صفحة جزء
الحديث الأول:

قال:

370 377 - ثنا علي بن عبد الله: ثنا سفيان: ثنا أبو حازم: سألوا سهل بن سعد: من أي شيء المنبر؟ فقال: ما بقي في الناس أعلم به مني، هو من أثل الغابة، عمله فلان مولى فلانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عمل ووضع، فاستقبل القبلة، كبر وقام الناس خلفه فقرأ، وركع وركع الناس خلفه، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقرى حتى سجد بالأرض، فهذا شأنه.

قال أبو عبد الله: قال علي بن عبد الله المديني: سألني أحمد بن حنبل عن هذا الحديث، قال: فإنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث. قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرا، فلم تسمعه منه؟ قال: لا.


هذا الحديث بتمامه مشهور عن ابن عيينة بهذا الإسناد، رواه عنه الشافعي وغيره، ولم يسمع منه الإمام أحمد إلا: " كان من أثل الغابة " - يعني: منبر النبي صلى الله عليه وسلم - وقد خرج هذا القدر منه عن سفيان في " مسنده ". وكان سفيان يختصر الحديث أحيانا.

[ ص: 236 ] وإنما خرج أحمد بتمامه في " مسنده " من طريق عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه، عن سهل بن سعد ، وقال في آخر الحديث: فلما انصرف قال: " يا أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، وتعلموا صلاتي ".

وقد خرجه البخاري في موضع آخر من " كتابه "، ومسلم - أيضا - من حديث يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، بهذه الزيادة.

ومقصود البخاري بتخريج هذا الحديث هنا: الاستدلال على جواز الصلاة على ما يوضع على الأرض من منبر وما أشبهه كالسرير وغيره.

وما ذكره البخاري عن علي ابن المديني أن أحمد بن حنبل سأله عن هذا الحديث، وقال: إنما أردت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعلى من الناس، فلا بأس بأن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث.

فهذا غريب عن الإمام أحمد ، لا يعرف عنه إلا من هذا الوجه، وقد اعتمد عليه ابن حزم وغيره، فنقلوا عن أحمد الرخصة في علو الإمام على المأموم.

وهذا خلاف مذهبه المعروف عنه، الذي نقله عنه أصحابه في كتبهم، وذكره الخرقي ومن بعده، ونقله حنبل ويعقوب بن بختان ، عن أحمد ، أنه قال: لا يكون الإمام موضعه أرفع من موضع من خلفه، ولكن لا بأس أن يكون من خلفه أرفع.

وممن كره أن يكون موقف الإمام أعلى من المأموم: النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي .

وقد روي ذلك عن ابن مسعود من غير وجه أنه كرهه، ونهى عنه.

وخرج أبو داود من رواية الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام ، أن حذيفة [ ص: 237 ] أم الناس بالمدائن على دكان، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك - أو ينهى عن ذلك -؟ قال: قد ذكرت حين مددتني.

ومن رواية ابن جريج : أخبرني أبو خالد ، عن عدي بن ثابت ، قال: حدثني رجل، أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي، والناس أسفل، فتقدم حذيفة ، فأخذ على يديه، فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مقام أرفع من مقامهم " - أو نحو هذا؟ قال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي.

ورخص طائفة في ارتفاع الإمام على المأمومين.

وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أم الناس فوق كنيسة وهم تحتها.

وروي نحوه عن سحنون .

وأما مذهب الشافعي ، فإنه قال: أختار للإمام الذي يعلم من خلفه أن يصلي على الشيء المرتفع، ليراه من وراءه، فيقتدوا بركوعه وسجوده. قال: وإذا كان الإمام علم الناس مرة أحببت أن يصلي مستويا مع المأمومين ; لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على المنبر إلا مرة.

[ ص: 238 ] وكذا حكى ابن المنذر عن الشافعي جوازه إذا أراد تعليمهم، واختاره ابن المنذر ، وقال: إذا لم يرد التعليم فهو مكروه ; لحديث ابن مسعود .

ومن أصحابنا من حكى رواية عن أحمد كذلك.

والذين كرهوا ذلك مطلقا اختلفوا في الجواب عن حديث سهل بن سعد في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر:

فمنهم من قال: قد يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما هو مكروه لغيره لبيان جوازه، ولا يكون ذلك مكروها في حقه في تلك الحال، ويكره لغيره بكل حال.

وهذا ذكره طائفة من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره، ووقع في كلام الخطابي ما يشبهه.

ومنهم من قال: المكروه أن يقوم الإمام على مكان مرتفع على المأمومين ارتفاعا كذراع ونحوه، فإنه يحوج المأمومين في صلاتهم إلى رفع أبصارهم إليه للاقتداء به، وهو مكروه، فأما الارتفاع اليسير فغير مكروه، ويحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وقوفه على درجة المنبر الأولى، فلا يكون ذلك ارتفاعا كثيرا.

وتقدير الكثير بالذراع قول القاضي أبي يعلى من أصحابنا.

وقياس المذهب: أنه يرجع فيه إلى العرف.

وذكر الطحاوي - من الحنفية - أنه مقدر بما زاد على قامة الإنسان.

واستغرب ذلك أبو بكر الرازي .

واختلف القائلون بكراهة ذلك: هل تبطل به الصلاة أم لا؟

فقال أكثرهم: تكره الصلاة، ولا تبطل.

وقد تقدم أن الصحابة بنوا على الصلاة خلف من أمهم مرتفعا عليهم، ولم يستأنفوا الصلاة.

وقالت طائفة: تبطل الصلاة بذلك، وهو قول مالك وابن حامد من [ ص: 239 ] أصحابنا، وحكي عن الأوزاعي نحوه.

واختلف أصحابنا: هل النهي متوجه إلى الإمام أن يعلو على من خلفه، أم النهي متوجه إلى المأموم أن يقوم أسفل من إمامه؟ على وجهين:

أحدهما: أن النهي للإمام.

فإن قلنا: إن هذا النهي يبطل الصلاة، بطلت صلاة الإمام.

وهل تبطل صلاة من خلفه أم لا؟ فيه روايتان عن أحمد في صلاة من اقتدى بإمام، صلاته فاسدة.

والثاني: أن النهي متوجه إلى المأمومين خاصة.

فعلى هذا: إن كان الإمام في العلو وحده، وقلنا: هذا النهي يبطل الصلاة، بطلت صلاة المأمومين وصلاة الإمام ; لأنه صار منفردا، وقد نوى الإمامة، وهذا مبطل عند أصحابنا.

وإن كان معه في العلو أحد صحت صلاته وصلاة من معه، وفي صلاة من أسفل منهم الخلاف السابق.

واعلم ; أنه لم يقع في " صحيح البخاري " حكاية قول لأحمد في غير هذه المسألة، وهو خلاف مذهبه المعروف في كتب أصحابه، ولم أعلم أحدا منهم حكى ذلك عن أحمد ، إلا أن القاضي أبا يعلى حكاه في " كتاب الجامع الصغير " له وجها. والله أعلم.

وفي قول سهل بن سعد : " لم يبق أعلم بالمنبر مني ": دليل على أن من اختص بعلم، فإنه لا يكره له أن ينبه على اختصاصه به ; ليؤخذ عنه، وتتوفر الهمم على حفظه وضبطه عنه، وقد سبق في " كتاب العلم " شيء من ذلك.

وبقية فوائد الحديث تذكر في مواضع أخر - إن شاء الله تعالى.

[ ص: 240 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية