صفحة جزء
337 [ ص: 63 ] 6 - باب

الصعيد الطيب وضوء المسلم، يكفيه من الماء

وقال الحسن: يجزئه التيمم ما لم يحدث.

وأم ابن عباس وهو متيمم.

وقال يحيى بن سعيد: لا بأس بالصلاة على السبخة والتيمم بها أو عليها.


ما بوب عليه البخاري من أن الصعيد الطيب وضوء المسلم: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إسناده ليس على شرط البخاري ، وقد خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي من حديث أبي قلابة ، عن عمرو بن بجدان ، عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الصعيد الطيب وضوء المسلم - وفي رواية: طهور المسلم - وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير .

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وخرجه ابن حبان في " صحيحه "، والدارقطني ، وصححه، والحاكم .

وتكلم فيه بعضهم ; لاختلاف وقع في تسمية شيخ أبي قلابة ; ولأن عمرو بن بجدان غير معروف -: قاله الإمام أحمد وغيره.

وقد روي هذا - أيضا - من حديث ابن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

خرجه الطبراني والبزار .

[ ص: 64 ] ولكن الصحيح عن ابن سيرين مرسلا -: قاله الدارقطني وغيره.

وأما ما حكاه عن الحسن ، أنه يجزئه التيمم ما لم يحدث ، فهذا قول كثير من العلماء، وحكاه ابن المنذر عن ابن المسيب ، والحسن ، والزهري ، والثوري ، وأصحاب الرأي، ويزيد بن هارون . قال: وروي ذلك عن ابن عباس ، وأبي جعفر .

وحكاه غير ابن المنذر - أيضا - عن عطاء ، والنخعي والحسن بن صالح ، والليث بن سعد ، وهو رواية عن أحمد ، وقول أهل الظاهر.

واستدل لهذه المقالة بحديث: الصعيد الطيب طهور المسلم ، كما أشار إليه البخاري ، وأشار إليه الإمام أحمد - أيضا.

والمخالفون يقولون: المراد أنه في حكم الوضوء والطهور في استباحة ما يستباح بالطهور بالماء لا في رفع الحدث، بدليل قوله: " فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك " ولو كان الحدث قد ارتفع لم يقيد بوجود الماء.

وقد طرد أبو سلمة بن عبد الرحمن قوله في أنه يرفع الحدث، فقال: يصلي به، وإن وجد الماء قبل الصلاة، ولا ينتقض تيممه إلا بحدث جديد. وكذا قال في الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء: لا غسل عليه.

وهذا شذوذ عن العلماء، ويرده قوله: " فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك " ومن العجب أن أبا سلمة ممن يقول: إن من صلى بالتيمم ثم وجد الماء في الوقت أنه يعيد الصلاة، وهذا تناقض فاحش.

وذهب أكثر العلماء إلى أنه يتيمم لكل صلاة، روي ذلك عن علي وابن عمر واستدل أحمد بقولهما، وعن عمرو بن العاص ، وابن عباس في [ ص: 65 ] رواية عنه.

وروى الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للصلاة الأخرى .

وهذا في حكم المرفوع، إلا أن الحسن بن عمارة ضعيف جدا.

وهو قول الشعبي ، وقتادة ، والنخعي ، ومكحول ، وشريك ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وحكي عن الليث - أيضا - وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد في ظاهر مذهبه، وإسحاق ، وأبي ثور وغيرهم.

وقال إسحاق : هذا هو السنة.

وبناه ربيعة ويحيى بن سعيد ومالك وأحمد على وجوب طلب الماء لكل صلاة، وقد سبقت الإشارة إلى هذه المسألة في " كتاب الوضوء ".

ثم اختلف القائلون بالتيمم لكل صلاة على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه يجب التيمم لكل صلاة مفروضة، سواء فعلت كل مفروضة في وقتها أو جمع بين فريضتين في وقت واحد، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق ، ورواية عن أحمد .

والثاني: أنه يجب التيمم في وقت كل صلاة مفروضة، ثم يصلي بذلك التيمم ما شاء، ويقضي به فوائت، ويجمع به فرائض، ويصلي به حتى يخرج ذلك الوقت، وهذا هو المشهور عن أحمد ، وقول أبي ثور والمزني .

والثالث: أنه يتيمم لكل صلاة فرضا كانت أو نفلا، حكي عن شريك ، وهو وجه ضعيف لأصحابنا.

ومذهب مالك : لا يصلي نافلة ومكتوبة بتيمم واحد إلا أن تكون نافلة [ ص: 66 ] بعد مكتوبة، قال: وإن صلى ركعتي الفجر بتيمم واحد أعاد التيمم لصلاة الفجر.

وقد ذهب طائفة ممن يرى أن التيمم يصلى به ما لم يحدث إلى أنه يرفع الحدث رفعا مؤقتا بوجود الماء، وهو قول طائفة من أصحابنا والحنفية والظاهرية، ووافقهم طائفة ممن يرى أن لا يصلى به فريضتان من الشافعية كابن سريج ، ومن المالكية، وقالوا: إنه ظاهر قول مالك في " الموطأ ".

ولهذا قيل: إن النزاع في هذه المسألة عند هؤلاء لفظي لا معنوي، وإنما يكون النزاع فيها معنويا مع أبي سلمة بن عبد الرحمن كما سبق حكاية قوله. والله أعلم.

وأما ما حكاه عن ابن عباس أنه أم وهو متيمم، فالمراد: أنه أم المتوضئين وهو متيمم، وقد حكاه الإمام أحمد عن ابن عباس أيضا، واحتج به.

وقد خرجه سعيد بن منصور : ثنا جرير بن عبد الحميد ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال: كان ابن عباس في نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منهم: عمار بن ياسر ، وكانوا يقدمونه يصلي بهم لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى بهم ذات يوم، فأخبرهم أنه صلى بهم وهو جنب متيمم.

ورخص في ذلك سعيد بن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، والزهري ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف ، وأبو ثور ، وهو رواية عن الأوزاعي .

وكره ذلك آخرون:

[ ص: 67 ] روى أبو إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، قال: لا يؤم المتيمم المتوضئ.

وكرهه النخعي ، والحسن بن حي ، والأوزاعي في رواية، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، ومحمد بن الحسن .

وعن الأوزاعي رواية: أنه لا يؤمهم إلا أن يكون أميرا، وإن كانوا متيممين فله أن يؤمهم، كذلك قال الأوزاعي وربيعة ويحيى بن سعيد .

وهذا لا أحسب فيه خلافا، وكلام ابن المنذر يدل على أنه محل خلاف - أيضا -وفيه نظر.

وفي المنع من إمامة المتيمم للمتوضئين حديثان مرفوعان من رواية عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، وإسنادهما لا يصح.

وفي الجواز حديث: صلاة عمرو بن العاص بأصحابه وهو جنب، فتيمم من البرد وصلى بهم وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكره البخاري فيما بعد - تعليقا - وسنذكره في موضعه - إن شاء الله تعالى.

وذكر البخاري لهذه المسألة في هذا الباب قد يشعر بأن مأخذ جواز ذلك عنده أن التيمم يرفع الحدث.

وقد قال الزهري : يؤم المتيمم المتوضئين ; لأن الله طهره.

وقال الأوزاعي - في رواية أبي إسحاق الفزاري ، عنه -: يؤمهم، ما زادته فريضة الله ورخصته إلا طهورا.

وأكثر العلماء لم يبنوا جواز إمامته على رفع حدثه، ولهذا أجاز ذلك كثير [ ص: 68 ] ممن يقول: إن التيمم لا يرفع الحدث كمالك والشافعي وأحمد ، لكن الإمام أحمد ذكر أن ما فعله ابن عباس يستدل به على أن طهارة التيمم كطهارة الماء يصلي بها ما لم يحدث. ولكن لا يختلف مذهبه في صحة ائتمام المتوضئ والمغتسل بالمتيمم ; فإن المتيمم يصلي بطهارة شرعية قائمة مقام الطهارة بالماء في الحكم، فهو كائتمام الغاسل لرجليه بالماسح لخفيه، بخلاف من لم يجد ماء ولا ترابا فإنه لا يأتم به متوضئ ولا متيمم، ولا يأتم به إلا من هو مثله ; لأنه لم يأت بطهارة شرعية بالكلية.

والمانعون من ائتمام المتوضئ بالمتيمم ألحقوه بائتمام القارئ بالأمي الذي لا يقرأ الفاتحة إذا صلى بتسبيح وذكر، وبصلاة القائم خلف القاعد ; فإن كلا منهما أتى ببدل، ولا يصح أن يأتم به إلا من هو مثله.

ويجاب عن ذلك: بأن الأمي مخل بركن القيام الأعظم وهو القراءة، والقرآن مقصود لذاته في الصلاة بخلاف الطهارة ; فإنها لا تراد لذاتها بل لغيرها، وهو استباحة الصلاة بها، والتيمم يبيح الصلاة كطهارة الماء.

وأما ائتمام القائم بالقاعد فقد أجازه جماعة من العلماء، وأجازه أحمد في صورة خاصة، فإن القاعد قد أتى ببدل القيام وهو الجلوس، وأتى بركن القيام الأعظم وهو القراءة.

وأما ما حكاه عن يحيى بن سعيد ، أنه لا بأس بالتيمم بالسبخة والصلاة عليها :

فالأرض السبخة هي المالحة التي لا تنبت، وأكثر العلماء على جواز التيمم بها، وقد تيمم النبي صلى الله عليه وسلم بالجدار خارج المدينة ، وأرض المدينة سبخة، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم.

[ ص: 69 ] وقال إسحاق : لا تيمم بالسباخ لأنها لا تنبت، وقد فسر ابن عباس الصعيد الطيب بأرض الحرث، والسباخ ليست كذلك.

واختلف قول الإمام أحمد فيه، فقال - في رواية -: لا يعجبني التيمم بها. وقال - مرة -: إن لم يجد فلا بأس. وقال - مرة -: إن تيمم منها يجزئه، وأرض الحرث أحب إلي. وقال - مرة -: إن اضطر إليها أجزأه، وإن لم يضطر فلينظر الموضع الطيب - يعني: تراب الحرث - وقال - مرة -: من الناس من يتوقى ذلك، وذلك أن السبخة تشبه الملح.

واستدل بقول ابن عباس : " أطيب الصعيد أرض الحرث ". ولكن هذا يدل على أن غير أرض الحرث تسمى صعيدا - أيضا - لكن أرض الحرث أطيب منها.

قال أبو بكر الخلال : السباخ ليس هي عند أبي عبد الله كأرض الحرث، إلا أنه سهل بها إذا اضطر إليها، وإنما سهل بها إذا كان لها غبار، فأما إن كانت قحلة كالملح فلا يتيمم بها أصلا.

وأما الصلاة في السباخ، فقال أحمد - مرة -: تجزئه، وقال - مرة -: ما سمعت فيها شيئا.

وقال حرب : قلت لأحمد : هل بلغك أن أحدا كره الصلاة في الأرض السبخة؟ قال: لا.

قال حرب : ثنا عبد الوهاب بن الضحاك : حدثني إسماعيل بن عياش ، قال: سمعت أناسا من أهل العلم يكرهون الصلاة في السباخ ، ورخص جماعة من أهل العلم في الصلاة في السباخ .

عبد الوهاب هذا، لا يعتمد عليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية