صفحة جزء
319 [ ص: 510 ] 24 - باب

إذا حاضت في شهر ثلاث حيض ، وما يصدق النساء

في الحيض والحمل فيما يمكن من الحيض

لقول الله تعالى : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن

ويذكر عن علي وشريح : إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه ، أنها حاضت ثلاثا في شهر - صدقت .

وقال عطاء : أقراؤها ما كانت ، وبه قال إبراهيم .

وقال عطاء : الحيض يوم إلى خمسة عشر .

وقال المعتمر ، عن أبيه : سألت ابن سيرين عن المرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام ، قال : النساء أعلم بذلك .


أما قول الله عز وجل : ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن - فإنه يدل على أن المرأة مؤتمنة على الإخبار بما في رحمها ، ومصدقة فيه إذا ادعت من ذلك ممكنا .

روى الأعمش عن مسلم ، عن مسروق ، عن أبي بن كعب ، قال : إن من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها .

وقد اختلف المفسرون من السلف فمن بعدهم في المراد بقوله تعالى : [ ص: 511 ] ما خلق الله في أرحامهن ففسره قوم بالحمل ، وفسره قوم بالحيض .

وقال آخرون : كل منهما مراد ، واللفظ صالح لهما جميعا . وهذا هو المروي عن أكثر السلف ، منهم ابن عمر وابن عباس ومجاهد والحسن والضحاك .

وأما ما ذكره عن علي وشريح فقال حرب الكرماني : ثنا إسحاق هو ابن راهويه : ثنا عيسى بن يونس ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي - أن امرأة جاءت إلى علي بن أبي طالب ، فقالت : إني طلقت ، فحضت في شهر ثلاث حيض ؟ فقال علي لشريح : قل فيها ! فقال : أقول فيها وأنت شاهد ! قال : قل فيها ! قال : إن جاءت ببطانة من أهلها ممن يرضى دينهن وأمانتهن فقلن : إنها حاضت ثلاث حيض طهرت عند كل حيضة – صدقت . فقال علي : قالون . قال عيسى : بالرومية أصبت .

قال حرب : وثنا إسحاق : أبنا محمد بن بكر : ثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن الحسن العرني - أن امرأة طلقها زوجها ، فحاضت في خمس وثلاثين ليلة ثلاث حيض . فرفعت إلى شريح ، فلم يدر ما يقول فيها ، ولم يقل شيئا . فرفعت إلى علي بن أبي طالب ، فقال : سلوا عنها جاراتها ، فإن كان هكذا حيضها فقد انقضت عدتها ، وإلا فأشهر ثلاث .

وهذا الإسناد فيه انقطاع ; فإن الحسن العرني لم يدرك عليا ، قاله أبو حاتم الرازي .

وأما الإسناد الذي قبله فإن الشعبي رأى عليا يرجم شراحة ووصفه . قال يعقوب بن شيبة : لكنه لم يصحح سماعه منه .

[ ص: 512 ] وأما ما ذكره البخاري عن عطاء والنخعي فروى ابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن يزيد ، عن عطاء ، في امرأة طلقت ، فتتابعت لها ثلاث حيض في شهر - هل [حلت] ؟ قال : أقراؤها ما كانت .

وروي نحوه عن النخعي كما حكاه البخاري ، وحكاه عنه إسحاق بن راهويه .

فهؤلاء كلهم يقولون : إن المرأة قد تنقضي عدتها بثلاثة أقراء في شهر واحد ، وهو قول كثير من العلماء ، منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم .

وهذا ينبني على أصلين :

أحدهما : الاختلاف في الأقراء هل هي الأطهار ؟ أو الحيض ؟ وفيه قولان مشهوران .

ومذهب مالك والشافعي أنها الأطهار ، ومذهب أحمد - الصحيح عنه - وإسحاق أنها الحيض . وستأتي المسألة مستوفاة في موضع آخر من الكتاب إن شاء الله تعالى .

والثاني : الاختلاف في مدة أقل الحيض وأقل الطهر بين الحيضتين ; فأما أقل الحيض فمذهب الشافعي وأحمد - المشهور عنه - وإسحاق أنه يوم وليلة . وأما أقل الطهر بين الحيضتين فمذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه أنه خمسة عشر يوما ، وهو قول كثير من أصحاب مالك .

والمشهور عن أحمد أن أقله ثلاثة عشر يوما .

وعند إسحاق أقله عشرة أيام ، نقله عنه حرب .

وهو رواية ابن القاسم ، عن مالك .

[ ص: 513 ] واختلفت الرواية عن مالك في ذلك ; فعلى قول من قال : الأقراء الحيض ، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما - فيمكن انقضاء العدة بثلاثة قروء في تسعة وعشرين يوما . وعلى قول من قال : الأقراء الحيض ، وأقل الطهر خمسة عشر - فلا تنقضي العدة في أقل من ثلاثة وثلاثين يوما .

وأما على قول من يقول : الأقراء الأطهار ; فإن قيل بأن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر فأقل ما تنقضي فيه العدة بالأقراء ثمانية وعشرون يوما . وإن قيل : أقل الطهر خمسة عشر - فاثنان وثلاثون يوما .

فأما مالك وأصحابه فقال ابن القاسم : سألت مالكا : إذا قالت : قد حضت ثلاث حيض في شهر ، قال : تسأل النساء عن ذلك ، فإن كن يحضن كذلك ، ويطهرن له - كانت مصدقة .

وهذا هو مذهب مالك المذكور في ( المدونة ) ، واختاره الأبهري من أصحابه ، وبناه على أن الحيض لا حد لأقله ، بل أقله دفقة وأقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر .

ومن المالكية من قال : يقبل في أربعين يوما . فاعتبر أقل الطهر وخمسة أيام من كل حيضة . ومنهم من قال : تنقضي في ستة وثلاثين يوما ، فاعتبر أقل الطهر وثلاثة أيام للحيضة .

فلم يعتبر هذا ولا الذي قبله أقل الحيض ولا أكثره .

وقد ينبني الذي نقله ابن القاسم عن مالك على قوله : إنه لا حد لأقل الطهر بين الحيضتين ، بل هو على ما تعرف المرأة من عادتها .

وهو رواية منصوصة عن أحمد ، اختارها أبو حفص البرمكي من أصحابنا ، وأورد على نفسه أنه يلزم على هذا أنها إذا ادعت انقضاء العدة في أربعة أيام [ ص: 514 ] قبل منها ، فأجاب أنه لا بد من الأقراء الكاملة ، وأقل ما يمكن في شهر . كذا قال .

ونقل الأثرم عن أحمد أنه لا توقيت في الطهر بين الحيضتين ، إلا في موضع واحد : إذا ادعت انقضاء عدتها في شهر فإنها تكلف البينة .

ونقل ابن عبد البر أن الشافعي قال : أقل الطهر خمسة عشر ، إلا أن يعلم طهر امرأة أقل من خمسة عشر ، فيكون القول قولها .

ومذهب أبي حنيفة : لا تصدق في دعوى انقضاء العدة في أقل من ستين يوما ، واختلف عنه في تعليل ذلك ; فنقل عنه أبو يوسف أنها تبدأ بطهر كامل خمسة عشر يوما ، وتجعل كل حيضة خمسة أيام ، والأقراء عندهم الحيض . ونقل عنه الحسن بن زياد أنه اعتبر أكثر الحيض وهو عشرة أيام عندهم ، وأقل الطهر وهو خمسة عشر ، وبدأ بالحيض .

وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد : لا تصدق إلا في كمال تسعة وثلاثين يوما ، بناء على أقل الحيض ، وهو عندهم ثلاثة ، وأقل الطهر ، وهو خمسة عشر .

وقال سفيان الثوري : لا تصدق في أقل من أربعين يوما ، وهو أقل ما تحيض فيه النساء وتطهر . وهذا كقول أبي يوسف ومحمد .

وعن الحسن بن صالح : لا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوما ، نقله عنه الطحاوي .

وقال حرب الكرماني : ثنا إسحاق : ثنا أبي ، قال : سألت ابن المبارك ، فقال : أرأيت قول سفيان : تصدق المرأة في انقضاء عدتها في شهر ، كيف هذا ؟ وما معناه ؟ فقال : جعل ثلاثا حيضا ، وعشرا طهرا ، وثلاثا حيضا . كذا قال .

وقد ذكر بعض أصحاب سفيان في مصنف له على مذهبه رواية ابن المبارك [ ص: 515 ] هذه عن سفيان أنها لا تصدق في أقل من تسعة وثلاثين يوما ، وعزاها إلى الطحاوي ، ووجهها بأن أقل الحيض ثلاثة أيام وأقل الطهر خمسة عشر . قال : ورواية المعافى والفريابي عن سفيان أنها لا تصدق في أقل من أربعين يوما ، قال : وهما بمعنى واحد .

وأما إسحاق بن راهويه فإنه حمل المروي عن علي في ذلك على أنه جعل الطهر عشرة أيام ، والحيض ثلاثة ، لكن إسحاق لا يرى أن أقل الحيض ثلاث .

ولم يذكر أكثر هؤلاء أن قبول دعواها يحتاج إلى بينة ، وهو قول الخرقي من أصحابنا .

والمنصوص عن أحمد أن دعوى انقضاء العدة في شهر لا تقبل بدون بينة ، تشهد به من النساء . ودعوى انقضائها في زيادة على شهر تقبل بدون بينة ; لأن المرأة مؤتمنة على حيضها كما قال أبي بن كعب وغيره . وإنما اعتبرنا البينة في دعواها في الشهر خاصة للمروي عن علي بن أبي طالب كما تقدم .

ومن أصحابنا من قال : إن ادعته في ثلاثة وثلاثين يوما قبل بغير بينة ; لأن أقل الطهر المتفق عليه خمسة عشر يوما ، وإنما يحتاج إلى بينة إذا ادعته في تسعة وعشرين ; لأنه يمكن ; فإن أقل الطهر ثلاثة عشر في رواية .

ومنهم من قال : إنما يقبل ذلك بغير بينة في حق من ليس لها عادة مستقرة ، فأما من لها عادة منتظمة فلا تصدق إلا ببينة على الأصح ، كذا قاله صاحب ( الترغيب ) .

وقال ابن عقيل في ( فنونه ) : ولا تقبل مع فساد النساء وكثرة كذبهن دعوى انقضاء العدة في أربعين ولا خمسين [يوما] إلا ببينة تشهد أن هذه عادتها ، أو أنها رأت الحيض على هذا المقدار ، وتكرر ثلاثا .

[ ص: 516 ] وقال إسحاق وأبو عبيد : لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر ، إلا أن تكون لها عادة معلومة قد عرفها بطانة أهلها المرتضى دينهن وأمانتهن ، فيعمل بها حينئذ . ومتى لم يكن كذلك فقد وقعت الريبة ، فيحتاط وتعدل الأقراء بالشهور كما في حق الآيسة والصغيرة .

وأما ما حكاه البخاري عن عطاء أن الحيض يوم إلى خمسة عشر فهذا معروف عن عطاء .

وقد اختلف العلماء في أقل الحيض وأكثره ; فأما أقله فمنهم من قال : يوم ، كما روي عن عطاء . ومنهم من قال : يوم وليلة ، وروي أيضا عن عطاء .

وروي أيضا مثل هذين القولين عن الأوزاعي والشافعي وأحمد ، فقال كثير من أصحابهم : إنهما قولان لهم . ومن أصحابنا وأصحاب الشافعي من قال : إنما مراد الشافعي [ وأحمد ] يوم مع ليلته ; فإن العرب تذكر اليوم كثيرا ويريدون : مع ليلته .

وممن قال : أقله يوم وليلة - إسحاق وأبو ثور .

وقالت طائفة : لا حد لأقله ، بل هو على ما تعرفه المرأة من نفسها ، وهو المشهور عن مالك ، وقول أبي داود وعلي بن المديني ، وروي عن الأوزاعي أيضا .

ونقل ابن جرير الطبري عن الربيع ، عن الشافعي - أن الحيض يكون يوما [وأقل] وأكثر .

قال الربيع : وآخر قولي الشافعي : أن أقله يوم وليلة .

[ ص: 517 ] وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري : أقله ثلاثة أيام .

وروي ذلك عن ابن مسعود وأنس من قولهما ، وروي مرفوعا من طرق ، والمرفوع كله باطل لا يصح . وكذلك الموقوف طرقه واهية ، وقد طعن فيها غير واحد من أئمة الحفاظ .

وقالت طائفة : أقله خمسة أيام ، وروي عن مالك .

ولم يصح عند أكثر الأئمة في هذا الباب توقيت مرفوع ولا موقوف ، وإنما رجعوا فيه إلى ما حكي من عادات النساء خاصة ، وعلى مثل ذلك اعتمد الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم .

وأما أكثر الحيض فقال عطاء : هو خمسة عشر يوما . وحكي مثله عن شريك والحسن بن صالح ، وهو قول مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ، وإسحاق وداود وأبي ثور ، وغيرهم .

ومن أصحابنا والشافعية من قال : خمسة عشر يوما بلياليها . قال بعض الشافعية : وهذا القيد لا بد منه ; لتدخل الليلة الأولى ، والاعتماد في ذلك على ما حكي من حيض بعض النساء خاصة .

وأما الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في نقصان دين النساء : ( تمكث شطر عمرها لا تصلي ) - فإنه لا يصح ، وقد طعن فيه ابن منده والبيهقي وغيرهما من الأئمة .

وقالت طائفة : أكثره سبعة عشر . حكي عن عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن نافع صاحب مالك .

وهو رواية عن أحمد ، واختارها أبو بكر عبد العزيز . ومن أصحابنا كأبي حفص البرمكي من قال : لا يصح عن أحمد ، إنما حكى ذلك أحمد عن غيره ، [ ص: 518 ] ولم يوافقه .

وحكي عن بعضهم : أكثره ثلاثة عشر . وحكي عن سعيد بن جبير .

وقال سفيان وأبو حنيفة وأصحابه : أكثره عشرة أيام . واعتمدوا في ذلك على أحاديث مرفوعة وآثار موقوفة عن أنس وابن مسعود وغيرهما كما سبق .

والأحاديث المرفوعة باطلة ، وكذلك الموقوفة على الصحابة ، قاله الإمام أحمد في رواية الميموني وغيره .

وقد روي أيضا عن الحسن وخالد بن معدان ، وأنكره الإمام أحمد عن خالد .

وروي عن الحسن : أكثره خمسة عشر .

وحكي عن طائفة [أن] أكثره سبعة أيام ، [قال مكحول : وقت الحائض سبعة أيام] .

وعن الضحاك قال : تقعد سبعة أيام ، ثم تغتسل وتصلي .

وعن الأوزاعي في المبتدأة : تمكث [أعلى] أقراء النساء سبعة أيام ، ثم تغتسل وتصلي كما تفعل المستحاضة .

وحكى الحسن بن ثواب ، عن أحمد ، قال : عامة الحيض ستة أيام إلى سبعة . [قيل له : فإن امرأة من آل أنس كانت تحيض خمسة عشر ؟ قال : قد كان ذلك . وأدنى الحيض يوم ، وأقصاه عندنا ستة أيام إلى سبعة] ، ثم ذكر حديث : ( تحيضي في علم الله ستا أو سبعا ) .

وكلام أحمد ومن ذكرنا معه في هذا إنما مرادهم به - والله أعلم - أن السبعة غالب الحيض وأكثر عادات النساء ، لا أنه أقصى حيض النساء كلهن .

[ ص: 519 ] وقالت طائفة : لا حد لأكثر الحيض ، وإنما هو على حسب ما تعرفه كل امرأة من عادة نفسها . فلو كانت المرأة لا تحيض في السنة إلا مرة واحدة ، وتحيض شهرين متتابعين - فهو حيض صحيح . روي نحو ذلك عن ميمون بن مهران والأوزاعي ، ونقله حرب عن إسحاق وعلي بن المديني .

ويشبه هذا ما قاله ابن سيرين : النساء أعلم بذلك ، كما حكاه البخاري عنه تعليقا من رواية معتمر بن سليمان ، عن أبيه ، أنه سأل ابن سيرين عن امرأة ترى الدم بعد قرئها بخمسة أيام ! قال : النساء أعلم بذلك .

ومراد ابن سيرين - والله أعلم - أن المرأة أعلم بحيضها واستحاضتها ، فما اعتادته حيضا وتبين لها أنه حيض جعلته حيضا ، وما لم تعتده ولم يتبين لها أنه حيض فهو استحاضة .

وقد ذكر طائفة من أعيان أصحاب الشافعي أن من لها عادة مستمرة على حيض وطهر أقل من يوم وليلة وأكثر من خمسة عشر أنها تعمل بعادتها في ذلك ، منهم أبو إسحاق الإسفراييني والقاضي حسين والدارمي وأبو عمرو بن الصلاح ، وذكر أنه نص الشافعي ، نقله عنه صاحب ( التقريب ) .

وما نقله ابن جرير عن الربيع ، عن الشافعي ، كما تقدم - يشهد له أيضا .

التالي السابق


الخدمات العلمية