء ، إذا رأت إحداكن القصة البيضاء فهو الطهر .

وقال مكحول : لا تغتسل المرأة من الحيض إذا طهرت حتى ترى طهرا أبيض . وقد حكى أبو عبيد القولين في تفسير القصة البيضاء .

ودل قول عائشة رضي الله عنها هذا على أن الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وأن من لها أيام معتادة تحيض فيها ، فرأت فيها صفرة أو كدرة - فإن ذلك يكون حيضا معتبرا .

وهذا قول جمهور العلماء ، حتى إن منهم من نقله إجماعا ، منهم عبد الرحمن بن مهدي وإسحاق بن راهويه ، ومرة خص إسحاق حكاية الإجماع بالصفرة دون الكدرة .

ولكن ذهب طائفة قليلة ، منهم الأوزاعي وأبو ثور وداود وابن المنذر وبعض الشافعية - إلى أنه لا يكون ذلك حيضا حتى يتقدمه في مدة العادة دم .

واشترط بعض الشافعية أن يكون الدم المتقدم يبلغ أقل الحيض . ومنهم من اشترط أن يلحقه دم أيضا . ومنهم من اشترط أن يلحقه دم يبلغ أقل الحيض .

وقال أبو يوسف : الصفرة حيض ، والكدرة ليست حيضا ، إلا أن يتقدمها دم . وحكي عن داود أن الصفرة والكدرة لا تكون حيضا بكل حال .

[ ص: 496 ] فأما ما زاد على أيام العادة ، واتصل بها ، وكان صفرة أو كدرة - فهل يكون حيضا ؟ أم لا ؟ فيه قولان :

أحدهما : أنه حيض ، وهو أشهر الروايتين عن مالك ، والمشهور عن الشافعي أيضا ، وعليه أكثر أصحابه ، وقول الحكم وأبي حنيفة وإسحاق .

والثاني : أنه ليس بحيض ، وهو رواية عن مالك ، وقول الثوري والإصطخري وغيره من الشافعية .

وأما الإمام أحمد فإنه يرى أن الزائد على العادة لا يلتفت إليه أول مرة حتى يتكرر مرتين أو ثلاثا على اختلاف عنه ، وقد سبق ذكر ذلك .

فإن زاد على العادة بصفرة أو كدرة ، وتكرر ثلاثا - فهل يكون حيضا ؟ أم لا ؟ فيه عنه روايتان .

وقد روي عن عائشة أنها لا تلتفت إلى الزائد على العادة من الصفرة والكدرة . خرجه حرب والبيهقي من رواية سليمان بن موسى ، عن عطاء ، عن عائشة ، قالت : إذا رأت المرأة الدم فلتمسك عن الصلاة حتى تراه أبيض كالفضة ، فإذا رأت ذلك فلتغتسل ولتصل ، فإذا رأت بعد ذلك صفرة أو كدرة فلتتوضأ ولتصل ، فإذا رأت دما أحمر فلتغتسل ولتصل .

وروي عن أسماء بنت أبي بكر ما يشعر بخلاف ذلك ، فروى البيهقي وغيره من رواية ابن إسحاق ، عن فاطمة بنت المنذر ، عن أسماء ، قالت : كنا في حجرها مع بنات أخيها ، فكانت إحدانا تطهر ، ثم تصلي ، ثم تنتكس بالصفرة اليسيرة ، فنسألها ، فتقول : اعتزلن الصلاة ما رأيتن ذلك ، حتى ترين البياض خالصا .

[ ص: 497 ] وقد حمله بعض أصحابنا على أن الصفرة أو الكدرة إذا رئيت بعد الطهر وانقطاع الدم فإنها لا تكون حيضا ولو تكررت ، على الصحيح عندهم ، بخلاف ما إذا رأت ذلك متصلا بالدم وتكرر .

فهذا كله في حق المعتادة .

فأما المبتدأة فإذا رأت في زمن يصلح للحيض صفرة أو كدرة فقالت طائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى ومن تابعه ، وأكثر أصحاب الشافعي : إنه يكون حيضا ; لأن زمن الدم للمبتدأة كزمن العادة للمعتادة .

وقالت طائفة من أصحابنا : لا يكون حيضا ، وقالوا : إنه ظاهر كلام أحمد ، وهو قول طائفة من الشافعية أيضا . وحكاه الخطابي عن عائشة وعطاء وأكثر الفقهاء ; لأنه اجتمع فيه فقد العادة ولون الدم المعتاد ، فقويت جهة فساده . وعلى هذا فينبغي أنه إن تكرر ذلك ثلاثا أن يكون حيضا إن قلنا : إن المتكرر بعد العادة حيض . وقد يفرق بينهما بأن المتكرر بعد العادة قد سبقه دم بخلاف هذا .

وقد ذهب طائفة من أصحابنا ، منهم ابن حامد وابن عقيل إلى أن المبتدأة إذا رأت أول مرة دما أحمر فليس بدم حيض حتى يكون أسود ، وهو قول بعض الشافعية أيضا ; للحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في دم الحيض : ( إنه أسود يعرف ) .

وهذا ينتقض عليهم بالمعتادة ; فإنها إذا كانت عادتها أسود ، ثم رأت في مدة العادة دما أحمر - فإنه حيض بغير خلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية