صفحة جزء
324 [ ص: 538 ] 28 - باب

إذا رأت المستحاضة الطهر

قال ابن عباس : تغتسل وتصلي ولو ساعة ، ويأتيها زوجها إذا صلت ; الصلاة أعظم .


هذا الأثر ذكره أبو داود تعليقا ، فقال : روى أنس بن سيرين ، عن ابن عباس في المستحاضة ، قال : إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي ، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي .

وقد ذكره الإمام أحمد واستحسنه ، واستدل به وذهب إليه .

وقال في رواية الأثرم وغيره : ثنا إسماعيل هو ابن علية ، ثنا خالد الحذاء ، عن أنس بن سيرين ، قال : استحيضت امرأة من آل أنس ، فأمروني ، فسألت ابن عباس ، فقال : أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي ، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل .

قال أحمد : ما أحسنه !

والدم البحراني قيل : هو الأحمر الذي يضرب إلى سواد .

وروي عن عائشة أنها قالت : دم الحيض بحراني أسود . خرجه البخاري في ( تاريخه ) .

وقيل : البحراني هو الغليظ الواسع الذي يخرج من قعر الرحم ، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته .

[ ص: 539 ] وقول ابن عباس : ( إذا رأت الطهر ساعة من نهار فلتغتسل ولتصل ) - محمول على غير المستحاضة ; فإن المستحاضة تصلي إذا جاوزت أيام حيضها ، سواء انقطع دمها أو لم ينقطع . وإذا اغتسلت عند انقضاء حيضها وصلت ، ثم انقطع دمها بعد ذلك - فلا غسل عليها عند انقطاعه ، وإنما يصح حمل هذا على الدم الجاري في أيام الحيض ، وأنه إذا انقطع ساعة فهي طاهر تغتسل وتصلي ، وسواء كان بعد تمام عادة الحيض أو قبل تمام العادة .

وقد ذهب الإمام أحمد إلى قول ابن عباس في هذا ، واستدل به ، وعليه أكثر أصحابنا . ومنهم من اشترط مع ذلك أن ترى علامة الطهر مع ذلك ، وهو القصة البيضاء كما سبق ذكرها .

وعن أحمد : لا يكون الطهر في خلال دم الحيض أقل من يوم ، وصحح ذلك بعض الأصحاب ; فإن دم الحيض لا يستمر جريانه ، بل ينقطع تارة ويجري تارة ، فإذا كان مدة انقطاعه يوما فأكثر فهو طهر صحيح ، وإلا فلا .

وحكى الطحاوي الإجماع على أن انقطاع الدم ساعة ونحوها لا عبرة به ، وأنه كالدم المتصل ، وليس كما ادعاه .

ومن العلماء من ذهب إلى أن مدة النقاء في أثناء خلال الدم وإن طالت ، إذا عاد الدم بعد ذلك في مدة الحيض - يكون حيضا ، لا تصلي فيه ولا تصوم . وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، والثوري ، وأحد قولي الشافعي ، وروى ابن منصور عن أحمد نحوه .

وتعرف المسألة بمسألة التلفيق ، ولها فروع وتفاصيل كثيرة جدا .

وحينئذ ففي تبويب البخاري ( المستحاضة إذا رأت الطهر ) نظر ، بل الأولى أن يقال : ( الحائض إذا رأت الطهر ساعة ) .

وإنما اعتمد على لفظ الرواية عن ابن عباس ، ولعل ابن عباس أراد أن [ ص: 540 ] المستحاضة إذا كانت مميزة جلست زمن دمها الأسود ، فإذا انقطع الأسود ولو ساعة فإنه زمن طهرها ، فتغتسل وتصلي حينئذ .

وقد حمله إسحاق بن راهويه على مثل هذا ، فقال في رواية حرب في استدلاله على اعتبار التمييز للمستحاضة بحديث ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ) ، الحديث - قال : وكذلك روي عن ابن عباس أنه قال لامرأة مستحاضة : أما ما دامت ترى الدم البحراني فلتدع الصلاة ، فإذا جاوزت ذلك اغتسلت وصلت .

وكذلك وقع في كلام الإمام أحمد في رواية الشالنجي حمل كلام ابن عباس على مثل هذا ، وهو يرجع إلى أن المستحاضة تعمل بالتمييز ، فتجلس زمن الدم الأسود ، فإذا انقطع عنها ورأت حمرة أو صفرة أو كدرة فإن ذلك طهرها ، فتغتسل حينئذ وتصلي . والله أعلم .

وأما ما ذكر البخاري أنه يأتيها زوجها إذا صلت ; الصلاة أعظم - فظاهر سياق حكايته يقتضي أن ذلك من تمام كلام ابن عباس ، ولم نقف على إسناد ذلك عن ابن عباس ، وليس هو من تمام رواية أنس بن سيرين في سؤاله لابن عباس عن المستحاضة من آل أنس .

وقد روي عن ابن عباس من وجه آخر الرخصة في وطء المستحاضة من رواية ابن المبارك ، عن أجلح ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال في المستحاضة : لا بأس أن يجامعها زوجها .

ويحتمل أن يكون البخاري ذكر هذا الكلام من عند نفسه بعد حكايته لما قبله عن ابن عباس . وهذا الكلام إنما يعرف عن سعيد بن جبير . روى وكيع ، عن سفيان ، عن سالم الأفطس ، قال : سألت سعيد بن جبير [ ص: 541 ] عن المستحاضة يجامعها زوجها ، قال : لا بأس به ; الصلاة أعظم من الجماع .

وممن رخص في ذلك ابن المسيب والحسن وعطاء وبكر المزني وعكرمة وقتادة ومكحول ، وهو قول الأوزاعي والثوري والليث وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور ، ورواية عن أحمد .

وقد تقدم أن أم حبيبة لما استحيضت كانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، وحمنة كانت تحت طلحة ، وقد سألتا النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم الاستحاضة ، فلم يذكر لهما تحريم الجماع . ولو كان حراما لبينه .

وفي ( سنن أبي داود ) عن عكرمة عن حمنة بنت جحش أنها كانت تستحاض ، وكان زوجها يجامعها . قال : وكانت أم حبيبة تستحاض وكان زوجها يغشاها . ولأن لها حكم الطاهرات في الصلاة والصوم وسائر العبادات ، فكذلك في الوطء .

وقالت طائفة : لا توطأ المستحاضة . وروي ذلك عن عائشة من رواية سفيان ، عن غيلان هو ابن جامع ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن الشعبي ، عن قمير امرأة مسروق ، عن عائشة - أنها كرهت أن يجامعها زوجها .

خرجه وكيع في ( كتابه ) ، عن سفيان - به .

ورواه [ شعبة ] عن عبد الملك بن ميسرة ، عن الشعبي . واختلف عليه فيه ; فوقفه بعض أصحاب شعبة عنه على الشعبي ، وأسنده بعضهم عنه إلى عائشة كما رواه غيلان . ذكر ذلك الإمام أحمد ، ولم يجعل ذلك علة في [ ص: 542 ] وصله إلى عائشة ، كما فعل البيهقي وغيره .

وممن نهى عن وطء المستحاضة ابن سيرين ، والشعبي ، والنخعي ، والحكم ، وسليمان بن يسار ، ومنصور ، والزهري . وروي أيضا عن الحسن ، وهو المشهور عن الإمام أحمد ، إلا أنه رخص فيه إذا خشي الزوج على نفسه العنت .

وبدون خوف العنت فهل النهي عنه للتحريم أو للكراهة ؟ حكى أصحابنا فيه روايتين عن أحمد ، ونقل ابن منصور وصالح عنه : لا يأتيها زوجها ، إلا أن يطول .

ولعله أراد أنه إذا طالت مدة الاستحاضة شق على الزوج حينئذ ترك الوطء ، فيصير وطؤه من خوف العنت ; فإن العنت يفسر بالمشقة والشدة .

وقد قال أحمد في رواية حرب : المستحاضة لا يغشاها زوجها إلا أن لا يصبر . وقال في رواية علي بن سعيد : لا يأتيها زوجها إلا أن يغلب ويجيء أمر شديد ، لا يصبر .

وقال أبو حفص البرمكي : معنى قول أحمد : ( لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ) - ليس مراده أنه يباح إذا طال ويمنع منه إذا قصر ، ولكن أراد : إذا طال علمت أيام حيضها من استحاضتها يقينا ، وهذا لا تعلمه إذا قصر ذلك .

وكذلك روى حرب عن إسحاق بن راهويه ، قال : الذي نختار في غشيان المستحاضة : إذا عرفت أيام أقرائها ، ثم استحيضت ، ولم يختلط عليها حيضها - أن يجامعها زوجها ، وتصلي وتصوم . وإذا اختلط عليها دم حيضها من استحاضتها ، فأخذت بالاحتياط في الصلاة بقول العلماء ، وتحرت أوقات [حيضها] من استحاضتها ، ولم تستيقن بذلك - أن لا يغشاها زوجها حتى تكون على يقين من استحاضتها .

[ ص: 543 ] فهذا قول ثالث في وطء المستحاضة ، وهو : إن تيقنت استحاضتها بتميزها من حيضها جاز وطؤها فيها ، وإن لم تكن على يقين من ذلك لم توطأ ; لاحتمال وطئها في حال حيضها .

ومذهب الشافعي وأصحابه أن المتحيرة الناسية لعادتها ولا تميز لها تغتسل لكل صلاة ، وتصلي أبدا ، ولا يأتيها زوجها ; لاحتمال مصادفته الحيض .

ونقض أصحابنا ذلك عليهم في المعتادة ، والمبتدأة بعد الشهر الأول ; فإن زيادة الحيض ونقصه ، وتقدمه وتأخره - ممكن أيضا .

واستدل من نهى عن وطء المستحاضة مطلقا بقول الله عز وجل : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ودم الاستحاضة أذى ; ولهذا حرم الوطء في الدبر ; لأنه محل الأذى .

وروى حرب بإسناد جيد عن مرثد بن عبد الله اليزني ، قال : سمعت عقبة بن عامر يقول : والله ، لا أجامع امرأتي في اليوم الذي تطهر فيه حتى يصير لها يوم . وهذا محمول على التنزه والاحتياط خشية عود دم الحيض . والله أعلم .

واختلفوا في الحائض المعتادة إذا طهرت لدون عادتها : هل يكره وطؤها ؟ أم لا ؟ على قولين :

أحدهما : يكره ، وهو قول أبي حنيفة ، والأوزاعي ، وأحمد في رواية ، وإسحاق ; لأن عود الدم لا يؤمن .

والثاني : لا يكره ، وهو قول الشافعي ، ورواية عن أحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية